المقالاتالتغير المناخيرئيسيةسلايدر الرئيسيةمقالات التغير المناخي

مقال - الحياد الكربوني.. لماذا ستفشل سياسات تحقيقه؟

اقرأ في هذا المقال

  • بعد إعلان بعض الدول الأوروبية موعدًا لتحقيق الحياد الكربوني اكتشفت أنها لاتعرف كيف تصل إليه!
  • هناك ألاعيب كثيرة يقوم بها بعض السياسيين والمؤسسات الحكومية والشركات للوصول إلى الحياد الكربوني
  • لا يمكن إنكار قيام عدد كبير من الشركات والهيئات الحكومية بعمليات جادّة ينتج عنها تخفيض انبعاثات الكربون
  • هوس الحكومات بالسيارات الكهربائية جعلها تتناسى، بشكل مقصود أو غير مقصود، مصادر الانبعاثات الأخرى
  • مع انتشار العجز في إمدادات الكهرباء عالميًا جرى اللجوء إلى المحطات العاملة بالفحم والنفط والتي أُغلِقَت سابقًا

يُقصد بالحياد الكربوني توازن كمية انبعاثات الكربون مع كمية امتصاص أو احتجاز الكربون، الأمر الذي يوقف زيادة الانبعاثات، وإذا كانت كمية الامتصاص والاحتجاز أكبر من كمية الانبعاثات فإن هذا سيخفض كمية الكربون.

وسبب تبنّي سياسات الحياد الكريوني هو الزيادة المستمرة في انبعاثات الكربون عالميًا منذ بداية الثورة الصناعية في أوروبا، والتي رُبِطت بالاحتباس الحراري في البداية، ثم استُبدِل التغير المناخي بالاحتباس الحراري عندما انخفضت درجات الحرارة بشكل كبير في بعض المناطق في بعض السنوات.

وهذه الفكرة مبنية على 3 قواعد، الأولى أن هناك تغيّرًا مناخيًا، والثانية أن هذا التغير المناخي مرتبط بزيادة انبعاثات الكربون، والثالثة أن انبعاثات الكربون المسبّبة للتغير المناخي ناتجة عن الأنشطة الإنسانية.

وهنا لابد من التنبيه أن كل هذه الأمور ليست قطعية، وأن التغطية الإعلامية الهائلة لها لاتعني بالضرورة صحّتها، فكل قاعدة لها علماؤها وأدلتهم، ولها علماء ينقضون الطرف الأول ولهم أدلتهم.. فهناك علماء يرون أنه ليس هناك تغيّر مناخي، وهناك من يرى أن التغير المناخي هو جزء من دورات طويلة المدى يمرّ بها كوكب الأرض، ولاعلاقة للأنشطة الإنسانية بها.

خلاصة القول هنا، إنه يجب تجاهل كل من يقول بحتمية أيّ قاعدة من القواعد أعلاه أو ما ينقضها، لأن أدلة كلا الجانبين قوية، وقد يكون الأمر في النهاية مزيجًا من أمور مختلفة، ومن ثم فهناك مبالغة من الطرفين.

التلوث في المدن

إذا كانت أمور التغير المناخي مختلَفًا فيها، فإن الحقيقة التي لايختلف فيها اثنان، هي التلوث في المدن، خاصة الضخمة منها في شتى أنحاء العالم.

وهذا التلوث يعود إلى أسباب عدّة أغلبها أنشطة إنسانية، ولهذا التلوث عواقب صحية واقتصادية، وبغضّ النظر عما إذا كان هذا التلوث يسهم في التغير المناخي أم لا، فإنه لا بد من تخفيض التلوث في المدن، خاصة أن كل الدراسات تتفق فيما بينها على الآثار الصحية السيئة، خاصة فيما يتعلق بالجهاز التنفسي لدى الإنسان، أو انتشار بعض الأمراض مثل السرطان، أو العيوب الخلقية في المواليد.

فصل تلوّث المدن عن التغير المناخي أمر مهم، لتخفيض التلوث في المدن، فتلوّث المدن أمر محلي، ليس على مستوى الدولة فقط، بل على مستوى المدينة فقط، وأحيانًا على مستوى أحياء معينة.. تخفيض التلوث في هذه الحالة لا يتطلب مباحثات دولية، واتفاقات عالمية، وإذا كان تخفيض التلوث في المدن يؤدي إلى التخفيف من آثار التغير المناخي، فإن هذا منفعة إضافية.

خلاصة الأمر هنا، أنه حتى لو جرى إنكار أن التغير المناخي سببه انبعاثات الكربون الناتجة عن الأنشطة الإنسانية، فإنه لا بد من تخفيض التلوث في المدن للتخفيف من الآثار الصحية للتلوث.

أسباب فشل سياسات الحياد الكربوني

1. أغلب التقنية المطلوبة للحياد الكربوني غير موجود

أعلنت العديد من الحكومات وغالبية كبرى الشركات العالمية عن تاريخ معيّن للوصول للحياد الكربوني، أغلبه بين 2040 و2050.

هذه التصريحات جرت دون دراسات ودون خريطة طريق، وأيضًا دون معرفة كيفية الوصول إلى الهدف، وتكاليف الوصول للهدف، ومن سيدفع هذه التكاليف، ودليل ذلك أنه بعد أن أعلنت بعض الدول الأوروبية تاريخ تحقيق الحياد الكربوني، اكتشفت أنها لا تعرف كيف تصل إليه، فطلبت من وكالة الطاقة الدولية خريطة طريق للوصول إلى الهدف في التاريخ المحدد، فقامت الوكالة بسحب جزء كامل عن الحياد الكربوني من استشرافها السنوي الذي نشرته في عام 2020، وقامت بتجديده ثم قدّمته على أنه خريطة طريق.

هذا هو التقرير الذي انتشر في الإعلام العالمي انتشار النار في الهشيم، والذي قال، إن الوصول للهدف يتطلب وقفًا "فوريًا" للاستثمارات في قطاعي النفط والغاز، وذكر فقرة تجاهلتها أغلب وسائل الإعلام اليسارية المتبنّية للتغير المناخي: أغلب التقنية التي يحتاجها العالم للوصول إلى الحياد الكربوني في الموعد المحدد لم يُكتشف بعد! والحقيقة، ليس بعد هذا الكلام كلام!

الحياد الكربوني

2. التخلص من الأصول التي تصدر انبعاثات الكربون لا يعني التخلص من انبعاثات الكربون

قامت العديد من الصناديق الاستثمارية التابعة لكبرى الجمعيات الخيرية وعدد من الجامعات الشهيرة بالتخلص من استثماراتها في الوقود الأحفوري، وهذا يتضمن الفحم والنفط والغاز، كما قامت بعض شركات النفط بالتخلص من بعض أصولها عمومًا، والأصول صاحبة الانبعاثات العالية خصوصًا، بهدف تخفيض بصمتها الكربونية.

تخلّص هذه الشركات من هذه الأصول يخفّض بصمتها الكربونية، ولكن لا يخفّض انبعاثات الكربون لأنهم باعوا هذه الأصول لشركات أو ملّاك آخرين.

والواقع يشير إلى أن تخلّص هذه الصناديق من هذه الأصول "يزيد الطين بلة" وقد يزيد انبعاثات الكربون، لأن هذه الأصول انتقلت من أيدي أشخاص مهتمين بالبيئة، ويهدفون إلى تخفيض الانبعاثات وتحقيق الحياد الكربوني، إلى أيدي أشخاص قد لا يكونون مهتمين بالبيئة، خاصة إذا كانوا من الدول الناشئة أو النامية، إذ إن الهدف الأول هو تحقيق التنمية الاقتصادية ورفع مستوى الدخول.

إذن التخلص من الأصول المسببة للانبعاثات لن يسهم في حلّ المشكلة، بل قد يجعلها أكثر سوءًا.

3. اتّباع القانون والالتزام به يعني ارتفاع التكاليف وخطوة قاصرة لتخفيف الانبعاثات

لجأت بعض الشركات مُكرهة إلى الامتثال للقانون فقط، دون الالتزام بأيّ موعد أو خطط للوصول إلى الحياد الكربوني، هذه الخطوة لا تعني بالضرورة تخفيض الانبعاثات، لكنها تعني إيجاد مقابل لهذه الانبعاثات لـ"تصفيرها".

لا شك أن بعض الأمور القانونية ستجبر بعض الشركات على تخفيض انبعاثاتها، لكن هذا التخفيض بسيط، خاصة إذا ما قورن بتكاليف الامتثال.. ماستقوم به الشركات هو شراء كوبونات الكربون من السوق أو من شركات أخرى، أو تقوم بزارعة الأشجار أو أيّ عمليات تقابل انبعاثاتها للكربون، وهذا أيضًا يزيد التكاليف.

المشكلة هنا أن أغلب هذه التصرفات لن تخفض انبعاثات الكربون، لأن شراء الكربون يكون من شركات قامت بإنتاج منتجات صديقة للبيئة وانبعاثاتها كانت أقلّ من المحدد.. "يعني: أمر حصل سابقًا"، وشراء مزارع بأشجار يعني أن تصرّف الشركة سيخفض بصمتها الكربونية لكن لن يؤثر في الانبعاثات، لأن الأشجار موجودة سابقًا.

وإذا قامت الشركة بزراعة أشجار، فإنه علينا أن نتذكر أنه تجري إزالة أشجار الغابات المعمرة والكبيرة يوميًا للحصول على الخشب، أو لزراعة المحاصيل التي تنتج الوقود الحيوي، أو كما حصل في عدّة دول أوروبية، ووضع ألواح طاقة شمسية مكانها، بينما الشجيرات المزروعة صغيرة، وتحتاج إلى عشرات، وربما مئات السنين، لتُعوض عن الشجر المقطوع.

إذن، أثر هذا السلوك من قبل الشركات في تخفيض الانبعاثات بسيط، ولن يسهم في الوصول إلى الحياد الكربوني.

4. احتساب الإنجازات القديمة أو ماهو تحصيل حاصل ضمن خطوات تحقيق الحياد الكربوني

لجأت الشركات والهيئات الحكومية في دول كثيرة إلى دراسة ممتلكاتها وسلوكها بهدف معرفة مايمكن تصنيفه على أنه "أخضر" في حسابات الحياد الكربوني.

هذه الشركات قامت بإجراءات "بيئية" كثيرة خلال العقود الماضية لأسباب اقتصادية وقانونية بحتة، يمكن احتسابها حاليًا ضمن خطة الحياد الكربوني، فمحلّات التجزئة اكتشفت أنها خضراء منذ عقود بسبب النوافذ في أسقف المحلات للاستفادة من الضوء في النهار، ولولا وجودها لاضطرت إلى وضع إضاءة، الأمر الذي يعني زيادة استخدام الكهرباء، ومن ثم زيادة استخدام الوقود الأحفوري، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة انبعاثات الكربون، وبهذا تستطيع هذه الشركات احتساب هذه النوافذ الآن على أنها جزء من إنجازاتها للوصول إلى الحياد الكربوني.

وتستطيع الشركات احتساب المباني ذات الكفاءة العالية في استخدام الطاقة على أنها مبانٍ خضراء، وهذا يتضمن أيّ تكنولوجيا تزيد من كفاءة استخدام الطاقة، سواء في الإنارة أو التبريد أو التدفئة، مع أن الهدف الأصلي هو تخفيض التكاليف، وليس الوصول إلى الحياد الكربوني.

ومع انتشار فيروس كورونا منذ العام الماضي، عمل أكثر الموظفين من بيوتهم، ثم أصدرت العديد من الشركات قرارت تقضي بأن يكون العمل من البيت جزئيًا أو كليًا لعدد كبير من الموظفين، حتى لو انتهى الفيروس.

وبناءً على ذلك، قامت العديد من الشركات بتقليص مبانيها ومكاتبها لعدم الحاجة إلى المكاتب التي كان يشغلها الموظفون سابقًا الآن، بسبب هذه التطورات، انخفضت البصمة الكربونية لكثير من الشركات بسبب بقاء الموظفين في البيت وعدم قيادة سياراتهم أو استخدام المواصلات العامة للقدوم للعمل، وبسبب تقليص عدد المباني والمكاتب، والتي تحتاج إلى إضاءة وتبريد وتدفئة.

هذا الانخفاض في البصمة الكربونية للشركات حصل بسبب كورونا، ولكن يمكن حسابه كلّه تجاه هدف الحياد الكربوني للشركة!

إذن، احتساب ماحصل سابقًا يخفض البصمة الكربونية للشركات، لكنه لا يخفض الانبعاثات في أرض الواقع، ومن ثم فهو لعبة محاسبية فقط، والتخفيض بسبب كورونا هو تحصيل حاصل.

5. القيام بكل ما هو سهل ورخيص

رغم كل الألاعيب التي سيقوم بها السياسيون والمؤسسات الحكومية والشركات، للوصول إلى الحياد الكربوني، لا يمكن إنكار قيام عدد كبير من الشركات والهيئات الحكومية بعمليات جادّة ينتج عنها تخفيض انبعاثات الكربون، أو التعويض عن هذه الانبعاثات، إلّا أن كل ما يقومون به أقلّ من المأمول بسبب التركيز على العمليات السهل غير المكلفة.

فهدف الشركات في النهاية هو الربح، وهذا يتطلب تخفيض التكاليف، وهدف الهيئات الحكومية هو القيام بعملها بأدنى تكاليف ممكنة.. كل هذه الأمور تتطلب القيام بأقلّ ما يمكن، لكنها لن تقوم بجهود مضنية، ولن تتبنّى تقنيات مخفضة للكربون، ولكنها مكلفة.

شركات الشحن لن تشتري شاحنات كهربائية تبلغ تكاليفها ثلاثة أضعاف الشاحنة نفسها التي تسير بالديزل، ومصافي النفط لن تقوم باستثمارات ضخمة لاستبدال وحدات التكرير بأخرى أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، وما أزمة الغاز في أوروبا حاليًا ووصول أسعاره إلى مستويات قياسية إلّا مثال على هذا السلوك، إذ لجأت شركات الكهرباء إلى استخدام المزيد من الغاز تحت وطأة الضغوط السياسية والقانونية للتخلص من الفحم والطاقة النووية، وتحت وطأة تغيّرات الطقس التي ينتج عنها انخفاض كبير ومفاجئ في توليد الكهرباء من الطاقة الهوائية أو الشمسية، وتحت وطأة الجفاف التي خفضت توليد الكهرباء من الطاقة المائية.

إذن، سيكون هناك تخفيض للانبعاثات، لكنه تخفيض محدود، لأن الشركات ستتبنّى السياسات السهلة والرخيصة.

6. آثار السياسات الحالية في تخفيض الكربون "محدودة"

هناك نوع من الهوس في أمرين، الأول توسّع الطاقة المتجددة، والثاني زيادة عدد السيارات الكهربائية، حلول أساسية لتخفيض مستوى الانبعاثات العالمية لمنع الاحتباس الحراري.

يتّفق الجميع على أن الفحم أكثر مصادر الطاقة تلويثًا للبيئة، لكن حماة البيئة -خاصة في أوروبا- يظنون أن التوسع في الطاقة المتجددة سيُلغي استخدام الوقود الأحفوري: الفحم والنفط والغاز، هذا تفكير خاطئ من نواحٍ عدّة، أهمها:

أ- كثافة الطاقة في الفحم عالية جدًا مقارنة بما تقدّمه الطاقة المتجددة، كما إن الطاقة المتجددة متقطعة، بينما يمكن استخدام الفحم في محطات الكهرباء في أيّ وقت.

هذا يعني أن هناك حاجة إلى مزارع ضخمة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح للتعويض عن محطات الفحم التي أُغلقت، كما يعني أنه لا يمكن التخلص من الوقود الأحفوري، خاصة الغاز، بسبب تقطّع إمدادات الكهرباء من الطاقة المتجددة.

وهنا علينا أن نتذكر مرة أخرى ماحصل يوم 6 سبتمبر/أيلول في بريطانيا، إذ كان يوما حارًا، وسبب كونه كذلك هو توقّف الرياح، وتوقّف الرياح يعني توقّف إمدادات الكهرباء من الطاقة الهوائية، فماذا كانت النتيجة؟ العودة للفحم وارتفاع تاريخي في أسعار الكهرباء في أسواق الجملة، والذي أسهم مع ارتفاع أسعار الغاز في إفلاس 3 شركات كهرباء، إذن كمية التخفيض في الانبعاثات الكلية أقلّ من كمية الانبعاثات التي يجري التخلص منها بسبب وقف استخدام الفحم.

ب- التوسع في الطاقة المتجددة جاء على حساب الطاقة النووية "النظيفة"، وبما أن تصنيع عنفات وشفرات وأعمدة الرياح والألواح الشمسية وعمليات نقلها وتركيبها تُصدر انبعاثات الكربون، فإن استبدال الطاقة المتجددة بالطاقة النووية يعني زيادة انبعاثات الكربون.

ج- التوسع في الطاقة المتجددة جاء في بعض الدول على حساب الغاز الطبيعي النظيف نسبيًا، ومن ثم، فإن فروقات الانبعاثات قليلة.

الحياد الكربوني

د- توضح البيانات أن هوس الحكومات بالسيارات الكهربائية جعلها تتناسى، بشكل مقصود، أو غير مقصود، مصادر الانبعاثات الأخرى، خاصة في القطاعين الصناعي والزراعي، مثلًا، إذا جرى تحويل كل السيارات في الاتحاد الأوروبي إلى كهربائية، وتوليد الكهرباء من مصادر طاقة متجددة، فإن هذا يخفض انبعاثات الكربون العالمية بمقدار 2% فقط.

وإذا جرى تحويل كل قطاع المواصلات في الولايات المتحدة، بكل مافيه من سيارات وحافلات وشاحنات وقطارات وطائرات وسفن وقوارب، فإن هذا يخفض انبعاثات الكربون العالمية بنحو 4.3% فقط.. يعني تحوّلًا تاريخيًا في أوروبا وأميركا، ولن يبلغ انخفاض الانبعاثات 10%.

إذن، ستُبذل جهود ضخمة، بتكاليف ترليونية، وسيجري استنزاف موازنات وشعوب الدول الصناعية لتحقيق تخفيضات محدودة في مستويات الكربون.. سيتحول الأمر إلى مهزلة إذا قامت دول مثل الصين والهند والبرزايل وأفريقيا الجنوبية بالتعويض عن ذلك وزيادة الانبعاثات.

باختصار، ستُستنزَف الدول الصناعية ماليًا بسياسات ذات أثر ضعيف في تحقيق التغير المناخي!

7. التلاعب المحاسبي في حسابات الكربون

نقرأ ونسمع دائمًا عن أخبار التلاعب والاختلاس في كل المجالات من الرياضة إلى السياسة، ومن المناصب الحكومية إلى المناصب في القطاع الخاص، وفي المدارس والجامعات، إلى المصانع والمناجم.

وكلنا رأينا بأعيننا من يقطع الإشارة الحمراء، معرضًا حياته وحياة الآخرين للخطر.. سمعنا مئات المرات عن التلاعب في العمليات المحاسبية للشركات والمؤسسات الخيرية والحكومية، لهذا فإنه من المنطقي أن نتوقع أن يقوم الأفراد والشركات والحكومات بالتلاعب بالتقنية وبالأرقام، ولنا في جريمة شركة فولكس فاغن وانبعاثات عوادم سيارات الديزل خير دليل!

المشكلة ليست في التلاعب غير القانوني فقط، المشكلة الأكبر ستكون في التلاعب القانوني الذي يحصل أمام الجميع.. كبار الشركات الأميركية لا تدفع سنتًا واحدًا من ضرائب الدخل، رغم أن دخلها السنوي بالمليارات، وتتفادى دفع الضرائب قانونيًا وأمام الجميع، ما الذي يجعلنا نعتقد أنها لن تقوم بالأمر نفسه في عمليات الحياد الكربوني؟

8. تفاوت مراحل التنمية الاقتصادية بين الدول

في الوقت الذي تُتهم فيه الصين بأنها مصدر أكبر زيادة في انبعاثات الكرون في السنوات الأخيرة، وفي الوقت الذي يحاول فيه الإعلام الغربي توجيه أصابع اللوم إلى بكين، ثم الهند، فإن كلا البلدين يدركان جيدًا حقيقة الانبعاثات: الانبعاثات تراكمية عبر 400 سنة الماضية، وأغلب الانبعاثات جاء من أوروبا خلال الثورة الصناعية، يليها الولايات المتحدة.

هذه النقطة مصدر خلاف دائم في اجتماعات المناخ، فالصين الآن -على سبيل المثال- مثل أيّ دولة أوروبية في القرن التاسع عشر، عندما اعتمدت بشكل كبير على الوقود الأحفوري للتحول إلى دول متقدمة، فلماذا يحقّ ذلك لدول أوروبية، ولا يحقّ للصين؟ الدول الأفريقية تستخدم المنطق نفسه.

لهذا رفضت الهند الموافقة على الاقتراح المتعلق بوقف محطات الكهرباء العاملة بالفحم، وآخر يتعلق بتحديد تاريخ محدد للوصول إلى الحياد الكربوني، وكانت الحجة أن الهند في مرحلة من التطور والتنمية الاقتصادية تختلف عن الدول الأوروبية، ومازالت تبني نفسها.

كما إن هناك مشكلة أخرى نجدها محور خلاف في كل مؤتمرات المناخي، وهي أن كمية الانبعاثات للفرد في الصين والهند منخفضة مقارنة بأوروبا وأميركا.

بناءً على هاتين النقطتين، لن توافق الدول الناشئة والنامية على أهداف الغرب للوصول إلى الحياد الكربوني.

9. تقديم المصالح الوطنية في تطوير الموارد الطبيعية على السياسات المناخية

"أنا لا أكذب ولكني أتجمّل".. عنوان فيلم مصري قديم ينطبق تمامًا على الدول الأوروبية التي تحاول أن تتجمّل بظهورها "خضراء"، ولكن لها حقيقة أخرى.

من أكثر الدول تجملاً النرويج وبريطانيا اللتان تتجاهلان سياسات المناخ وتركّزان على تقديم المصالح الوطنية في تطوير حقول النفط والغاز في بحر الشمال والدائرة القطبية.

إلّا أن بعضهم لايرى في ذلك تجملً،ا ولكن نفاقًا بيئيًا صريحًا، ومحاولة سياسية رخيصة لكسب الناخبين، خاصة في حالة رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، المتطرف بيئيًا، ففي إحدى حملاته الانتخابية قال، إنه لا يوجد بلد في العالم لديه مليارات البراميل من النفط في باطن أراضيه، ولا يقوم بتطويرها، في إشارة إلى ضرورة الاستمرار بإنتاج النفط في كندا.

وعندما تعثّرَ بناء أنبوب النفط ترانس ماونتن لأسباب قانونية، وافق ترودو على قيام الحكومة الفدرالية بشرائه، لأن هذا يمكّنها من تجاوز عقبات قانونية معينة لا يستطيع القطاع الخاص تجاوزها.

في الولايات المتحدة، أوقف الرئيس جو بايدن خط أنابيب كيستون إكس إل، الذي ينقل النفط الكندي إلى الولايات المتحدة، إرضاءً لليسار الأميركي، لكنه منع اليسار من تمرير أمور كثيرة مضرّة بقطاع النفط والغاز، ووافق على أنابيب أخرى.

إذا كانت الدول المتّشحة بالطاقة الخضراء تقدّم مصالحها الوطنية على السياسات المناخية، فإنه من المنطقي أن تتجاهل الدول الأخرى في شتى أنحاء العالم السياسات المناخية.

10. تغيّر مواقف بعض الشركات والحكومات في ظل الأزمة الحالية

مع انتشار العجز في إمدادات الكهرباء بمختلف أنحاء المعمورة، واحتمال انقطاع الكهرباء في بعض المدن الأوروبية، جرى اللجوء إلى محطات الكهرباء العاملة بالفحم والنفط، والتي أُغلِقَت سابقًا.

ونتيجة ذلك، أدرك بعض صنّاع القرار أنه يجب إبقاء هذه المحطات لوقت الطوارئ، مع أن الخطة الأصلية كانت تدعو إلى إلغائها بالكامل.. انقطاع الكهرباء في عدد من المدن الهندية جعل حكومات الولايات تغضّ النظر عن القوانين البيئية مقابل أن تقوم المحطات بتوليد المزيد من الكهرباء.

الفحم في الصين

الصين طلبت من كل مناجم الفحم في الولايات الشمالية الإنتاج بأقصى طاقتها الإنتاجية، وغضّ النظر عن الإجراءات المتعلقة بالبيئة والأمن والسلامة، وكانت قد أوقفت واردات الفحم من أستراليا إثر خلاف تجاري بينهما، إلّا أنه تبيّن فيما بعد أن الشركات الصينية استوردت الفحم الأسترالي عن طريق فيتنام، ثم سمحت الصين باستيراد الفحم مباشرة من أستراليا.

بعد موجة كورونا الثانية التي اجتاحت الهند، انتعش الاقتصاد كثيرًا، في وقت تصادفَ مع الأعياد الهندوسية السنوية، فارتفع الطلب على الكهرباء بشكل قياسي، ونتج عن ذلك عجز في إمدادات الفحم والغاز، وزيادة قياسية في أسعارهما، وتبع ذلك انقطاع الكهرباء.

وتشير البيانات إلى أن كل الزيادة في استهلاك الكهرباء قوبلت من محطات عاملة بالفحم، هذا يعني زيادة انبعاثات الكربون، إلّا أن ما زاد الأمر سوءًا هو أن ارتفاع أسعار الفحم عالميًا أجبر الشركات الهندية على استخدام الفحم المحلي، وهو من نوعية سيئة تُصدِر انبعاثات أكثر من الفحم المستورد، وكونه من نوعية سيئة، فإن ذلك يعني أن كمية الطاقة فيه أقلّ، ومن ثم فإن الحصول على كمية الطاقة نفسها يتطلب حرق كميات أكبر.

ولعل من دواعي السخرية أن شركة النفط النرويجية غيّرت اسمها من "ستات أويل" إلى إكوينور، في محاولة للتخلص من صفة الوقود الأحفوري والتركيز على الطاقة المتجددة للوصول إلى الحياد الكربوني، وهي الشركة الأكثر نشاطًا في عمليات التنقيب على النفط والغاز في العالم، خلال الآونة الأخيرة.

ويبدو أن أزمة الطاقة الحالية في أوروبا جعلت مسؤولي الشركة يرون الحقيقة، أو جعلتهم يجهرون بالحقيقة، كما يتضح من تغريدة نائب رئيس الشركة وكبير الاقتصاديين إرك ويرنس يوم الخميس الماضي، والتي أوضح فيها أن التوجّه نحو الطاقة الخضراء لن يحلّ مشكلة الطاقة في أوروبا.

وقال: "هذا الصباح، من الساعة 6 إلى 9 صباحًا، إذا أردنا استبدال جميع الكهرباء المولدة من الغاز والفحم في هولندا وألمانيا، فسنحتاج إلى تفريغ بطاريات تعادل نحو 1.7 مليون تيسلا 3 مشحونة بالكامل.. [كل هذا] ودرجة الحرارة 15 درجة مئوية في أمستردام وفرانكفورت".

الحياد الكربوني

كما حاولت شركة شل ارتداء الثوب الأخضر، بادّعاءات كثيرة وترويج ضخم لمشروعات الطاقة المتجددة، إلّا أن رئيس الشركة بن فان بيردن قال في خطاب ألقاه في مؤتمر يوم الأربعاء الماضي: "في نظام الطاقة العالمي، مجرد الاعتقاد بأنه يمكن تبديل الفحم بمصادر الطاقة المتجددة بنسبة 100% يعدّ فكرة سخيفة".

وأوضح أنه ليس أمام شل أيّ خيار سوى الاستثمار في النفط والغاز، للحصول على التدفقات النقدية، في إشارة إلى أن مشروعات الطاقة المتجددة لا تحقق تدفقات نقدية.

كل ماسبق يوضح أنه لايمكن في ضوء هذه السياسات والتصرفات الوصول إلى الحياد الكربوني.

11. تعارض السياسات المناخية مع القانون ووجود أحزاب سياسة معارضة

أدى تطرّف حماة البيئية والسياسيون الذي يدعمونهم، إلى إصدار قوانين وتبنّي سياسات تتعارض مع قانون البلد أو الدستور، ومن ثم قامت المحاكم بإلغائها.

إن ظهور "الخضر" بمظهر المخالف للقانون ليس مضرًا بصورتهم العامة أمام الشعب فقط، بل يؤثّر في سياساتهم الأخرى المتوافقة مع القانون، إلّا ان هذه التصرفات تثبت أن الداعمين لسياسات الحياد الكربوني لايهتمون بالقانون، ولا يهتمون بأيّ طرف أخر، خاصة إذا كان معارضًا لهم.

فقد فُجع البيئيون عندما ربحت الولايات النفطية بقيادة تكساس ولويزيانا قضية ضد الرئيس الأميركي جو بايدن في المحكمة، نتج عنها بطلان قراره منع التنقيب عن النفط والغاز في الأراضي والمياه الفدرالية.

وتكرّرت الفاجعة عندما وقفت المحكمة الفدرالية الكندية مع السكان الأصليين في مقاطعة ألبرتا الكندية، وألغت القرار الحكومي الفدرالي الذي أوقف التنويع في مناجم الفحم، هذه المناجم تقع في أراضي السكان الأصليين، ويحصلون على ريع منها.

تجاهُل البيئيين للطرف الآخر وقناعتهم بأنه سيسكت ولن يردّ، هو سبب فاجعتهم.. فقد عبّر البيئيون عن فرحة كبيرة عندما قررت محكمة هولندية إجبار شركة شل على تخفيض انبعاثاتها بشكل كبير يعني في النهاية التخلص من أكبر أصولها النفطية، إلّا أنهم انرعجوا كثيرا عندما عرفوا أن شل استأنفت على القرار، وأن القضية قد تبقى في المحاكم لسنوات طويلة دون إلزام الشركة بأيّ شيء.

ما سبق يوضح أن الخطط للوصول إلى الحياد الكربوني شيء، وتطبيقها في الأرض الواقع شيء آخر، لهذا فإن سياسات الحياد الكربوني لن تحقق أهدافها.

12. تجاهل السياسات المناخية لحقوق الإنسان

من أغرب الأمور في موضوع التغير المناخي أن الآباء الروحيين لأنصار التغير المناخي وحماة البيئة كلهم كانوا سابقًا من أتباع مدرسة مالتوس الداعية إلى تحديد النسل والحدّ من التكاثر البشري بحجة عدم وجود موارد كافية على سطح الأرض لإطعام العدد المتزايد للسكان.

ومع ثبوت خطأ نظرية وأفكار مالتوس بشكل قاطع، تحوّل تلامذته إلى حماية البيئة، ومنها إلى الاحتباس الحراري، وعندما أثبتت البيانات خطأ فكرة الاحتباس الحراري حوّلوا إلى "التغير المناخي".

يرى هؤلاء أن مشكلة العالم هي العدد السكاني الضخم، ومن ثم يجب تخفيض عدد السكان، كما يجب أن تتحول الدول الصناعية إلى زراعية، وتحوّل معدلات النمو الاقتصادي إلى السالب، كما يطالبون بتحويل ثروة العالم الصناعي إلى العالم النامي، بشرط ألّا يقوم العالم النامي بأيّ عمليات صناعية.

وحتى يتحقق مايريدون، يطالبون بحكومات مركزية قوية تُجبر الناس بالقوة -حتى لو كان بالسلاح- على تحديد النسل من جهة، والعيش على هامش الحياة من جهة أخرى، ضاربين بعرض الحائط كل حقوق الإنسان التي تضمنها الدساتير الغربية الحالية وكل الشرائع السماوية.

ويزداد الأمر غرابة عندما يشيدون بالحكومة الصينية وبالأنظمة الديكتاتورية، إلّا أن أغرب ماعندهم هو تمجيد جنكيز خان بسبب انخفاض انبعاثات الكربون في عهده إثر توقّف الأنشطة الاقتصادية نتيجة القتل والتشريد والخوف.

ومن الغرائب عندهم أيضًا أنهم يطالبون بتبنّي تقنيات معينة للوصول إلى الحياد الكربوني، ويحاربون أيّ تقنيات غيرها، سوى التي يريدون.. فهم ضد النفط والغاز، حتى لو استطاعت الصناعة احتجاز الكربون وتوقفت عن إصدار أيّ انبعاثات، كما إنهم ضد الغاز والغاز المسال، وضد الهيدروجين.. السبب عنصري بحت، لأن منتجي النفط والغاز والهيدروجين ليسوا من العرق واللون الذي يريدون.

وتأكيدًا لموضوع العنصرية، يحاربون كل المناجم في أوروبا والولايات المتحدة التي تنتج المعادن اللازمة لتحقيق الحياد الكربوني بسبب تلويثها للبيئة، ولكن يتجاهلون تمامًا المناجم في بعض البلاد الآسيوية وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كما إن هناك دولًا معينة لا ينتقدونها حتى عندما قامت بالتنقيب عن النفط والغاز.

خلاصة الأمر أنّ تطرُّف هذه "العنصرية البيئية" هو من سيُفشل خططها، ومن ثم فإنه لايمكن الوصول إلى الحياد الكربوني.

13. الصراع بين الدول الغنية والفقيرة.. بين دول الشمال ودول الجنوب

من الواضح الآن، سواء على مستوى الحكومات أو الأشخاص، أن الأغنياء فقط يستطيعون تبنّي فكرة وسياسات "التغير المناخي"، فالفقير الذي يبحث عن لقمة العيش، أو الحكومة التي تقف عاجزة عن توفير لقاح كورونا، لن يفكر بالتغير المناخي، وليس من أولوياته.

أضف إلى ذلك أن المطلوب من الدول الفقيرة أن تتوقف عن إنتاج وتصدير الوقود الأحفوري اللازم لتحقيق التنية الاقتصادية فيها، في وقت مازالت فيه الولايات المتحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، ومازالت النرويج وبريطانيا من كبار المنتجين.

أمّا بالنسبة لدول أوروبا الأخرى، فإن من أكبر شركات النفط في العالم الشركات الفرنسية والإيطالية، فعن أيّ حياد كربوني يتحدثون؟

في اتفاقية باريس للمناخ، جرى الاتفاق بين الدول لأسباب عدّة، أهمها أن الدول الغنية "رشت" الدول الفقيرة بـ100 مليار دولار.. الآن، ونحن على أعتاب قمة أخرى خلال الشهر المقبل، لم تقم بعض الدول بدفع التزاماتها، في الوقت الذي لم تستلم فيه بعض الدول الفقيرة أيّ شيء.

وما زاد الأمر تعقيدًا أن بعض الدول أدركت أن وقف عمليات التعدين أو الاحتطاب فيها للوصول إلى الحياد الكربوني سيؤدي إلى انهيار اقتصاداتها، ومن ثم فهي تحتاج إلى تعويض من الدول الغنية، وتعويض دولة واحدة مثل البرازيل أكبر من 100 مليار دولار التي تبرعت بها الدول الغنية جمعاء.

هذا الموضوع ولّد فكرة جديدة لدى دول عديدة في أميركا اللاتينية بقيادة البرازيل، والآسيوية بقيادة الهند، ويمكن تسميتها بـ"الابتزاز البيئي"، إذ صارت هذه الدول تطالب بمقابل مالي كلما طُلب منها شيء يتعلق بالحياد الكربوني.

خلاصة القول، إن سياسات الحياد الكربوني ستفشل، وهذا يعني زيادة الطلب على النفط والغاز والفحم بأكثر من المتوقع حاليًا.. المشكلة أنه ليس هناك استثمارات كافية لمقابلة الطلب المتزايد عليها مستقبلًا، ولهذا يُتوقع أن ترتفع أسعارها بشكل كبير في السنوات المقبلة.

*الدكتور أنس الحجي - خبير أسواق الطاقة ومستشار تحرير "الطاقة"

  • للتواصل مع الدكتور أنس الحجي (هنا).
  • للتواصل مع منصة الطاقة (هنا).

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق