اتفاق باريس ومصطلحات خفض الانبعاثات.. هدف مشترك ودلائل مختلفة (مقال)
الدكتور عبدالله النعيمي*
كان اتفاق باريس لعام 2015 بمثابة إنجاز تاريخي في المكافحة العالمية ضد التغير المناخي، إذ وافقت 197 دولة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ على الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى أقل بكثير من درجتيْن مئويتيْن، ويُفضّل 1.5 درجة مئوية، مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة.
ومع ذلك، فإن النص الأصلي للاتفاقية لم يستعمل مصطلحات "صافي الانبعاثات الصفري"، أو "الحياد الكربوني الصفري"، أو "الحياد المناخي"، التي غالبًا ما تُستعمل بصورة متبادلة في الخطاب المناخي.
والواقع أن هذه المصطلحات تتقاطع في هدف مشترك يتمثل في الحد من انبعاثات غازات الدفيئة، إلا أنها تحمل اختلافات دقيقة في المعنى والنطاق الأوسع.
التباين بين المصطلحات
يشمل مصطلح "صافي الانبعاثات الصفري" تحقيق التوازن بين انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة وتلك التي أُزيلت من الغلاف الجوي، ويشمل جميع غازات الدفيئة، وليس ثاني أكسيد الكربون فقط. وهو ينص على خفض شامل للانبعاثات من مصدرها، إلى جانب استخراج أي انبعاثات متبقية عبر الوسائل الطبيعية أو التكنولوجية. ويتوافق هذا النهج مع تطلعات اتفاق باريس، ما يجعله هدفًا مهمًا جدًا لجهود الشركات في مجال المناخ.
في المقابل، يركز "الحياد الكربوني" على موازنة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي تنتجها منشأة أو منتج أو خدمة، من خلال تأمين تخفيضات أو عمليات إزالة ثاني أكسيد الكربون المكافئ في مكان آخر. فهو معنيّ أكثر بما يخص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون دون النظر إلى انبعاثات غازات الدفيئة الأخرى، ولا يتطلب بالضرورة خفض الانبعاثات من مصدرها.
ويمكن تحقيق الحياد الكربوني من خلال الاستثمارات في مصارف الكربون مثل الغابات أو المحيطات، أو من خلال أي وسيلة في تخفيض انبعاثات الكربون، بما في ذلك مشروعات الطاقة المتجددة أو برامج خفض الانبعاثات. وغالبًا ما تتبنّى الشركات هذا النهج لإظهار التزامها البيئي، على الرغم من أنه قد لا يتمكّن من الحد بصورة فاعلة من ظاهرة الاحتباس الحراري عند 1.5 درجة مئوية فضلًا عن درجتين مئويتين.
وعلى عكس هذا، فإن "الحياد المناخي" يوازي الحياد الكربوني، ولكن نطاقه يمتد ليشمل جميع أنواع غازات الدفيئة، ولا يقتصر على ثاني أكسيد الكربون في سبيل تحقيق الحياد المناخي، وهذا يشتمل على أي منشأة لا تمارس أي تأثير صافي الانبعاثات على النظام المناخي، إما عن طريق خفض الانبعاثات الصفري، أو تعويض الانبعاثات من خلال عمليات الإزالة أو التخفيض في أماكن أخرى.
إن التقنيات المنخفضة الكربون، مثل الطاقة المتجددة أو السيارات الكهربائية، ودعم المبادرات المناخية، بما في ذلك مشروعات التكيف والمرونة أو حملات العدالة المناخية، هي جهود لتحقيق الحياد المناخي. ويمثّل هذا المفهوم الأسلوب الأمثل للحكومات والمنظمات البيئية لتجسيد تفانيها وقيادتها لجهود مواجهة التغير المناخي.
تحقيق التوازن بين الانبعاثات
في مقدمة اتفاق باريس، حدد تقرير التقييم الخامس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في عام 2014 الكمية المسموح بها من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المتوافقة مع الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى مستويات محددة.
وبينما حثّت هذه الاتفاقية التاريخية الدول على "تحقيق التوازن بين الانبعاثات البشرية المنشأ من المصادر وعمليات الإزالة عن طريق مصارف غازات الدفيئة في النصف الثاني من هذا القرن"، إلا أنها أهملت التحديد الواضح لكمية مكافئات ثاني أكسيد الكربون التي ينبغي إزالتها.
إن تحقيق التوازن المذكور في اتفاقية باريس يعكس مبادئ صافي الانبعاثات الصفرية والحياد الكربوني، على الرغم من عدم استعمال المصطلحات كما يجري تداولها اليوم.
يدمج مصطلح "صافي الانبعاثات الصفري" بين مجموعة من الالتزامات والمبادرات الموجهة نحو تحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، بما يتماشى مع هدف اتفاق باريس للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية أو درجتيْن مئويتيْن. ويتوقف الأمر على الحفاظ على التوازن بين انبعاثات غازات الدفيئة وإزالتها من الغلاف الجوي عبر الوسائل الطبيعية أو التقنيّة، مثل التشجير، أو إعادة التشجير، أو احتجاز الكربون وتخزينه.
قبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للأطراف بشأن تغير المناخ كوب 26 (COP26) في غلاسكو، في المملكة المتحدة، خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2021، نظّمت الأمم المتحدة حملة "السباق من أجل صافي الانبعاثات الصفري"، لالتماس الدعم والقيادة من قطاعات متنوعة، بمن في ذلك الشركات والمدن والمناطق والمستثمرون والمؤسسات التعليمية.
وبدءًا من سبتمبر/أيلول 2021، أعربت أكثر من 120 دولة عن عزمها تحقيق صافي الانبعاثات الصِفري بحلول عام 2050 أو قبل ذلك، مع انضمام أكثر من 3 آلاف جهة فاعلة غير حكومية تشكل أكثر من 15% من الاقتصاد العالمي، إلى هذه الحملة. ومع ذلك، ما تزال هناك فجوة بين الإجراءات والالتزامات السائدة والمستوى المطلوب من التطلع للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي ضمن الحدود المنصوص عليها.
وعلى الرغم من المزايا المحتملة لسياسات صافي الانبعاثات الصفري، التي تشمل تحسين الصحة العامة، وتعزيز أمن الطاقة، وإيجاد آفاق اقتصادية جديدة، فإن هذه السياسات ظلت -حتى الآن- بعيدة عن تحقيق تطلعات اتفاق باريس، وخلافًا لمفهوم بروتوكول كيوتو الخاص بالحياد الكربوني، الذي قدم أهدافًا ملزمة لخفض الانبعاثات، وآليات مثل مقايضة الانبعاثات وتعويض الكربون بالنسبة للدول المتقدمة، الأمر الذي أدى إلى خفض معدلات الانبعاثات الكربونية للمدة ما بين 2008-2012 بنسبة 17% مقارنة بعام 1990.
وسوف نخصص لمقارنة الاتفاقيات التي تُعنى بالمناخ مقالاً منفصلًا.
ويبيّن الجدول التالي -الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة- مدى التزام الدول الصناعية ذات الانبعاثات الكبرى بخفض الانبعاثات بمقتضى بروتوكول كيوتو:
لا بد من الإشارة إلى أن صافي الانبعاثات الصفرية يفتقر إلى التدابير الملزمة، وقد أعلنت العديد من الدول نياتها للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية، لكنها لم تحدد بعد خطط التنفيذ الشاملة. وقد سنّت بعضها قوانين تقضي بخفض الانبعاثات إلى الصفر دون تحديد إستراتيجية التنفيذ.
طريق غير واضح
ما يزال الطريق إلى صافي الانبعاثات غير واضح، ما يستلزم تعديل العديد من الدول أهدافها، كما يتضح من الإعلان الأخير الصادر عن رئيس وزراء المملكة المتحدة، الذي يقضي بتمديد هدف عام 2030 لمبيعات السيارات الخالية من الانبعاثات (ZEV) حتى عام 2035.
ومن المؤسف أن سياسات صافي الانبعاثات الصفري الحالية تعاني أوجه قصور متعددة، وفي حين يقدم صافي الانبعاثات الصفري شعارًا وهدفًا مقنعين، فإن تحقيقه يتطلب تحولًا معقدًا وغير قابل للتنبؤ به، وقد يظل بعيد المنال في غياب خطة انتقالية منسقة ترتكز على البحوث والاستثمارات والسياسات والقواعد التنظيمية.
يأتي ذلك بالإضافة إلى أن تداعيات سياسات صافي الانبعاثات الصفري غير متماثلة، وتواجه عقبات فنية واقتصادية واجتماعية.
إن تحقيق صافي الانبعاثات الصِفري سوف يستلزم نشر التقنيات منخفضة الكربون على نطاق واسع، وكلها تواجه عقبات مثل ندرة المعادن والتكاليف الباهظة.
علاوة على ذلك، فإن تحقيق صافي الانبعاثات الصِفري يستلزم إجراء تغييرات جوهرية في السلوك والمؤسسات والحوكمة على جميع المستويات، وهو إنجاز شاق ضمن إطار زمني محدود، ويتسم بالمقاومة من قِبَل المصالح الراسخة، والجمود، وعدم كفاية الوعي. كما أن سياسات صافي الانبعاثات الصفرية -في حد ذاتها- لا تشكل علاجًا سحريًا لمعالجة أزمة المناخ، ما يستلزم التصميم والتنفيذ الدقيقين لضمان الفاعلية والمصداقية والعدالة والجدوى.
لا بد أن تكون السياسات القائمة مكملة للسياسات والتدابير الأخرى التي تعالج الأسباب الجذرية لتغير المناخ وعواقبه، مع الاعتراف بحدود المعرفة الحالية ومصادر غازات الدفيئة الناشئة.
هل يمكن وقف ظاهرة الاحتباس الحراري؟
في أكتوبر/تشرين الأول 2021 جمع منتدى التغيير العالمي لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا خبراء من قطاعات وتخصصات متنوعة، إذ تناولوا موضوعات مثل: ميزانيات الكربون، وإزالة الكربون من الطاقة والصناعة، والحلول القائمة على الطبيعة، والمناخ والصحة، وتقنيات الانبعاثات السلبية، وتخطيط السياسات.
لقد استخلص المنتدى الحاجة الملحة إلى وضع نماذج متعمقة للتفاعلات المعقدة بين النظم البشرية والطبيعية، مع التركيز على التعاون والابتكار بين جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومات والمؤسسات الدولية.
ودعا الخبراء إلى اتخاذ إجراءات غير مسبوقة وفورية من جميع الجهات لتحويل صافي الانبعاثات الصفرية من التطلعات إلى الواقع.
ومع ذلك، فإن الواقع هو أن درجة حرارة الأرض قد ارتفعت بالفعل بنحو درجة مئوية واحدة مقارنة بعصر ما قبل الصناعة. كما أن السياسات الحالية ليست كافية لمنع مزيد من الاحتباس الحراري، ويجب دعمها مزيدًا من الإجراءات والتدابير.
إن التنبؤ بالانبعاثات ودرجات الحرارة المستقبلية أمر غير مؤكد وغير موثوق به، لأن الغلاف الجوي تأثر بالانبعاثات الماضية لمدة طويلة، ولذلك فإن وقف ظاهرة الاحتباس الحراري بالوتيرة القائمة يكاد يكون ضربًا من المستحيل.
* الدكتور عبدالله بلحيف النعيمي وزير التغير المناخي والبيئة الإماراتي السابق.
* هذا المقال يمثّل رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
اقرأ أيضًا..
- أوروبا تحدد انبعاثات غاز الميثان بحلول 2030.. والجزائر وأميركا أبرز المتضررين
- سيمنس إنرجي تخسر 5 مليارات دولار بعد أزمة عيوب توربينات الرياح
- أنس الحجي: فشل مزارع الرياح البحرية صفعة لـ"بايدن".. والفحم والغاز رابحان
شكرا د. عبدالله على المقال المثري...
أود الإشارة إلى امكانية دراسة استغلال الطاقة الكهرومغناطيسية كما هو معمول به في بعض الدول