خطايا اتفاق باريس للمناخ بعد 8 سنوات من إقراره (مقال)
عبدالله النعيمي*
في عام 2015 وقّعت 196 دولة اتفاق باريس للمناخ بهدف الحدّ من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى ما دون 2 درجة مئوية، وكانت النية تتجه إلى 1.5 درجة مئوية، مقارنة بمستويات درجات الحرارة ما قبل الثورة الصناعية.
احتفل الناس في كل أنحاء العالم بهذا الاتفاق، وخصوصًا أولئك الذين ترقّبوا بحماسة لحظة توقيع الاتفاق بصفتها لحظة انتصار تاريخي في مكافحة التغيرات المناخية، وصدّقنا حقًا أن أزمة المناخ قد تمّ تجنُّبها أخيرًا، وأصبحت في تاريخ الماضي.
لكن يبقى السؤال الأهم بعد 8 سنوات من توقيع اتفاق باريس للمناخ: هل تحققت فعلًا أيّ خطوات لمواجهة أزمة تغير المناخ، وهل نحن بعيدون كل البعد عن أزمة مناخية تؤثّر في كل المناحي؟
بعد انقضاء 8 أعوام على توقيع الاتفاق، ما تزال الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري مرتفعة دون أيّ علامات على انخفاضها في المستقبل القريب، بل تشير آخر البيانات الصادرة من الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة إلى أن الكون في طريقه لارتفاع بدرجة الحرارة بين 2.4 - 2.6 درجة مئوية بحلول نهاية القرن.
وتشير بعض البيانات الأخرى إلى درجات حرارة أعلى من المعدل، كما أن معدلات إنتاج الوقود الأحفوري في تزايد مستمر، رغم تأثّر الطلب على الوقود خلال جائحةِ كوفيد 19، وتبقى تقديرات وكالة الطاقة الدولية للأعوام التالية لا تبشّر بانخفاض في الطلب على الوقود.
جدول مقارنة بين الطلب على الوقود الأحفوري قبل وبعد اعتماد اتفاقية باريس للمناخ 2015:
أين الخطأ؟
وصف المدير التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، سيمون ستيل، الوضع على أكمل وجه، عندما قال: "ما نزال بعيدين كل البعد عن مستوى ووتيرة خفض الانبعاثات المطلوبة لوضعنا على مسار 1.5 درجة مئوية".
إذن، أين أخطأ اتفاق باريس؟.. وهل كان اتفاق كيوتو الذي سبق اتفاق باريس أكثر فعالية؟.. وهل إلزام الدول، التي أسهمت بصناعتها في الاحتباس الحراري ورفع درجة حرارة الأرض ومناسيب البحار وذوبان الجليد والأعاصير والفيضانات التي نراها اليوم، والتزامها بمعدلات متَّفق عليها سيكون أكثر فعالية في تجنّب الاحتباس الحراري والخفض من درجات الحرارة في هذا الكون؟.. وهل كان يجب فعل شيء يكون مختلفًا ليصبح الاتفاق أداة فعالة يمكنها منح العالم مستقبلًا آمنًا من منظور مناخي، وقادرًا على الاستدامة؟
كان انسحاب الولايات المتحدة -ثاني أكبر دولة في العالم من حيث الإسهام في الغازات المسببة للاحتباس الحراري- ووقوف العالم بأكمله متفرجًا وعاجزًا حتى عن إقرار متطلبات اتفاق باريس، مؤشرًا بأن هناك ما لم يُتَدارَك في مرحلة الإعداد للاتفاق.
ولم يكن لهذه الاتفاقية القدرة على إلزام الدول على الذهاب أبعد مما تراه مناسبًا لها ولسياساتها الداخلية من حيث الاحتباس الحراري ومن حيث الانبعاثات المسببة له من غازات الدفيئة.
وأصبح التركيز المتزايد على غاز ثاني أكسيد الكربون السمة التي دائمًا ما نراها في اتفاق باريس، في حين وجب التركيز فيه على جميع الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وفي تغيير درجة حرارة الكون.. فالاستناد وبشكل رئيس على تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050 وتجاهل الغازات الأكثر تأثيرا والأشدّ قدرة على رفع درجة حرارة الكون يعدّ أمرًا بعيدًا عن المنطق.
وهناك غازات يزداد استعمالها بشكل كبير مثل غاز الهيدرو فلورو كربون (HFCs)، الذي لا يزال استعماله في التبريد والتكييف وفي محطات التدفئة بتزايد سنوي يقارب الـ 10%.
لا أريد أن أكون متشائمًا، ولكن التقارير الرسمية للإسهامات المحددة وطنيًا على مستوى العالم تشير إلى أن مسار ارتفاع درجة حرارة الكون يبتعد عن المحدد بـ 1.5 درجة مئوية.
إذ يشير التقرير الصادر عام 2021 أن البيانات المتوفرة ستؤدي إلى ارتفاع كبير في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في جميع أنحاء العالم بنسبة 16% في عام 2030 مقارنة بعام 2010، هذا الارتفاع بهذه الوتيرة يؤشر إلى درجة حرارة 2.7 درجة مئوية بحلول نهاية القرن.
كوب 28
لا شك أن النتائج التي ستقدّم خلال انعقاد اجتماعات ومؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في الإمارات العربية المتحدة ما بين 30 نوفمبر/تشرين الثاني و12 ديسمبر/كانون الأول 2023 (cop28) ستوفر تفاصيل أكثر دقة وأعمّ شمولًا.
كما ستستخلص العبر من نتائج الإسهامات المحددة وطنيًا لصناعة السياسات المستقبلية واتخاذ القرارات المبنية على نتائج هذه المحددات لدعم الدول المتضررة من الاحتباس الحراري، وهي تلك الدول الأقلّ حظًا في التنمية والأكثر احتمالًا للتأثّر، والتي تتمركز في الدول الإفريقية والعديد من الدول الآسيوية التي لم تنل من اتفاق باريس سوى الوعود بأن الدول الصناعية سوف تدعم مباشرةً صندوق التخفيف والتكيف الذي بدوره سوف يعين الدول المستفيدة منه للخروج من التأثيرات البيئية القاسية.
ويبذل القائمون على قمة المناخ كوب 28 في الإمارات جهودًا كبيرة من تهيئة المناخ المناسب لغرض استعراض الإصلاحات الوطنية وإحصاء الانبعاثات المقدّمة من الدول المختلفة، فضلًا عن دعم لا محدود تقدّمه الدولة المنظمة لـ cop28، آخره ما أُعلن من دعم لتعزيز قدرات أفريقيا في مجال الطاقة النظيفة، وتمويل طوعي في مجال التخفيف والتكيف بمبلغ 4.5 مليار دولار، يسهم في دعم عجلة التنمية بعيدًا عن الانبعاثات الكربونية.
ورغم كل ذلك، قد لا يكون اتفاق باريس الأداة القوية القادرة على كبح ومواجهة التهديدات المناخية، ولكنه يبقى التزامًا وإن كان ضعيفًا بين الدول التي أسهمت في التأسيس للاتفاقية والبعد عن اتفاقية كيوتو اليابانية.
ولا بد من الإشارة بأن هذه الاتفاقية أعطت الشعور بالمسؤولية تجاه الأجيال المستقبلية من أجل حياة أفضل على هذه الأرض، مركزةً على أن يكون للشباب دورهم في الإسهام في مستقبل هذا الكوكب، وتقدّم الاجتماعات والإسهامات المجتمعية التي ترافق مؤتمر الأطراف المتعددة العنوان الأكبر والدافع الأهم لتغيير مسار الحياة.
في المقابل، هناك العديد من المآخذ التي تجعل هذه الاتفاقية (برتوكولًا) هشًا يخلق مجموعة مختلفة من القواعد لكل دولة، مما قد يؤدي إلى عدم التوافق والنقص في المساءلة، إذ إن بعض الدول لديها أهداف أكثر طموحًا من غيرها، والأخرى تمتلك مرونة أكبر في كيفية القياس والإبلاغ عن معدلات الانبعاثات.
تعدّ فجوة الانبعاثات بعد عام 2030 كبيرة، ولا تكفي التعهدات الحالية التي قدّمتها الدول بموجب اتفاق باريس للحدّ من ارتفاع درجة حرارة الكون إلى ما دون ٢ درجة مئوية، ناهيك عن 1.5 درجة مئوية.
الإنفوغرافيك التالي يستعرض أبرز المعلومات حول اتفاق باريس للمناخ:
خفض الانبعاثات
يحتاج العالم إلى خفض الانبعاثات بنسبة 45% بحلول عام 2030 ، والوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050، لتحقيق هدف الحد من تجاوز 1.5 درجة مئوية.
ومع ذلك، ستؤدي التعهدات الحالية في أفضل احتمالاتها إلى خفض معدل الانبعاثات بنسبة لا تتجاوز 1% بحلول عام 2030 مقارنة بمستويات 2010، خصوصًا أن الطاقة البديلة لم تتمكن خلال الـ10 سنوات الماضية من توفير أكثر من 3% من احتياجات العالم للطاقة.
هذا يعني أن هناك فجوة ما بين متطلبات اتفاق باريس وما تحقَّق فعلًا منها، الأمر الذي سيتطلب المزيد من الإجراءات الصعبة والمكلفة في المستقبل القريب.
ولا بد من الإشارة هنا بأن العالم لا يعرف كم الكمية المطلوب خفضها من الكربون والانبعاثات الأخرى، كي يتمكن العالم من تحقيق نتائج إيجابية، إذ لم يحدد اتفاق باريس ميزانية كربونية واضحة، بمعنى كمية غازات الدفيئة التي لا بد منها خلال العمر المتبقي للطاقة الاحفورية لتشغيل وديمومة الصناعات القائمة، وما يُبنى عليها في المستقبل.
وارتبط اتفاق باريس بتكلفة هائلة لإقرارها في عام 2015، ويتطلب الاتفاق موارد مالية هائلة، ليس فقط لتنفيذ التدابير التخفيفية والقدرة على التكيف، بل تطلَّب الاتفاق بدءًا من عام 2020 تقديم 100 مليار دولار سنوي لدعم الدول الأقلّ حظًا في التنمية والإسهام في الرفع من قدراتها، ومن الواضح أن هذه المبالغ لم تُوَفَّر، وليس هناك آلية واضحة في تتبُّع هذا التمويل.
كما سيؤثّر الحدّ من الاعتماد على الوقود الأحفوري في أسعار الطاقة، ويؤثّر سلبًا في النمو الاقتصادي والقدرة التنافسية ومستوى المعيشة، خصوصًا في الدول النامية والأفراد والأسر ذات الدخل المنخفض.
كل هذا بجانب التغيير في سوق العمل، بحساب أن هناك وظائف سوف تختفي، ومهنًا سوف يطالها الكساد، ولم يوفر اتفاق باريس تعويضًا للمجتمعات المتعثرة المتأثرة بهذا التغيير.
وبعد مرور أكثر من 8 سنوات على اتفاق باريس يكثر الأخذ والعطاء في أن يكون هذا الاتفاق اتفاقية شاملة وقادرة على الصمود أمام التحديات المناخية والسياسية والاجتماعية والبيئية.
يعيش العالم في حيرة من أمره، وتتزايد الحيرة كلما أظهرت النتائج الأممية عدم قدرة المجتمع الدولي على كبح تأثير التطرف المناخي والغموض في قدرة بدائل الطاقة الأحفورية من سدّ الفجوة وتوفير البديل المستدام، إذ عجز اتفاق باريس عن توفير الإيضاحات الكافية لجعل حلول بدائل الطاقة واضحة المعالم، وقادرة على الإسهام في صناعة المستقبل وديمومته.
* الدكتور عبدالله بلحيف النعيمي وزير التغير المناخي والبيئة الإماراتي السابق.
* هذا المقال يمثّل رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- مسار كارثي ينتظر العالم بسبب تغير المناخ.. التمويل لن يحل الأزمة (مقال)
- انبعاثات الوقود الأحفوري.. ثروة مهدرة قد تنقذ الإنسانية (مقال)
- الهيدروجين ليس وقودًا نظيفًا.. وتأثيراته في البيئة كارثية (مقال)
اقرأ أيضًا..
- عائدات ناقلات النفط الأميركية ترتفع بدعم من الخفض الطوعي السعودي
- قطاع الغاز في إسرائيل ومصر يشهد نشاطًا مكثفًا من شركة بريطانية
- قانون جديد للكهرباء في الجزائر قد يكتب نهاية عصر دعم الطاقة (خاص)