استثمارات طاقة الرياح البحرية تتقلص في أوروبا وأميركا.. والصين صامدة (تقرير)
رجب عز الدين
تواجه صناعة طاقة الرياح البحرية مشكلة تقلص الاستثمارات الجديدة في القطاع منذ العام الماضي (2022)، ولا سيما في أوروبا وأميركا، وسط مخاوف من تأخر خطط تنفيذ مشروعات جديدة بسبب التكاليف، على خلاف التوقعات في الصين.
واضطرت عدة شركات في الولايات المتحدة إلى تأخير خطط بعض المشروعات الضخمة لتوليد الكهرباء النظيفة من الرياح، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة وانعكاساتها على زيادة التكاليف، وفق المعلومات التي اطلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة.
وأعلنت شركة "أفانغريد" القائمة على تطوير مشروع طاقة الرياح البحرية في ولاية ماساتشوستس، إرجاء خطط التنفيذ لعام واحد على الأقل بسبب خلافات مع مسؤولي الولاية حول مراجعة العقود لارتفاع التكاليف، وفقًا لوكالة بلومبرغ الأميركية المتخصصة.
إرجاء 7.2 غيغاواط
تبلغ سعة هذا المشروع المقترح في ولاية ماساتشوستس قرابة 1.2 غيغاواط، أي ما يعادل استهلاك 700 ألف منزل من الكهرباء سنويًا؛ ما قد يجعله من أكبر مزارع الرياح البحرية في الولايات المتحدة.
وأعلن مطورون آخرون لسلسلة مشروعات مماثلة بسعة 6 غيغاواط قبالة الساحل الألماني إرجاء خطط تنفيذها، بسبب ارتفاع تكاليف المواد بصورة باهظة.
ويؤثر تأخر مشروعات طاقة الرياح البحرية بشدة في خطط خفض الانبعاثات وانتقال الطاقة والحياد الكربوني في أوروبا والعالم، كما يمنح الوقود الأحفوري فرصة أطول للبقاء.
وأصدرت هيئة صناعة طاقة الرياح في الاتحاد الأوروبي "ويند يوروب"، توصيات عاجلة للحكومات الأوروبية بضرورة دعم خطط الاستثمار في القطاع وإزالة العراقيل التي تحد من قدرة المستثمرين على طرح المزيد من مشروعات الرياح البحرية والبرية.
وأطلق رئيس "ويند يوروب" جيلز ديسكون، تحذيرًا إلى الحكومات للتنبه إلى حقيقة تقلص استثمارات مجال الرياح البحرية بشدة منذ العام الماضي؛ ما قد يحمل مخاطرة كبيرة لأمن الطاقة في أوروبا، وفق ما اطلعت عليه منصة الطاقة المتخصصة.
العالم يحتاج إلى تريليون دولار
تشير التقديرات المستقبلية إلى أن العالم بحاجة إلى مضاعفة معدلات الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة إلى تريليون دولار سنويًا، للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050.
وتحتاج خطط انتقال الطاقة الأوروبية الطموحة إلى تحقيق هذا المستوى من الاستثمار في أقرب وقت ممكن، والاستمرار عليه حتى عام 2040؛ لتجنب كوارث الاحتباس الحراري، وفقًا لتقديرات منصة "بلومبرغ إن إي إف" المتخصصة في تحليل أسواق الطاقة.
وتختلف طبيعة الاستثمار في مشروعات الطاقة المتجددة بصورة كبيرة عن محطات الكهرباء التقليدية المعتمدة على شراء كميات ضخمة من الوقود الأحفوري بصورة دورية (شهرية أو سنوية) لتشغيلها؛ ما يجعل تكاليفها لاحقة ومتغيرة.
على العكس من ذلك، تعتمد مشروعات الطاقة المتجددة على مصادر تشغيل مجانية مثل الشمس والرياح وعوامل المد والجزر وغيرها؛ ما يجعل أغلب تكاليفها مسبقة عبر تركيب الألواح الشمسية والتوربينات الضخمة ذات التكاليف الباهظة.
طاقة الرياح حساسة
لهذا السبب، يبدو قطاع طاقة الرياح البحرية والبرية شديد الحساسية تجاه عوامل التغير في تكاليف البناء والتمويل، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
ويتخطى حجم التوربينات في بعض مزارع الرياح البحرية ناطحات السحاب، كما تخصص مبالغ طائلة لعمليات الربط الكهربائي بين البحر والشاطئ عبر كابلات النحاس المكلفة، إضافة إلى مخصصات مالية أخرى لعمليات تركيب التوربينات وتثبيتها في البحر.
وتحتاج مشروعات مزارع الرياح البحرية إلى تصميمات هندسية بالغة التعقيد، إضافة إلى بنية تحتية صلبة قادرة على مقاومة تيارات الرياح العاتية، لكنها تتميز عن الطاقة الشمسية بقدرتها على التوليد ليلًا بالمعدلات النهارية نفسها أو أكبر.
كما تزيد قدرتها التوليدية عن مشروعات الرياح الأرضية، إضافة إلى تمتعها بعمر افتراضي أطول قد يصل إلى 25 عامًا في حالة انتظام الصيانة الدورية، خلافًا لألواح الطاقة الشمسية التي يقل عمرها الافتراضي عن ذلك بكثير.
ارتفاع التكاليف عائق
سارعت دول أوروبية عديدة إلى فتح الطريق أمام مشروعات طاقة الرياح البحرية والبرية منذ سنوات؛ ما شجّع القطاع على تحقيقات طفرات نمو قياسية منذ عام 2020.
ويعاني المستثمرون في القطاع مثل غيرهم في جميع الصناعات، ارتفاعَ التكاليف بصورة باهظة منذ الحرب الأوكرانية التي أربكت أوروبا والعالم وقلبت موازين الاقتصاد وأسعار الفائدة والتضخم رأسًا على عقب.
يقول الشريك المؤسس في شركة "باين آند كامبني" الأميركية للاستشارات توماس أرينتس، إن مشروعات طاقة الرياح البحرية تمر بعاصفة كاملة بداية من انخفاض معدلات الربحية حتى اضطراب سلاسل التوريد لجميع المطورين؛ ما يهدد نمو القطاع خلال 2023 وما بعده.
وليست شركات طاقة الرياح البحرية الوحيدة التي تعاني، بل تمتد أزمة التكاليف إلى نظيرتها العاملة في تطوير مشروعات الطاقة الشمسية وصناعة البطاريات في الولايات المتحدة وغيرها.
اليابان وتايوان
ارتفعت النفقات الرأسمالية اللازمة لتطوير مزارع الرياح البرية في الولايات المتحدة بنسبة 16% خلال السنوات الـ3 الماضية الممتدة من 2020 إلى 2022، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
ولا تقتصر مشكلة اضطراب سلاسل التوريد وارتفاع التكاليف على الولايات المتحدة وأوروبا فحسب، بل تمتد إلى اليابان وتايوان؛ حيث يواجه المطورون التحديات نفسها، إلى جانب ضعف العملات المحلية مثل الين؛ ما يزيد من أعبائهم المالية.
وتشجع وحدة أبحاث التحول المناخي في بنك "إتش إس بي سي" البريطاني، على ضرورة مواصلة تذليل العقبات أمام الاستثمار في مشروعات الطاقة المتجددة وتخفيض الضغوط التي يتعرض لها المستثمرون.
وقال رئيس وحدة أبحاث المصرف البريطاني سيب هينبيست، إن العالم ما زال بعيدًا عن تحقيق معدل الانتشار اللازم للطاقة المتجددة لضمان التقدم الصحيح باتجاه خطط الحياد الكربوني بحلول 2050.
الصين تعاني أقل
تنصرف أنظار المراقبين للقطاع إلى الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وأضخم دولة من حيث السكان في العالم (1.4 مليار نسمة تقريبًا).
ومن المتوقع انتعاش مشروعات طاقة الرياح في الصين خلال عام 2023، بعد انخفاضها بصورة كبيرة خلال العام الماضي؛ حيث تمكنت البلاد من التحكم في تكاليف الطاقة والمواد بصورة أفضل من نظرائها في أوروبا وأميركا، وفقًا لمنصة بلومبرغ.
وتسيطر الصين على 60% وأكثر من إنتاج المعادن الأرضية النادرة في العالم، والتي تستخدم في صناعات الطاقة المتجددة بفروعها المختلفة؛ ما يجعل الشركات العاملة في بكين في وضع أفضل من نظيرتها العاملة في أوروبا وأميركا من حيث تكاليف المواد والتشغيل ومعدلات الربحية.
وتضم المعادن الأرضية النادرة التي تسيطر عليها الصين، الليثيوم والكوبالت والنيكل والغرافيت والمنغنيز، وعناصر أرضية أخرى ضرورية في الصناعات الحديثة.
وتستعمل معادن الليثيوم والنيكل والنحاس، على سبيل المثال، في صناعة الألواح الشمسية وتوربينات الرياح وصناعة البطاريات الضخمة اللازمة لتخزين الكهرباء وتشغيل السيارات الكهربائية.
السيطرة على المعادن النادرة
تنشط الشركات الصينية الحكومية والخاصة في عمليات البحث عن المعادن الأرضية النادرة في كل دول العالم منذ سنوات طويلة؛ ما أسهم في ترسيخ أقدام بكين في قطاعات التعدين العالمية بصورة لافتة للنظر.
وتستحوذ الصين في الوقت الحالي على 95% من عمليات تكرير خام المنغنيز عالميًا، وهو عنصر كيميائي حيوي في صناعة البطاريات وتصنيع الصلب، كما تسيطر على معظم سوق معالجة الكوبالت والليثيوم، وفقًا لتقرير صادر عن معهد بيكر لدراسة السياسات العامة في الولايات المتحدة.
وتتسابق الصين مع نظرائها في أوروبا وأميركا والهند على صدارة الاقتصاد العالمي، خلال العقد الحالي، كما تخطط لتعزيز مشروعات الطاقة المتجددة بمعدلات ضخمة في إطار خطط انتقال الطاقة، والوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2060، متأخرة عن منافسيها بنحو 10 سنوات.
توقعات بنسبة 50%
تعد الصين المعقل الأكبر لصناعة طاقة الرياح البحرية في العالم؛ إذ بلغت سعة مشروعاتها 32% من إجمالي السعة العالمية خلال السنوات الـ10 الممتدة من 2010 حتى عام 2020، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وتتوقع منصة "بلومبرغ إن إي إف" أن تضاعف الصين استثماراتها في مشروعات طاقة الرياح البحرية الجديدة خلال عام 2023؛ لتستحوذ على أكثر من نصف السعة المضافة عالميًا.
وينصح الخبراء الحكومات الأوروبية بتعزيز اتفاقيات الشراء طويلة الأجل مع المستثمرين في قطاع الرياح البحرية وغيرها، لضمان نمو القطاع واستمرار جذبه للاستثمارات الخاصة.
خسائر الشركات الأوروبية
تمنح عقود الشراء طويلة الأجل، الشركات الفاعلة في القطاع، قدرًا من الطمأنينة على مستقبل استثماراتهم الضخمة ومعدلات الربحية وعوائد استرداد التكاليف الأولية مع الزمن.
كما تطالب الشركات بتحرير أسعار الكهرباء في أوروبا وتحجيم التدخلات الحكومية في التسعير، لضمان حصولهم على عوائد مجزية في نهاية المطاف، لكن ما يحدث في أوروبا منذ العام الماضي يخالف هذا التوجه.
فقد خصصت الحكومات الأوروبية أكثر من 768 مليار يورو (811 مليار دولار)، لحماية الشركات والمستهلكين من ارتفاع أسعار الطاقة بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ فبراير/شباط 2022 حتى الآن.
كما تفرض السلطات المحلية في الولايات المتحدة أسعارًا محددة للكهرباء على المطورين لا تخضع للمراجعة بسبب معدلات التضخم، أو أي أحداث أخرى طارئة تؤدي إلى زيادة التكاليف.
أميركا ترفض مراجعة العقود
رفضت السلطات المنظمة في ولاية ماساتشوستس تعديل عقود مشروع "كومنولوث ويند" الضخم في قطاع الرياح البحرية بسعة 1.2 غيغاواط؛ ما قد يؤخر توصيل الكهرباء النظيفة إلى 700 ألف منزل بالولاية لسنوات.
ورد مسؤولو الولاية على طلب شركة المرافق" أفانغريد" صاحبة المشروع، برفض تحمل مخاطر ارتفاع التكاليف المزعومة من قبل الشركة، وفق المعلومات التي اطلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة.
وحاولت الشركة -التي تخضع لمجموعة إيبرادرولا إس إيه الإسبانية مالكة أغلبية الأسهم- أن تدفع مسؤولي الولاية لإعادة النظر في عقود المشروع الذي تبلغ تكلفته قرابة 4 مليارات دولار، لكنها تلقت ردودًا مخيبة لآمالها.
وقال مسؤولو الولاية إن الشركات ملزمة بتحمل مخاطر التكاليف، ولا يمكنهم توقع نقل هذه المخاطر إلى دافعي الضرائب بحسن أو بسوء نية، وفقًا لخطاب وصل إلى شركة أفانغريد أواخر شهر فبراير/شباط 2023.
إرجاء مشروعات ماساتشوستس
اضطرت شركة "أفانغريد" الأميركية إلى إرجاء خطط التنفيذ لمدة عام على الأقل، كما لحق بها مشروع شقيق في "مدينة بارك سيتي"، لحين حل مشكلة التكاليف بصورة أو بأخرى، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وعبّر الرئيس التنفيذي لشركة أفانغريد أزاغرا بلازكيوز، الشهر الماضي، عن أسفه لإرجاء خطط المشروع بسبب معدلات التضخم التاريخية والزيادات الحادة في أسعار الفائدة واضطراب سلاسل التوريد، إضافة إلى وجود حد أقصى لسعر شراء الكهرباء في الاتفاقات الطويلة الموقعة مع سلطات الولاية.
لكل هذه العوامل، وجدت الشركة نفسها في موقف يستلزم التوقف وإرجاء خطط التطوير، مع إعلانها أنها ما زالت ملتزمة بإكمال التطوير، دون تحديد أجل لذلك، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
كما يواجه مشروع "ماي فلور ويند" القريب تحديات مماثلة، بعد إصرار السلطات المنظمة على رفض طلب الشركات المطورة بتأجيل الموافقة على عقود الشراء، بسبب التحديات التي فرضتها معدلات التضخم المرتفعة في الولايات المتحدة.
وأقر الرئيس الأميركي جو بايدن قانون خفض التضخم في أغسطس/آب 2022، لدفع مشروعات الطاقة المتجددة بأعلى حوافز في تاريخ الولايات المتحدة.
ورغم ذلك؛ فإن المستثمرين في مشروعات الطاقة المتجددة لا يتوقعون الاستفادة من مزايا هذا القانون إلا بعد سنوات؛ ما قد يؤخر الاستثمارات الجديدة لأعوام.
تضارب مصالح الشركات والحكومات
يواجه المستثمرون في أوروبا ظروفًا أكثر ضبابية، بعد أن فرض قادة الاتحاد الأوروبي ضرائب غير متوقعة على منتجي الطاقة المتجددة خلال العام الماضي.
وأدت هذه الضرائب إلى فقدان جانب كبير من الإيرادات المحققة، وصل إلى 90% في ألمانيا خلال عام 2022، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وتقف الشركات المنتجة للطاقة المتجددة في أوروبا وأميركا في موقف بالغ التعقيد؛ إذ تتعارض خططهم لنمو الأعمال وتحقيق الإيرادات مع خطط الحكومات الأوروبية المأزومة والمرتبكة منذ الحرب الأوكرانية.
ويتطلب نمو أعمال الشركات المنتجة زيادة الدعم الحكومي والسماح بارتفاع الفواتير الشهرية للمنازل والشركات، وكلا الأمرين كارثي وغير مقبول عند قادة الولايات المتحدة وأوروبا على الأقل خلال عامي 2023 و2024؛ ما قد يدفع المنتجين إلى الترقب عامين أو أكثر.
موضوعات متعلقة..
- سيطرة الصين على المعادن الأرضية النادرة تهدد استقلال أميركا (تقرير)
- انخفاض سعة طاقة الرياح البحرية المضافة عالميًا 40% خلال 2022
- أكبر مشروعات طاقة الرياح البحرية في الدنمارك يدخل حيز التنفيذ
اقرأ أيضًا..
- أنس الحجي: داعمو الوقود الأحفوري بعد حرب أوكرانيا كانوا أشد أعدائه
- حقل غاز أنشوا المغربي يشهد تطورات مهمة لبدء الإنتاج.. ورقم ضخم محتمل
- ليبيا تستعد لطرح جولة تراخيص جديدة للنفط والغاز بعد توقف 16 عامًا