كيف تحولت تقارير هيئة تغير المناخ إلى أداة للضغط على دول النفط والغاز؟ (تحليل)
كشف التقرير السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ عن تغير كبير في سياسات الهيئة، ضد النفط والغاز، بما يشير إلى تحوّل كبير من أجل الضغط على الدول المنتجة للمواد الهيدروكربونية.
ولمس المتابعون للتقرير التقييمي السادس، الذي صدر مؤخرًا، لغة واضحة في بعض الأحيان، ومستترة في أحيان أخرى، ضد استخدام أو الاستثمار في الوقود الهيدروكربوني؛ ما يجعل هذا التوجه مسيّسًا، على الرغم من أنه لا يمكن أن يكون هناك تحوّل سلس للطاقة دون الوقود الأحفوري، وهو ما تثبته الوقائع المعيشة.
أهمية هيئة المناخ
تؤدي الهيئة تأثيرًا مهمًا في جهود مكافحة التغير المناخي، وتعدّ تقارير تقييمية شاملة، تتضمن ملخصات لواضعي السياسات؛ إذ تعدّ تقاريرها الأكثر موثوقية في العالم لعلم تغير المناخ، وتشكّل المصدر الاسترشادي الأساس لاتخاذ القرارات المناخية والعمل على الصعيد العالمي، وعلى المستويين الإقليمي والوطني.
وللمفارقة، كان التقرير التقييمي الأول للهيئة سببًا مباشرًا لإنشاء اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، والتي أصبحت أساسًا للعمل السياسي المنسّق.
كما قدّم التقرير التقييمي الثاني المعطيات الرئيسة لوثيقة كيوتو لعام 1997، وهي اتفاق تاريخي وضع أهدافًا ملزِمة للانبعاثات على البلدان المتقدمة.
وقدّم التقرير التقييمي الخامس الأطر الرئيسة لاتفاق باريس لعام 2015، ومؤخرًا، قدّم الجزء الأول من التقرير التقييمي السادس لاجتماع كوب 26 في غلاسكو الأسس للمبادرات الطوعية؛ إذ اجتمع قادة العالم وخبراء المناخ معًا للالتزام بأهداف طوعية أكثر طموحًا لخفض الانبعاثات، كمبادرة الميثان والاستغناء عن الفحم.
التقرير السادس
أعدّ التقرير التقييمي السادس نحو 278 مؤلفًا راجعوا أكثر من 18 ألف ورقة علمية، ووافقت عليها 195 حكومة عضوًا، وفي دورتها السادسة، تمنهجَ عمل الهيئة حاليًا في 3 فرق عاملة.
يتناول الفريق العامل الأول الأساس العلمي الفيزيائي لتغير المناخ، بينما يتناول الفريق الثاني آثار تغير المناخ، والتكيف معه، ويتناول الفريق العامل الثالث "السبل الممكنة للحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري".
لا يترك التقرير الجديد أيّ مجال للشك في أن النشاط البشري منذ الثورة الصناعية الأولى هو المسؤول عن الاحتباس الحراري، وخلص إلى أن كل الارتفاع في متوسط درجات الحرارة العالمية منذ القرن التاسع عشر كان مدفوعًا أساسًا بحرق الوقود الأحفوري وإزالة الغابات وتحميل الغلاف الجوي بغازات الاحتباس الحراري، مثل ثاني أكسيد الكربون، والميثان الذي يحبس الحرارة.
ويخلص التقرير إلى أن مكافحة تغير المناخ تتطلب تخفيضات "فورية وعميقة" بالانبعاثات في دول العالم كافة، ويرى أن العقد الحالي سيكون حاسمًا لكبح تغير المناخ الحتمي والتكيف معه؛ فليس هناك وقت لإضاعته، مع إصرار الهيئة على الحاجة إلى إجراءات أكثر إلحاحًا الآن، وليس بعد عام 2030، عندها ستكون الإجراءات أقلّ فاعلية.
الاحترار العالمي
يحذّر التقرير من أن تجاوز الهدف 1.5 درجة مئوية ينطوي على مخاطر اجتماعية وبيئية أكبر، مقارنةً بالمسارات التي تحدّ من الاحترار إلى 1.5 درجة مئوية، مع عدم وجود تجاوز محدود، ولتحقيق ذلك يجب أن تبلغ الانبعاثات ذروتها بحلول عام 2025، وتنخفض إلى النصف بحلول عام 2030.
وترى الهيئة أن تكلفة إنهاء أزمة المناخ صغيرة، مقارنةً بآثارها، ومن المتوقع أن يتضاعف الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم بحلول عام 2050، بينما يجب خفض الانبعاثات إلى النصف بحلول عام 2030؛ للحفاظ على المسار الصحيح البالغ نحو 1.5 درجة مئوية.
أزمة التمويل
يخلص الجزء الثالث من التقرير التقييمي السادس إلى أنه يمكن تحقيق الحياد الكربوني عام 2050، لكن الإرادة السياسية والتمويل المطلوب مفقودان حتى الآن.
السؤال المهم بالنسبة لتغير المناخ ليس فقط (ما التكنولوجيات "النظيفة" التي ستخترق أسواق الطاقة؟)، ولكن (ما الذي سيفعله صانعو القرار إزاء ذلك؟)، إذ يسلّط التقرير الضوء على أن هناك مجموعة متنوعة من التكنولوجيات والسياسات المتاحة لتلبية الأهداف المناخية الدولية، لكنّ تبنّيها ليس سهلًا أو رخيصًا، والتأجيل ليس متاحًا.
وتطرّق التقرير إلى أن قضية التمويل ستظل محورية في مفاوضات الأمم المتحدة بشأن المناخ، مع انعقاد القمة المقبلة في مصر، نوفمبر/تشرين الثاني المقبل؛ إذ ترى الهيئة أن الاستثمارات المناخية يجب أن تكون أكبر بـ3 إلى 6 مرات مما هي عليه اليوم.
الموقف من النفط والغاز
صدر الجزء الثاني من التقرير التقييمي السادس الخاص بصناعة النفط والغاز، مشيرًا إلى أن الوقود الأحفوري "يخنق الإنسانية"، أي أن التقرير يؤسس لتحوّل طاقة يكاد ينعدم فيه استخدام الوقود الهيدروكربوني في العقود المقبلة.
ويشير التقرير إلى أن مكافحة تغير المناخ بكبح الانبعاثات هي في صلب الحلّ، وعند رسم الانتقال إلى أهداف اتفاق باريس، كان تركيز الهيئة بشكل ملحوظ على الكهربة من المصادر معدومة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أو المخفّضة بوصفها حلًا جوهريًا.
وتتنبّأ الهيئة بأن الشبكات الكهربائية القائمة على الطاقة المتجددة ستصبح "أكثر موثوقية" في العقود المقبلة، ويمكن أن تتلازم مع الموارد الأخرى، مثل الطاقة النووية والطاقة المائية والطاقة الحيوية واحتجاز الكربون وإزالته، في تقليل الانبعاثات.
عندما تصبح الشبكات الكهربائية معدومة الانبعاثات؛ فإن السيارات والحافلات والمباني التي كانت تعمل بالفحم والنفط والغاز ستعمل بالكهرباء "النظيفة" في المستقبل بشكل متزايد؛ ما يجعل مستقبل الوقود الهيدروكربوني مظلمًا.
السيارات الكهربائية
يرى التقرير أن السيارات الكهربائية التي تعمل بالكهرباء منخفضة الانبعاثات ستكون لها آفاق كبيرة لإزالة الكربون للتنقل البري؛ إذ يقول التقرير، إن الوقود الحيوي المستدام والهيدروجين النظيف ومشتقاته (بما في ذلك الوقود الاصطناعي) يمكن أن تساعد في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الشحن والطيران والنقل البري الثقيل أيضًا، ولكنها تتطلب تحسينات في عملية الإنتاج وخفض التكاليف.
ويشير التقرير كذلك إلى أنه يمكن تحقيق الحياد الكربوني بموازنة الانبعاثات المتجهة إلى الغلاف الجوي بتلك التي أزيلت منه؛ فمن المحتّم إزالة بعض ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي لموازنة الانبعاثات من الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة والطيران، والتي تصعب إزالة الكربون منها؛ إذ يمكن تحقيق الحياد الكربوني بالاستمرار في السماح بالانبعاثات في بعض القطاعات، والتي توصف بصعوبة كبح الانبعاثات الكربونية الناتجة منها، ما دامت تُزال أيضًا الانبعاثات "التي يصعب تخفيفها" وتخزينها بشكل دائم عن طريق حجز الكربون وتخزينه.
ويشدد التقرير التقييمي السادس على أن احتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه يواجهان "حواجز تكنولوجية واقتصادية ومؤسسية وبيئية وبيئية واجتماعية ثقافية" كبيرة، لا بدّ من التصدي لها، كما تستطيع سوق الكربون الطوعية، حال تبنّيها، أن تكون آلية مهمة لتوسيع نطاق إزالة الكربون من خلال إنشاء وبيع أرصدة رخص الانبعاثات لحفز إزالتها.
استثمارات النفط والغاز
يلمّح التقرير إلى أن التوقف عن الاستثمار في البنية التحتية للوقود الأحفوري (النفط والغاز) أمر جوهري لكبح التغير المناخي، مرددًا ما خلصت إليه تقارير وكالة الطاقة الدولية؛ إذ يرى أن الأصول الاستثمارية للوقود الهيدروكربوني ستصبح "محتجزة ومعدومة القيمة" مع الوصول للحياد الكربوني.
بالإضافة إلى ذلك، يشجع التقرير الضغط على صناعة النفط والغاز ودفعها من أجل تخفيضات أسرع في الانبعاثات المطلقة؛ إذ إن الحدّ من تسرّب غاز الميثان أو حرقه والانبعاثات التشغيلية الأخرى هو الحدّ الأدنى من المتطلبات.
وبعد استعراضنا لملخّص التقرير السادس، دعونا نسلّط الضوء على بعض منهجية عمل الهيئة وأهميتها.
ما الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ؟
تأسست الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) عام ،1988 لتقديم مشورات شاملة حول تغير المناخ من النواحي العلمية والاجتماعية والاقتصادية، بتقييم أسبابه وتأثيراته المحتملة وإستراتيجيات التصدي لهذا التغير.
نشأت الهيئة في البداية تحت رعاية المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، ويعدّ مؤتمر الأطراف المنبثق من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) المتلقي الرئيس لتقارير الهيئة، ولا سيما الهيئة الفرعية للمشورة العلمية والتكنولوجية (SBSTA).
وتمثّل تقارير الهيئة الأساس العلمي الأهم لبناء اتفاقيات مؤتمرات الأطراف الإطارية؛ أي إن ما يصدر منها سوف يُبنى عليه في الجدال حول أهلية القرارات من النواحي العلمية والاقتصادية والاجتماعية.
منهجية العمل
يتمثل النشاط الرئيس للهيئة في إعداد تقارير تقيّم حالة الدراية بتغير المناخ، وتشتمل منتجاتها على تقارير التقييم والتقارير الخاصة وتقارير المنهجية.
وتسترشد الهيئة في عملها بمجموعة من المبادئ والإجراءات المكتوبة، وتخضع للمراجعة والتحديث المستمرين لضمان أن تظل شفافة وموثوقة، ويسهم آلاف العلماء من جميع أنحاء العالم في عمل الهيئة بشكل طوعي؛ كونهم مؤلفين ومساهمين ومراجعين، ويُبنى عملهم على عشرات الآلاف من الدراسات المحكمة أكاديميًا.
وتساعد التقارير الأطرافَ في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في وضع إستراتيجيات وطنية لمكافحة الانبعاثات بحسب المصادر، وإزالتها بوساطة كل من المصارف الطبيعية والصناعية.
تُعِدّ الهيئة منهجيات ومبادئ توجيهية للمساهمات الوطنية لكبح غازات الاحتباس الحراري والتكيف مع تأثيرات التغير الحاصلة والمحتملة، وكذلك أطر العمل الجماعي الدولي.
وتتخذ الهيئة قراراتها الرئيسة في جلسات عامة على مستوى ممثلي الحكومات، وتضطلع أمانة مركزية للهيئة بتقديم الدعم لعمل الهيئة، وتجري الموافقة على تقارير الهيئة من قِبل 195 حكومة، وتصف الهيئة تقاريرها بأنها موجّهة نحو متخذي السياسات، لكنها ليست إلزامية.
ولتنفيذ برنامج عمل ما، تعقد الهيئة اجتماعات لممثّليها الحكوميين، وتعقد جلسات عامة للفريق، أو مجموعات عمل الهيئة، للموافقة مبدئيًا على التقارير، ومن ثم اعتمادها وقبولها، وتحدد الجلسات العامة للهيئة عملها وأعمالًا أخرى، بما في ذلك ميزانيتها والخطوط العريضة للتقارير.
ويجتمع مكتب الهيئة بانتظام لتقديم التوجيه للفريق المعني بشأن الجوانب العلمية والتقنية لعمله، وتنظم الهيئة اجتماعات لتحديد نطاق التقرير المرتقب للخبراء واجتماعات للكتاب والباحثين الرئيسيين لإعداد التقارير، وتنظم اجتماعات الخبراء وورش العمل حول موضوعات مختلفة لدعم برنامج عملها.