التغير المناخيالمقالاترئيسيةمقالات التغير المناخي

إدارة الطاقة بالمنشآت الصناعية ودورها في خفض البصمة الكربونية (مقال)

د. هبة محمد إمام

تُعد إدارة الطاقة في المنشآت الصناعية قضية مركزية في عصر يتسم بتزايد الضغوط البيئية وتنامي الحاجة إلى خفض الانبعاثات الكربونية.

فالمنشآت الصناعية هي من أكبر مصادر استهلاك الطاقة وإنتاج الانبعاثات الملوِّثة للبيئة، خصوصًا ثاني أكسيد الكربون وغيره من غازات الدفيئة.

ومن ثم فإن تطوير نظم متكاملة لإدارة الطاقة لا يمثل فقط أداة لتحقيق الكفاءة الاقتصادية وتقليل التكاليف التشغيلية، وإنما هو أيضًا ضرورة إستراتيجية لتحقيق الاستدامة البيئية وتعزيز القدرة التنافسية في الأسواق العالمية التي باتت تعطي وزنًا بالغًا للممارسات الخضراء والإنتاج المسؤول.

في هذا المقال سنناقش بشكل تفصيلي مفهوم إدارة الطاقة في الصناعة، وآليات تطبيقها، وأهم الإستراتيجيات التكنولوجية والتنظيمية المرتبطة بها، وكيف يمكن أن تُسهِم بصورة مباشرة وفعّالة في تقليل البصمة الكربونية للمنشآت الصناعية.

مفهوم إدارة الطاقة في الصناعة

إدارة الطاقة هي عملية متكاملة تهدف إلى الاستعمال المنظَّم والفعّال لمصادر الطاقة المختلفة في المنشآت من أجل تحقيق أعلى إنتاجية ممكنة بأقل تكلفة وأدنى أثر بيئي.

ويتضمّن هذا المفهوم مجموعة من الأنشطة تشمل مراقبة استهلاك الطاقة، وتحديد مصادر الهدر، واقتراح التحسينات، وتطبيق تقنيات الترشيد، والتوسع في استعمال الطاقة المتجددة حيثما أمكن.

وتراعي نظم إدارة الطاقة الحديثة الالتزام بالمعايير الدولية مثل المواصفة ISO 50001 التي تحدد إطارًا نظاميًا لتطوير سياسات وخطط تشغيلية ترمي إلى تحسين الأداء الطاقي في المنشآت الصناعية تحديدًا، يصبح مفهوم إدارة الطاقة أكثر تعقيدًا، نظرًا إلى اعتماد هذه المنشآت على عمليات تشغيلية ضخمة ومعدات ميكانيكية وكهربائية تستهلك كميات هائلة من الكهرباء والوقود الأحفوري.

وعليه فإن الإدارة الرشيدة للطاقة تتطلب فهمًا دقيقًا لأنماط الاستهلاك داخل خطوط الإنتاج، مع دراسة متعمقة للعمليات الحرارية، وأنظمة الضغط، ووحدات الإضاءة والتكييف، والمضخات، والأفران، والآلات الثقيلة وغيرها.

كفاءة استهلاك الطاقة

المبررات الاقتصادية والبيئية لتطبيق إدارة الطاقة

من جهة اقتصادية، يُشكِّل استهلاك الطاقة جزءًا كبيرًا من التكاليف التشغيلية للمنشآت الصناعية، وفي بعض القطاعات يصل إلى ما يفوق 30-40% من إجمالي المصروفات التشغيلية.

ومن ثَم فإن أي خفض في استهلاك الطاقة يؤدي بالضرورة إلى تقليل التكاليف مباشرة وزيادة هامش الربح.

أما من الناحية البيئية؛ فإن تحسين إدارة الطاقة يعني تقليل حرق الوقود الأحفوري مما يتبعه من خفض الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.

وهذا يسهم بدوره في تقليل البصمة الكربونية للمنشآت والتوافق مع التوجهات العالمية نحو اقتصاد منخفض الكربون.

إضافة إلى ذلك، نجد أن الجهات التنظيمية الدولية باتت تفرض قوانين أكثر صرامة متعلقة بالانبعاثات، مثل نظام تداول الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي، أو الالتزامات المنبثقة عن اتفاقية باريس للمناخ.

ومن ثَم فإن المصانع التي تضيّع فرص تحسين كفاءتها الطاقية قد تواجه عقوبات أو ارتفاعًا في أسعار الكربون؛ ما يؤثر سلبيًا في استدامة أعمالها.

إستراتيجيات إدارة الطاقة وتقنياتها في المنشآت الصناعية

1- مراجعة الطاقة والتحليل التشخيصي:

تعد مراجعات الطاقة "Energy Audits" النقطة الأولى على طريق الإدارة الفعالة.

حيث يجري خبراء مختصون تقييمًا شاملًا لجميع مصادر الاستهلاك للتعرف على مواطن الهدر والفرص المتاحة للتحسين.

يشمل ذلك القياس المستمر لاستهلاك الكهرباء، تحليل أداء المحركات، دراسة نظم التدفئة والتهوية والتبريد، واختبار كفاءة العزل الحراري للمباني والأنابيب.

والنتيجة هي خطة تفصيلية تحدد الإجراءات القصيرة والطويلة الأجل لتحقيق وفورات ملموسة في استهلاك الطاقة.

2- تحسين كفاءة المعدات والعمليات:

غالبًا ما تعمل المنشآت بمعدات قديمة أو غير مطابقة للمواصفات الحديثة؛ ما يجعل استهلاكها للطاقة أعلى من المطلوب بكثير.

ومن أمثلة التحسين استبدال المحركات الكهربائية التقليدية والاعتماد على محركات عالية الكفاءة، أو استعمال محولات التردد المتغيّر للتحكم الدقيق في سرعة الدوران.

كذلك يمكن رفع كفاءة الأفران الصناعية عبر تطوير نظم التحكم في درجات الحرارة واستعمال تقنيات استرجاع الحرارة المهدورة.

3- أنظمة المراقبة والتحكم الذكية:

يُعدّ التحول الرقمي رافعة أساسية لإدارة الطاقة المعاصرة؛ فالمجسات الذكية وأنظمة التحكم المبرمج تسمح بجمع بيانات دقيقة لحظية من خطوط الإنتاج، ومن ثَمّ تحليلها برمجيًا للكشف عن أي خلل أو استهلاك غير مبرَّر.

ويمكن استعمال الذكاء الاصطناعي لتوقع احتياجات الأحمال المستقبلية، وضبط الاستهلاك تلقائيًا بما يتناسب مع الطلب والتسعير الفعلي للطاقة.

4- استعمال الطاقة المتجددة:

إن دمج مصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية أو طاقة الرياح داخل المنشآت الصناعية أصبح خيارًا إستراتيجيًا يُقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري.

ورغم ارتفاع تكلفتها الاستثمارية الأولية؛ فإنها تؤدي على المدى الطويل إلى خفض كبير في الانبعاثات الكربونية وتكاليف التشغيل.

بعض المصانع تعتمد على نظم هجينة تجمع بين الشبكة الكهربائية التقليدية والطاقة المتجددة لضمان استقرار الإمداد.

5- استرجاع الطاقة المهدورة:

العمليات الصناعية تنتج كميات ضخمة من الحرارة المفقودة في غازات العادم أو مياه التبريد.

ومن خلال تكنولوجيا "Heat Recovery" يمكن إعادة استغلال هذه الحرارة في عمليات تسخين أخرى أو تحويلها مباشرة إلى كهرباء عبر التوربينات البخارية الصغيرة. هذا الباب يمثل إحدى أعظم الفرص لتحقيق كفاءة أعلى وتقليل الهدر.

6- إدارة الأحمال والتوازن الكهربائي:

تستَعمل بعض المنشآت إستراتيجيات لإدارة الطلب الكهربائي بحيث تُوزِّع الاستهلاك على ساعات اليوم لتجنُّب أوقات الذروة التي تكون فيها التعرفة مرتفعة والانبعاثات الصادرة من المحطات أعلى.

وتساعد هذه السياسة على خفض تكلفة الطاقة وتقليل الضغط على الشبكة الوطنية؛ ما ينعكس بدوره على خفض الانبعاثات الناتجة من محطات التوليد.

العلاقة المباشرة بين إدارة الطاقة وتقليل البصمة الكربونية

البصمة الكربونية تعبر عن إجمالي كمية الانبعاثات الغازية، خصوصًا ثاني أكسيد الكربون، الناتجة عن الأنشطة المختلفة.

وكلما كان استهلاك الطاقة في المنشأة مرتفعًا زادت البصمة الكربونية.

وعليه فإن أي إجراءات لخفض استهلاك الطاقة أو تحسين كفاءتها تترجم مباشرة إلى خفض في كمية الانبعاثات.

على سبيل المثال، تحسين كفاءة محرك كهربائي في مصنع لتقليل استهلاك الكهرباء بنسبة 10% يعني تقليل كمية الكهرباء المطلوبة من الشبكة، ومن ثم تقليل كمية الوقود الأحفوري الذي ستحرقه محطات التوليد، وهو ما ينعكس على انخفاض مباشر في الانبعاثات.

إضافة إلى ذلك، إدخال الطاقة المتجددة في مزيج الاستهلاك الصناعي يزيل جزءًا من الطلب على الوقود التقليدي؛ ما يؤدي إلى خفض إضافي ومستدام في البصمة الكربونية.

كما أن تطبيق أساليب الاسترجاع الحراري وإعادة استعمال الطاقة المهدورة يُسهِم في منع إطلاق طاقة حرارية غير مستفاد منها للغلاف الجوي، ومن ثم يقلل أيضًا من التأثيرات السلبية في البيئة.

العوائق والتحديات أمام تطبيق إدارة الطاقة

رغم الفوائد الكبيرة؛ فإن المنشآت الصناعية تواجه عدة تحديات في تطبيق أنظمة إدارة الطاقة، من أهمها:

1. التكلفة الاستثمارية الأولية: فبعض تقنيات كفاءة الطاقة أو مصادر الطاقة المتجددة تتطلب استثمارات ضخمة، وقد تتردد الشركات في ضخ رأس المال دون رؤية فوائد مباشرة سريعة.

2. نقص الخبرة والمعرفة: إذ تفتقر بعض المنشآت إلى الكفاءات الفنية التي تستطيع تنفيذ مراجعات طاقية متقدمة أو التعامل مع نظم تحكم رقمية حديثة.

3. مقاومة التغيير: إذ قد تميل الإدارات إلى الحفاظ على طرق التشغيل التقليدية الراسخة خشية المخاطر التشغيلية المرتبطة بتغيير التكنولوجيا.

4. تذبذب التشريعات والدعم الحكومي؛ فنجاح مشروعات إدارة الطاقة يعتمد أحيانًا على سياسات داعمة، مثل تقديم إعفاءات ضريبية أو حوافز للاستثمار في الطاقة النظيفة. غياب هذه السياسات أو عدم استقرارها يشكل عقبة حقيقية.

قياس البصمة الكربونية

أبعاد مرتبطة بالمسؤولية المجتمعية والاستدامة المؤسسية

إدارة الطاقة لم تعد مجرد قرار اقتصادي، بل أصبحت عنصرًا رئيسيًا في تقارير الاستدامة التي تصدرها الشركات سنويًا.

حيث تُقاس الشركات اليوم بمدى مساهمتها في الأبعاد البيئية والاجتماعية وحوكمتها الداخلية (ESG).

ومن خلال تقليل بصمتها الكربونية عن طريق إدارة الطاقة، تستطيع المؤسسات الصناعية أن تبرز التزامها بالمسؤولية المجتمعية؛ ما يعزز سمعتها أمام المستثمرين والعملاء والسلطات التنظيمية.

علاوة على ذلك، أصبحت بعض الأسواق العالمية، مثل الاتحاد الأوروبي، تفرض معايير صارمة تتطلب الكشف التفصيلي عن بصمة الكربون للمنتجات.

ومن ثَم فإن إدارة الطاقة تصبح شرطًا تقنيًا وعمليًا لدخول هذه الأسواق وتنافسية المنتجات.

المستقبل والتحولات المرتقبة

من المتوقع أن تؤدي إدارة الطاقة دورًا محوريًا في العقود المقبلة في ظل تسارع التحولات العالمية نحو اقتصاد منخفض الكربون.

ستركز المصانع على دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في منظوماتها لضمان مراقبة آنية دقيقة لأدق تفاصيل استهلاك الطاقة.

كما ستزداد أهمية الابتكار في مواد وتقنيات إنتاج جديدة أقل استهلاكًا للطاقة، وهو ما قد يغير طبيعة العمليات الصناعية ذاتها.

بالإضافة إلى ذلك فإن التشريعات ستزداد صرامة فيما يتعلق بالانبعاثات؛ ما سيجبر الشركات على تعزيز جهودها في إدارة الطاقة، خاصة مع تطبيق ضرائب كربونية في كثير من الدول.

إدارة الطاقة في المنشآت الصناعية ليست خيارًا تكميليًا بل أصبحت ضرورة حاسمة لتقليل البصمة الكربونية وتحقيق الكفاءة الاقتصادية في آن واحد.

من خلال تطبيق تقنيات حديثة وتحولات تنظيمية وهيكلية، تستطيع هذه المنشآت أن تقلل من استهلاك الطاقة والاعتماد على الوقود الأحفوري، ومن ثَم تُسهِم في الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي.

ورغم وجود تحديات اقتصادية وفنية؛ فإن الفوائد الاقتصادية والبيئية والاجتماعية المترتبة تجعل الاستثمار في إدارة الطاقة رهانًا مضمونًا على المستقبل.

إن التحسين المستمر في كفاءة الطاقة، والاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة، وتبني تقنيات الرقمنة الذكية، تشكل جميعها معًا الركائز الأساسية لصناعة أكثر مسؤولية وقدرة على التكيف مع تحولات الاقتصاد الأخضر العالمي.

* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق