التغير المناخيرئيسيةمقالات التغير المناخيمقالات منوعةمنوعات

تجارة الكربون.. بين إنقاذ العالم و"بيع الوهم" (مقال)

كيف تبيع الشركات الملوثة أشجار أفريقيا وتحقق أرباحًا طائلة؟

الدكتور عبدالله النعيمي

‏في أمسية باردة من شهر ديسمبر/كانون الأول 2023، كنت قد انتهيت من كلمة ألقيتها لإحدى الشركات العالمية حول الحاجة الملحّة إلى الحدّ من انبعاثات غازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري.

كان معرض "إكسبو" (Expo) في دبي بالإمارات يضج بالنشاط والناس، الجميع جاء يشارك في ملتقى الأطراف المعني باتفاقية باريس من محاضرين ‏وممثلي المنظمات الدولية وباحثين وعلماء، بجانب زعماء العالم‏ وساسته ‏وشركات تُعنى بالطاقة، وأخرى جاءت لتسويق منتجاتها، في مشهد بديع يسر الناظرين.

‏سعدت وأنا في طريقي إلى المخرج برؤية ابني سيف ينتظرني عند المدخل؛ قد جاء داعمًا لي وللاحتفال بفوز فريقه في بطولة محلية.

قال سيف: "لقد أعجبني ما قلتَه في المحاضرة! وأنا فخور بك كالعادة"، قلت له: "شكرًا يا بني، وأنا فخور بك أيضًا، وبما حققته في مسيرتك القصيرة، وأتوقع لك شأنًا كبيرًا في المستقبل في حياتك العملية".

تحركنا سيرًا إلى مطعم مريح بالقرب من إكسبو، حيث حجزنا طاولة، طلبنا طعاما وشرابًا و تحدثنا كثيرًا، أخبرني سيف عن مشروعاته المستقبلية ‏وعن استثماراته الصغيرة، وأنه يخطط للانتقال من عمله الحالي إلى إحدى الشركات العالمية، كما أخبرته عن عملي و عن التحديات التي أواجهها في العودة إلى المحاضرات والتدريس، ‏كانت متعة حقيقية في الحوار، شعرنا برابطة قوية من الود والتقدير.

‏وبينما نحن نهمّ بالخروج من المطعم، رأينا وجهًا مألوفًا يتجه نحونا، كان "علي"، صديقٌ لسيف من أيام الجامعة، بدا سعيدًا ‏واثقًا، وهو يرتدي بدلة وربطة عنق، يحمل في يده حقيبة صغيرة، وبدت ابتسامته على وجهه.

وسيط الكربون

قال علي مبتسمًا: "كيف تسير الأمور؟ ‏لم أركم منذ وقت طويل"، رحّبنا به، وسألنا عنه وعن عمله بعد أن أنهى دراسته في إدارة الأعمال،‏ ردّ بشغف، إنه يعمل وسيطًا لتعويض الكربون، ف‏هذا المجال ‏"فيه خير، ويمثّل تجارة المستقبل".

سألته بفضول: "وسيط تعويض الكربون؟ ما الذي تقوم به لتعويض الكربون؟"، قال مبتسمًا: "إنها طريقة سهلة وفاعلة لمواجهة تغير المناخ، ‏فكما تعلمون هناك العديد من الأفراد والشركات الذين يريدون خفض بصمتهم الكربونية والتقليل من إسهامهم في الاحتباس الحراري، لكنهم لا يملكون الوقت أو الموارد للقيام بذلك. لذا هم يشترون مني تعويضات الكربون، وهي شهادات تُثبت أنهم دعموا مشروعات تقليل أو تَجنُّب أو إزالة انبعاثات الغازات الدفيئة في أماكن أخرى من العالم، على سبيل المثال، أشتري أشجارًا في أفريقيا و أبيعها بوصفها حاضنات للكربون، و‏تمتص هذه الأشجار ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وتخزّنه في جذورها، وأوراقها، حيث تتغذى عليه وتنمو".

‏وتابع: "لديّ فريق من الخبراء الذين يقومون بالتحقق من جودة وكمية هذه الأشجار والغابات التي من خلالها تُنفَّذ عمليات البيع والشراء، ‏ويستعمل فريق الخبراء صورًا من الأقمار الصناعية والطائرات دون طيار وأجهزة استشعار لمراقبة ومتابعة نمو الأشجار وصحّتها".

"كما يستعملون نماذج و خوارزميات متطورة لحساب كمية ثاني أكسيد الكربون الذي تلتقطه هذه الأشجار و تخزّه".

واستطرد قائلًا: "هذه الغابات هي الحل الأمثل لعلاج تغيير المناخ، و لتحقيق أهداف التوازن الصفري".

‏سألته: "ماذا عن الغازات الأخرى التي تسهم في الاحتباس الحراري يا بني؟".

سألني والحيرة تملأ وجهه: "غازات أخرى؟ ‏وما تلك الغازات الأخرى التي تؤثّر في ظاهرة الاحتباس الحراري؟".

فأجبته بسرعة: "هناك يا علي غازات أخرى تحبس الحرارة في الغلاف الجوي، وتتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري، مثل غاز الميثان وغاز أكسيد النيتروز وكذلك الغازات المفلورة، إذ تحتوي هذه الغازات على تركيز أقلّ من ثاني أكسيد الكربون، لكنها تمتلك القدرة الأعلى على الاحتباس الحراري؛ ما يمكّنها من احتجاز حرارة أكثر من ثاني أكسيد الكربون خلال مدة زمنية معينة".

غازات الدفيئة الأخرى

يمتلك سداسي فلورايد الكبريت -وهو من غازات الدفيئة، كما أنه غاز مفلور- قدرة على الاحتباس الحراري تبلغ 23,500 ضعف ثاني أكسيد الكربون، كما أن هذه الغازات تتزايد بسرعة كبيرة، لكنها أقل شهرة وأقل رصدًا، ألا تعتقد ‏يا بني أن هذه الغازات تشكّل تهديدًا مستقبليًا للمناخ؟

فردَّ عليّ وما زالت الحيرة والتردد يملآن عينيه: "‏أنت تقلق أكثر من اللازم يا عمي. هذه الغازات ليست تحديًا كبيرًا؛ فلها اليوم تأثير قليل بالمناخ، ويمكن تجاهلها و والاهتمام بالغاز الأكثر تركيزًا، ‏كما أن هذا ‏ليس من شأني، فهمّي -الآن- يتركز على بيع أكبر عدد ممكن من الغابات، وكسب أكبر قدر ممكن من المال، هذه هي الطريقة التي نساعد بها الكوكب، وهي الطريقة التي أُسهم من خلالها بإنقاذ العالم".

‎هززتُ رأسي بشعورٍ بخيبة الأمل وعدم الرضا، مدركًا أنّ عليًّا لم يكن وسيطاً لتعويض الكربون، بل محتالًا حالمًا لا يعرف قدرة الكربون. فهو لم يكن يساعد الكوكب، بل كان يؤذيه، و هو لم يكن لينقذ العالم، بل يسهم في تدميره.. كان يبيع الوعود الكاذبة والحلول المزيفة للعملاء المطمئنين والجهلاء.. لقد كان يستغل الخوف والشعور بالذنب لدى الأشخاص والشركات الذين أرادوا القيام بشيء جيد للبيئة، لكنهم لم يعرفوا كيف.. وكان يستغل نقص الوعي والتنظيم في سوق تعويض الكربون، ويصنع ثروة من الاحتيال.. إنّ عليًّا يبيع الوهم دون خجل.

نظرتُ إلى سيف، الذي كان -أيضًا- مصدومًا ومشمئزًا من كلام عليّ.. قررنا إنهاء حديثنا مع عليّ ومغادرة المطعم.. لم نرغب في إضاعة وقتنا وطاقتنا على شخص كان أنانيًا وغير أمين.

أردنا الاستمتاع بليلتنا والاحتفال بانتصار فريقنا، أردنا أن ننسى أمر عليّ وخدعته في تعويض الكربون، أردنا أن نأمل أن يكون هناك أشخاص ومشروعات يحاولون -بصدق- تقليل أو تجنّب أو إزالة انبعاثات غازات الدفيئة من الغلاف الجوي، أردنا أن نعتقد أنه ما تزال هناك فرصة للحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل ثورة الصناعة، على النحو المتفق عليه في اتفاق باريس.

أردنا أن نحلم بأنه ما يزال هناك مستقبل لكوكبنا، و أن العالم يستطيع أن يتّفق على إطار قادر على التخلص من المكابرة و بيع الوهم، و العودة إلى المعارف و العلم، وأن مبادلة الكربون و المتاجرة بالغابات و قدرتها الطبيعية على مواجهة الاحتباس الحراري هي نشاطات تكميلية.

غازات الدفيئة تتقلص بزراعة الغابات
غابات في وسط أفريقيا - الصورة من يورإكالارت

‎تعويض الكربون لن يحقق الهدف

تمتص الأشجار غاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء خلال نموها وتُخزنّه، هذه العملية تجعل الغابات أكبر حاضنات للكربون، ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن ننظر إلى أرصدة الكربون بوصفها سببًا لتقليص الإصلاحات في مجال إنتاج الطاقة لدينا، وينبغي أن يكون خفض انبعاثات غازات الدفيئة هو الهدف من أجل منع الكوارث.

إنّ تعويض الكربون لن يحقق -أبدًا- التخفيض المطلوب بصورة منفردة، إذ يفقد العالم أكثر من 7 ملايين هكتار من الغابات سنويًا بسبب الحرائق الطبيعية، والتجريد، وينبغي تعويض هذه الخسارة في مصارف الكربون على كوكب الأرض من خلال إعادة زراعة هذه الغابات والمحافظة على التنوع البيولوجي وتحسينه.

ما نراه اليوم من الترويج لأرصدة الكربون وتجارة الكربون لإنتاج تدفّق الأموال إلى البلدان النامية للحفاظ على مصارف الكربون وتطوير اقتصاداتها هو مخطط قُدِّمَ بديلًا للوعود التي قطعتها الدول المتقدمة لإنشاء صندوق بقيمة 100 مليار دولار سنويًا للمساعدة في التخفيف من الكوارث المناخية بمشروعات لإنشاء محطات للطاقة الجديدة و المتجددة في البلدان الأقلّ حظًا في أفريقيا وآسيا.

* الدكتور عبدالله بلحيف النعيمي رئيس المجلس الاستشاري لإمارة الشارقة، وزير التغير المناخي والبيئة الإماراتي السابق.

* هذا المقال يمثّل رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق