الحوكمة البيئية.. كيف تساعد الجزائر في مواجهة تحديات تغير المناخ؟ (مقال)
منال سخري*
تعدّ الحوكمة البيئية من العناصر الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة ومواجهة التغيرات المناخية، إذ يرتبط نجاحها على المستويات المحلية بتفعيل دور الجماعات المحلية في إدارة الموارد البيئية وحمايتها.
وفي الجزائر، حيث تتداخل التحديات المناخية مع الخصوصيات الجغرافية، يصبح من الضروري تعزيز قدرة هذه الجماعات على مواجهة التغيرات البيئية، من خلال آليات فعالة وإرادة سياسية قوية، مما يتطلب إطارًا قانونيًا مرنًا ومؤسسيًّا يضمن المشاركة المجتمعية، والشفافية، والمسؤولية في اتخاذ القرارات البيئية.
وعلى المستوى المحلي، تتوقف الحوكمة البيئية على مدى قدرة الحكومة على تمكين الجماعات المحلية من معالجة المشكلات البيئية عبر تعزيز مبادئ المساءلة، والشفافية، والمحاسبة، والمشاركة، والعدالة، مما يسهم بدوره في تحقيق التنمية المستدامة.
غير أن نجاح الحوكمة البيئية يتطلب وضعها ضمن إطار أشمل يتصل بمسعى الدولة لحوكمة سياساتها العامة، إذ تُعدّ السياسة البيئية جزءًا من السياسة العامة للدولة، مما يعني ارتباطها الوثيق بالنسق العام للدولة عمومًا.
تحقيق الرفاهية المستدامة
يُعدّ قطاع البيئة قطاعًا إستراتيجيًا وقوميًا، لما يمثّله من مخزون طبيعي للموارد الضرورية لكل القطاعات، مما يبرز الحاجة إلى إدارته بكفاءة وحوكمة رشيدة لتحقيق رفاهية مستدامة ومنفعة عامة.
وبالرغم من تنوّع الجزائر الكبير في مناخها وبيئتها، فإن موقعها الجغرافي في حزام هش بالقارة الإفريقية يجعلها عرضة للتغيرات المناخية وظواهر الطقس المتطرفة.
لذلك، أصبح من الضروري تكييف السياسات العامة وأدوار المؤسسات، مثل الحكومة، والجماعات المحلية، والمديريات الولائية، والعدالة، إلى جانب الفاعلين غير الرسميين بصفة منظمات المجتمع المدني، والإعلام، والمواطنين، بما يتماشى مع التحديات الراهنة والمستقبلية.
وترتبط تحديات مثل الأمن المائي، والأمن الغذائي، والأمن الصحي، جميعها بإدارة الموارد بطريقة مستدامة، وتمثّل تهديدًا للأمن القومي، ما يستدعي معالجة استباقية لتجنّب دفع تكاليف باهظة مستقبلًا.
حماية البيئة في الجزائر مدعومة بإطار قانوني واسع النطاق، إذ يتقاسم العديد من القطاعات والجهات الفاعلة مسؤولية تنفيذها، ومع ذلك، فإن التشابك والتداخل بين هذه الأدوار يحدّ من فعالية الجهود المبذولة.
هنا يبرز الدور المحوري للجماعات المحلية، خاصة مع خضوع الإطار القانوني المنظّم لعملها حاليًا للمراجعة، ما يفتح الباب لتعزيز دورها في مواجهة التحديات البيئية بفعالية أكبر.
دور الجماعات المحلية في تحقيق الحوكمة البيئية
تعدّ الجماعات المحلية محورًا أساسيًا في تحقيق الحوكمة البيئية، كونها الجهة الأقرب إلى المجتمعات المحلية والمكلفة بتنفيذ السياسات البيئية وضمان استدامة الموارد الطبيعية.
ومع الطبيعة المحلية للعديد من المشكلات البيئية، يصبح دور هذه الجماعات ضروريًا لتقديم حلول فعّالة ومتكاملة تعزز جهود الدولة في مواجهة التحديات البيئية.
إدارة الموارد البيئية
تضطلع الجماعات المحلية بمسؤولية التخطيط وإدارة الموارد الطبيعية على المستوى المحلي، مثل الأراضي الزراعية، والغابات، والمياه.
وتتيح هذه الإدارة إمكان وضع سياسات تأخذ بالحسبان الخصوصيات البيئية لكل منطقة، مما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة.
ترجمة السياسات إلى واقع
تُعدّ الجماعات المحلية صلة الوصل بين السياسات الوطنية والمجتمعات المحلية، إذ يقع على عاتقها تطبيق القوانين البيئية ومتابعة الالتزام بها.
كما تراقب الأنشطة التي قد تُلحق ضررًا بالبيئة، مثل التلوث الصناعي أو البناء العشوائي، مما يضمن تنفيذ السياسات البيئية بفعالية على أرض الواقع.
تعزيز المشاركة المجتمعية
تشكّل الجماعات المحلية ركيزة أساسية لتعزيز مشاركة المواطنين والمجتمع المدني في اتخاذ القرارات البيئية، إذ يؤدي هذا النهج التشاركي إلى تحقيق الشفافية والعدالة في إدارة الموارد، بالإضافة إلى زيادة فرص نجاح المشروعات البيئية.
التثقيف البيئي
تؤدي الجماعات المحلية دورًا بارزًا في نشر الثقافة البيئية وزيادة الوعي بالمخاطر المرتبطة بتغير المناخ، ومن خلال الحملات التوعوية والأنشطة التعليمية، يُعزَّز الوعي الجماهيري بأهمية الحفاظ على البيئة وممارسات التنمية المستدامة.
بناء شراكات محلية ودولية
تمتلك الجماعات المحلية القدرة على إقامة شراكات مع منظمات غير حكومية، ومراكز بحثية، وجهات دولية مانحة لدعم تنفيذ مشروعات بيئية مستدامة، وتوفر هذه الشراكات تمويلًا وخبرات إضافية تسهم في تحسين جودة العمل البيئي.
الإطار القانوني لتعزيز الحوكمة البيئية
يُبرز القانون 12-07 دور الولاية في حماية البيئة من خلال مجموعة من المهام، مثل حماية وتوسيع الأراضي الفلاحية، والحفاظ على الممتلكات الغابية، والتدخل للوقاية من الكوارث، والمشاركة في مخططات تهيئة الإقليم، بالإضافة إلى الإشراف على أشغال التطهير والصرف الصحي.
أمّا القانون 11-10 المتعلق بالبلدية، فقد ركّز على حماية التراب البلدي والموارد المائية، وإدارة النفايات، ومكافحة الأمراض المتنقلة، وحماية الأراضي، مع الحفاظ على نظافة البيئة والمحيط.
ورغم هذه الأطر القانونية، فإن التعامل مع البيئة يستدعي مراجعة شاملة وهيكلة جديدة، إذ يتطلب ذلك إصلاحًا على مستوى الجماعات المحلية والإدارة المركزية، بما يشمل المؤسسات المعنية والتشريعات المنظمة.
كما تبرز أهمية إعادة قراءة القوانين ذات الصلة، وعلى رأسها قانون حماية البيئة في إطار التنمية المستدامة (03-10) وقانون تسيير النفايات (01-19)، إذ تشكّل هذه النصوص الإطار الأساس الذي يُنظّم أدوار الجماعات المحلية في مجال حماية البيئة.
تحديات وآليات تعزيز الحوكمة البيئية
تؤدي الجماعات المحلية دورًا أساسيًا في تحقيق الحوكمة البيئية، إلّا أنها تواجه العديد من التحديات التي تعوق تحقيق أهدافها.
وتتطلب هذه التحديات حلولًا مبتكرة وإستراتيجيات شاملة لتحقيق تنمية بيئية محلية مستدامة.
تحديات التمويل وتحقيق الاستقلالية المالية
- غياب آليات تمويل فعّالة: وجود المخططات والإستراتيجيات دون توفير التمويل الكافي يجعلها مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق.
- الحاجة إلى تمويل ذاتي: يجب أن تتحول الجماعات المحلية إلى جهات منتجة وخالقة للثروة، من خلال استغلال مواردها المحلية.
- اقتراح إنشاء صندوق بيئي أخضر: يمكن أن يُخصَّص هذا الصندوق لتمويل المشروعات البيئية والاستثمار فيها، مما يشجع على الابتكار وتوفير الوظائف الخضراء.
تعزيز الشراكة والمشاركة المحلية
• الشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني: هذه الأطراف الأقرب للمواطنين والأكثر وعيًا بمشكلاتهم، مما يسهم في تقويم السياسات البيئية.
• تفعيل آليات الحوكمة المحلية: شرط ضروري لتعزيز التعاون بين الجماعات المحلية والقطاعات المختلفة.
نقص الوعي البيئي والتدريب
- ضعف الوعي لدى المسؤولين المحليين: يشكّل غياب الفهم العميق للمسائل البيئية عقبة أمام اتخاذ القرارات المناسبة.
- الحاجة إلى تأهيل الموارد البشرية: يجب توفير برامج تدريبية وورش عمل لتعزيز مهارات الكوادر العاملة في القطاع البيئي.
تشجيع الابتكار والتطبيق العملي
• التعاون مع الجامعات ومراكز البحث: ربط التخصصات الجامعية بالاحتياجات البيئية المحلية، وتشجيع البحث العلمي التطبيقي.
• الانتقال من التنظير إلى التنفيذ: يجب أن تتحول مخرجات الملتقيات البيئية إلى تطبيقات عملية ميدانية مدعومة بالرقابة والتقييم المستمر.
استغلال الخصوصيات المحلية وتوظيف الكفاءات
- تطوير مراكز الرصد والإنذار المبكر: للمتابعة المستمرة لحالة الموارد الطبيعية وحمايتها وفقًا لخصوصيات كل منطقة.
- دمج الشباب المتخرج في التنمية المحلية: توظيف الكفاءات الوطنية لابتكار حلول تتناسب مع التحديات البيئية في مجتمعاتهم المحلية.
ربط الحوكمة البيئية بالسياسات الاجتماعية
• مكافحة الفقر والبطالة: الوظائف الخضراء يمكن أن تكون أداة فعالة لتحقيق التنمية ومحاربة الفقر في المناطق المحلية.
• تمكين المرأة: التنسيق مع المجتمع المدني لدعم المرأة في المجتمعات المحلية، حيث تمتلك النساء الجزائريات قدرات متميزة إذا ما تَوفَّر لهن الدعم اللازم.
الإرادة السياسية دعامة للحوكمة البيئية
تُعدّ الحوكمة البيئية مسألة حاسمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإرادة السياسية للدولة وبالرؤية الإستراتيجية للقطاع البيئي، فالأمر لا يقتصر على إحياء المناسبات البيئية أو توقيع الاتفاقيات، بل يتعلق بإدارة وحماية الموارد الوطنية وتحويل البيئة إلى قطاع منتج ومستدام يستثمر في مقدّراته المحلية والوطنية.
ونجاح الجماعات المحلية في تحقيق الحوكمة البيئية يعزز من الشفافية والمشاركة المجتمعية، مما يسهم في تنمية روح الانتماء لدى الشباب، ويُحفّز التنمية المحلية.
وبذلك، تصبح الجماعات المحلية مدنًا خضراء وأقطابًا اقتصادية مستدامة تسهم في بناء مستقبل بيئي واقتصادي أفضل.
إن تحسين الحوكمة البيئية على المستوى المحلي هو عملية حاسمة لضمان الاستدامة البيئية والتنمية المحلية المتوازنة.
ويتطلب ذلك تكامل الجهود بين السلطة المركزية والجماعات المحلية، مع دعم شامل من المجتمع المدني والقطاع الخاص.
من خلال إصلاح الإطار التشريعي وتعزيز الوعي البيئي، يمكن أن تصبح الجماعات المحلية في الجزائر نماذج رائدة بتحقيق التنمية المستدامة، وتحقيق الأهداف البيئية على المدى الطويل.
* د.منال سخري - أستاذة وخبيرة في السياسات البيئية والتنمية المستدامة.
*هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- سياسات ترمب المنتظرة.. هل يزيد إنتاج النفط الأميركي ويلغي قوانين تغير المناخ؟ (مقال)
- تغير المناخ.. المجتمع المدني شريك لوضع سياسات مستدامة للجزائر (مقال)
اقرأ أيضًا..
- التنقيب عن النفط والغاز في مصر.. تطورات المنافسة على الاحتياطيات الضخمة (تقرير)
- قطاع الطاقة في سوريا يُظهر معاناة 14 عامًا من الحرب.. ماذا بعد؟
- محطات الغاز المسال العائمة.. حل سريع أم رهان مكلف للسوق الآسيوية؟