أسواق الكربون.. أداة عالمية لتحفيز التحول الأخضر (مقال)
هبة محمد إمام
تُعدّ أسواق الكربون آلية مهمة للتعامل مع قضية تغير المناخ والحد من الانبعاثات الكربونية، إذ تأسست وظهرت للمرة الأولى في نهاية القرن العشرين.
وتطورت تلك الأسواق وتنوعت على مر السنوات، لتصبح واحدة من أهم الأدوات في مجال الحفاظ على البيئة وتحقيق الاستدامة ودعم جهود الدول للتحول الأخضر وتحقيق الحياد الكربوني.
وتعمل أسواق الكربون على تحفيز الشركات والصناعات على تبني تقنيات أكثر نظافة وتحقيق تخفيضات في انبعاثات الكربون، ومن خلال تحفيز الاستثمار في المشروعات البيئية المستدامة.
ما هي أسواق الكربون؟
نشأت أسواق الكربون نتيجة اتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخي في عام 1992، إذ وُضع إطار للعمل الدولي للتعامل مع تحديات التغير المناخي، وفي عام 1997، تم تبني بروتوكول كيوتو الذي حدد أهدافًا للدول للحد من انبعاثات غازات الدفيئة، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، طُوّر نظام لتداول حقوق انبعاثات الكربون.
ويعتمد نظام هذه الأسواق على مفهوم "حقوق الانبعاثات المتاحة"، إذ يجري تخصيص حصص محددة من الانبعاثات الكربونية لكل دولة أو منظمة، ويمكن للدول أو المؤسسات التي تتجاوز حصتها المحددة شراء حصص إضافية من الدول أو المؤسسات التي لديها فائض من حقوق الانبعاثات. وفي المقابل، يمكن للدول أو المؤسسات التي تحقق تخفيضات في انبعاثاتها أن تبيع حصصها الزائدة للدول أو المؤسسات الأخرى التي تحتاج إليها.
وتعمل أسواق الكربون على تحفيز الشركات والصناعات على الابتكار والتحول إلى تقنيات أكثر نظافة واستدامة، فعندما تتجاوز الشركة حصتها المحددة من انبعاثات الكربون، يجب عليها شراء حقوق انبعاثات إضافية أو تحسين كفاءتها البيئية للحد من انبعاثاتها.
وتشجع الأسواق الشركات على تبني تقنيات جديدة وتحسين عملياتها الإنتاجية، إذ تكون أكثر استدامة وتقلل من الانبعاثات الضارة.
وتؤدي أسواق الكربون -أيضًا- دورًا مهمًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فبجانب الحد من انبعاثات الكربون، يمكن للمشروعات البيئية المستدامة أن تحصل على ريع من بيع حقوق انبعاثات الكربون الزائدة، ما يعزّز التنمية المستدامة ويُسهم في دعم الاقتصاد الأخضر وخلق فرص عمل جديدة في قطاعات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة.
خفض البصمة الكربونية
توجد العديد من الأمثلة على نجاح أسواق الكربون في تقليل البصمة الكربونية والحد من التغيرات المناخية، على سبيل المثال، يُعد الاتحاد الأوروبي واحدًا من أكبر الأسواق لتداول حقوق الانبعاثات، إذ يعزز الاستعمال المستدام للطاقة ويشجع على تبني تقنيات الطاقة المتجددة في الصناعات المختلفة، أظهرت الدراسات أن هذه السياسة قد أسهمت في تحقيق تخفيضات كبيرة في انبعاثات الكربون في أوروبا.
بالإضافة إلى ذلك، أُنشئت سوق الكربون في الصين عام 2017، وتُعد أكبر سوق لتداول حقوق الانبعاثات في العالم، إذ تهدف بكين إلى تحقيق أهدافها في الحد من الانبعاثات الكربونية عن طريق تشجيع الشركات على تحسين كفاءتها البيئية وتبني التكنولوجيا النظيفة.
ومن المتوقع أن تؤدي سوق الكربون في الصين دورًا مهمًا في تحقيق أهداف البلاد بمجال الاستدامة.
دول نجحت في تطبيق أسواق الكربون
الاتحاد الأوروبي:
يُعد نظام التجارة بالانبعاثات في الاتحاد الأوروبي (EU ETS) أكبر سوق للكربون في العالم، إذ بدأ هذا النظام عام 2005 ويشمل أكثر من 11 ألف منشأة في القطاعات الصناعية والطاقة.
ونجحت الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي في تقليل انبعاثات الكربون بنسبة تفوق 20% بحلول عام 2020 بفضل هذا النظام.
نيوزيلندا
تطبق نيوزيلندا نظام تجارة الانبعاثات منذ عام 2008، يشمل النظام القطاعات الصناعية والطاقة والنقل والزراعة.
وتم تحقيق خفض ملحوظ في انبعاثات الكربون من خلال هذا النظام وتحفيز الابتكار في قطاعات الطاقة المتجددة، ويمكنك زيارة الموقع الرسمي لسوق الكربون في نيوزيلندا للحصول على مزيد من المعلومات حول كيفية عملها والقواعد واللوائح المطبقة.
يمكنك العثور على المزيد من المعلومات على الرابط التالي اضغط هنا
الولايات المتحدة
أطلقت ولاية كاليفورنيا الأميركية نظام تجارة الانبعاثات في عام 2013، ويشمل النظام قطاعات الطاقة والنقل والتصنيع والزراعة.
وحققت كاليفورنيا تقدمًا ملحوظًا في تحقيق أهدافها بتقليل الانبعاثات الكربونية وتعزيز استدامة الطاقة.
يمكنك زيارة الموقع الرسمي لسوق الكربون في كاليفورنيا، للحصول على معلومات حول كيفية عملها والقواعد واللوائح المطبقة. يمكنك العثور على المزيد من المعلومات على الرابط التالي من هنا
أستراليا
أطلقت أستراليا سوق الكربون في عام 2012، ولكن أُلغي النظام في عام 2014، وحل محله نظام مكافحة التلوث الأكثر تلوثاً ومع ذلك، فإن تطبيق نظام الكربون السابق في أستراليا قد أسهم في تحقيق تقدم ملحوظ في تقليل انبعاثات الكربون.
يمكنك زيارة الموقع الرسمي لسوق الكربون في أستراليا، للحصول على مزيد من المعلومات حول كيفية عملها والقواعد واللوائح المطبقة، لمزيد من المعلومات من هنا
هناك أسواق أخرى في الشرق الأوسط تعتمد نظام الكربون. وهذه بعض الأمثلة:
الإمارات
أعلنت الإمارات العربية المتحدة في عام 2019 إطلاق سوق الكربون في دبي، وهي الأولى من نوعها في المنطقة، إذ تهدف هذه السوق إلى تحقيق تخفيضات في انبعاثات الكربون من قبل الشركات والمؤسسات في دبي.
وتشمل السوق أنظمة لتداول حقوق الانبعاثات وأدوات أخرى لتشجيع الاستدامة وتعزيز الابتكار في مجال الطاقة.
قطر
أعلنت قطر عام 2017 إطلاق سوق الكربون في البلاد، التي تهدف إلى تحقيق تخفيضات في انبعاثات الكربون من قبل الشركات والمؤسسات.
وتعتمد هذه السوق على نظام حقوق الانبعاثات، وتتطلع إلى تعزيز الاستدامة البيئية وتنويع قطاع الطاقة في قطر.
الأردن
أعلن الأردن في عام 2020 إطلاق سوق الكربون في المملكة، إذ تهدف هذه السوق إلى تشجيع الشركات والمؤسسات على تخفيض انبعاثاتها الكربونية وتعزيز الاستدامة البيئية.
وتشتمل السوق على نظام حقوق الانبعاثات وآليات أخرى لتعزيز الاستدامة ودعم التنمية الاقتصادية المستدامة في الأردن.
هذه مجرد بعض الأمثلة لأسواق الكربون في العالم، وهناك المزيد من الدول والمناطق التي تعتمد هذه الآلية للتعامل مع قضايا التغير المناخي وتقليل الانبعاثات الكربونية.
وتوجد أيضًا تجارب ناجحة في العديد من الدول الأخرى مثل كندا وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية، إذ يعتمد النجاح على القدرة على تصميم نظام فعال ومناسب للظروف المحلية وتوفر الإرادة السياسية والتزام الشركات والمؤسسات بتحقيق الأهداف البيئية والاقتصادية. كلٌّ من هذه الأسواق تعمل بطرق مختلفة وتستهدف قطاعات مختلفة، ولكن الهدف المشترك هو تحقيق الاستدامة البيئية وتقليل البصمة الكربونية.
فوائد أسواق الكربون
توفر أسواق الكربون فوائد اقتصادية وبيئية مهمة، ويمكن رصد بعض الجوانب الرئيسة للجدوى الاقتصادية والبيئية لأسواق الكربون في التالي:
1- الجدوى الاقتصادية:
- تشجيع الابتكار والتكنولوجيا النظيفة: يعمل نظام الكربون على تشجيع الشركات والمؤسسات على ابتكار حلول جديدة وتكنولوجيا نظيفة لتقليل انبعاثات الكربون، ما يعزز الابتكار ويسهم في التحول إلى اقتصاد أكثر استدامة.
- توفير فرص العمل والنمو الاقتصادي: يمكن أن يؤدي تطبيق نظام الكربون إلى إنشاء فرص عمل جديدة في قطاعات مثل الطاقة المتجددة وتقنيات الحد من الانبعاثات، كما يمكن أن يُسهم في تعزيز النمو الاقتصادي من خلال تطوير قطاعات جديدة وزيادة الاستثمار في الابتكار البيئي.
2- الجدوى البيئية:
- تقليل انبعاثات غازات الدفيئة: يهدف نظام الكربون إلى تحفيز الشركات والمؤسسات على تقليل انبعاثات غازات الدفيئة، وبالتالي، يمكن أن يُسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية والحد من التغير المناخي وظروف البيئة السلبية المترتبة على ذلك.
- تعزيز استدامة الموارد الطبيعية: عندما يجري تقليل انبعاثات الكربون، فإنه يُسهم في تخفيض الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية، وبالتالي يحافظ على الموارد الطبيعية ويحمي البيئة الطبيعية.
- تعزيز استدامة الطاقة: يشجع نظام الكربون على استعمال مصادر الطاقة المتجددة وتحفيز تنويع مصادر الطاقة، ما يعزز استدامة الطاقة ويقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
باختصار، تُعد أسواق الكربون آلية فعالة لتحقيق الاستدامة الاقتصادية والبيئية، إذ تعمل على تحفيز الابتكار وتقليل انبعاثات الكربون وتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة.
عوامل نجاح أسواق الكربون
يعتمد تصميم نظام فعال لأسواق الكربون على عدة عوامل مهمة، يمكن رصدها في التالي:
- هدف واضح وقابل للقياس: يجب أن يحدد النظام هدفًا واضحًا لتقليل انبعاثات الكربون وتحقيق استدامة البيئة، إذ يجب أن يكون الهدف قابلًا للقياس ويمكن تتبع تقدمه بصورة فعالة.
- تحديد الحد الأقصى للانبعاثات: يجب تحديد حد أقصى للانبعاثات المسموح بها لكل مشارك في النظام، وذلك للحد من الانبعاثات بصفة فعالة، ويجري تخصيص وحدات تداول (مثل الرخص أو الوحدات القابلة للتداول) للشركات والمؤسسات وتُعد هذه الوحدات مثل الحدود القانونية لانبعاثاتهم.
- الاستقرار والثبات: يجب أن يكون النظام مستقرًا وثابتًا لضمان ثقة المشاركين واستدامة السوق، إذ يجب تجنب التقلبات الكبيرة في أسعار وحدات التداول وضمان استمرارية النظام على المدى الطويل.
- الشمولية: يجب أن يشمل النظام جميع القطاعات الاقتصادية الرئيسة التي تُسهم في انبعاثات الكربون، مثل الصناعة والطاقة والنقل والزراعة، إذ يجب أن يكون النظام شاملًا لضمان تحقيق تأثير فعال في تقليل الانبعاثات.
- الرقابة والإنفاق: وضع آليات لرصد الانبعاثات ومراقبتها وتنفيذ النظام بصورة صحيحة، إذ يجب أن تكون هناك عقوبات للمخالفين ومكافآت للمشاركين الذين يتجاوزون أهداف أسواق الكربون.
- التنسيق الدولي: يُعد التعاون والتنسيق الدولي ضروريًا لتحقيق أقصى فائدة من أسواق الكربون، ويمكن للدول تبادل المعرفة والتجارب وتوحيد الأهداف والمعايير لتحقيق تأثير أكبر في تقليل الانبعاثات.
هذه بعض العوامل التي يجب مراعاتها عند تصميم نظام فعال لأسواق الكربون. يجب أن يجري تخصيص النظام لتلبية الاحتياجات المحلية وتوافق الظروف الاقتصادية والبيئية لكل دولة.
عقوبات ومكافآت تجاوز الانبعاثات
تعتمد العقوبات والمكافآت التي تفرض على المخالفين والمشاركين الذين يتجاوزون أهداف الكربون على تصميم النظام والسياسة البيئية في كل دولة، ومع ذلك، هناك بعض العقوبات والمكافآت الشائعة التي يجري تطبيقها في أنظمة الكربون.
وفيما يلي نرصد بعض الأمثلة:
1- العقوبات:
- غرامات مالية: يمكن فرض غرامات مالية على المشاركين الذين يتجاوزون حدود الانبعاثات المسموح بها، إذ تكون هذه الغرامات عادةً مبالغ مالية تعتمد على حجم الانبعاثات الزائدة.
- تقييدات التجارة: يمكن فرض تقييدات على المشاركين الذين يتجاوزون حدود الانبعاثات، مثل تقييد حجم التداول أو الاستفادة من بعض المزايا في السوق.
- إلغاء وحدات التداول: يمكن أن يتم إلغاء بعض أو كل وحدات التداول التي حصل عليها المشاركون الذين يتجاوزون الحدود، وبذلك تُقلل مركزهم في السوق وتأثيرهم.
2- المكافآت:
- الحصول على وحدات تداول إضافية: يمكن أن يحصل المشاركون الذين يتجاوزون أهداف الكربون على وحدات تداول إضافية مكافأة، لتحقيقهم الأهداف أو تقليل انبعاثاتهم بصورة فعالة.
- تخفيضات الضرائب: يمكن أن تمنح تخفيضات ضريبية للشركات والمؤسسات التي تتجاوز أهداف الكربون وتقلل من انبعاثاتها بصفة كبيرة.
- المزايا التنافسية: قد يحصل المشاركون الذين يتجاوزون أهداف الكربون على مزايا تنافسية في السوق، مثل الحصول على تمويل أفضل أو الوصول إلى فرص تجارية جديدة.
يجب أن تكون العقوبات والمكافآت مصممة بصورة جيدة، لتحفيز المشاركين على تحقيق أهداف الكربون بصورة فعالة وتحقيق استدامة السوق، ويجب أن تكون هذه العقوبات والمكافآت متوازنة وعادلة، وتأخذ في الاعتبار القدرة الاقتصادية للشركات والمؤسسات المشاركة.
يمكن القول إن أسواق الكربون تُعد أداة مهمة في جهود مكافحة التغير المناخي وتحقيق الاستدامة البيئية، إذ تُسهم في تحفيز الشركات والصناعات على تبني تقنيات أكثر نظافة وتحقيق تخفيضات في انبعاثات الكربون ومن خلال تحفيز الاستثمار في المشروعات البيئية المستدمة.
من المهم أن نذكر أن هناك حاجة إلى المراجع العلمية والأبحاث الدقيقة لتقييم فاعلية أسواق الكربون وتأثيرها في تقليل البصمة الكربونية والحد من التغيرات المناخية، وقد أجريت العديد من الدراسات التي تبيّن الفوائد البيئية والاقتصادية لهذه الآلية، ولكن ما تزال هناك حاجة إلى المزيد من البحوث والتحليلات لفهم أفضل لكيفية تحسين أداء أسواق الكربون وتعزيز دورها في التصدي لتحديات تغيرات المناخ.
* مهندسة هبة محمد إمام.. خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية.
اقرأ أيضًا..
- أنس الحجي: الغاز الإسرائيلي في ورطة.. وهذا موقف مصر
- استثمارات الطاقة المتجددة تشهد هروبًا لرؤوس الأموال.. هل يستمر التحول الأخضر؟
- صادرات النفط الأميركي تسجل مستوى قياسيًا.. وهؤلاء أبرز المستوردين (تقرير)