لم تسلم ألمانيا بعد -بعكس ما يزعم ساستها- من تداعيات أزمة الطاقة التي أذكتها الحرب الروسية الأوكرانية، رغم ما خصصته برلين من أموال طائلة لتأمين إمدادات الوقود التي تستطيع الاستغناء بها عن نقص تدفقات الطاقة الروسية.
فالبلد الأوروبي يجد نفسه أمام مجموعة من التحديات التي تتعلق بمنظومة شبكة الكهرباء لديه، والتي تتعين عليه مواجهتها فورًا كي يأمن أزمة يرى مُعظم الخبراء أنها لن تختفي على المدى القريب.
وفي سياق جهودها في هذا المسار، خصصت ألمانيا ما يزيد على 260 مليار يورو (275 مليار دولار أميركي) لمواجهة المخاطر الفورية لأزمة الطاقة التي ظهرت في أعقاب الحرب الأوكرانية، لكن تجاوز تلك الأزمة سيكلف برلين فاتورة أعلى بكثير، وفق ما نشرته شبكة "بلومبرغ" الأميركية.
* (اليورو = 1.06 دولارًا أميركيًا)
من المتوقع أن تحتاج منظومة الطاقة الألمانية إلى أكثر من تريليون دولار بحلول نهاية العقد الجاري (2030)، حال أرادت برلين الخروج سالمة من تداعيات أزمة الطاقة التي يصفها البعض بأنها الأسوأ في أوروبا منذ عقود، وفق بيانات تثبتت منها منصة الطاقة المتخصصة.
وتشتمل تلك الفاتورة الباهظة على استثمارات في تحديث شبكات الكهرباء، ومن قبلها، إدارة ملف التخلص من المحطات النووية والمحطات العاملة بالفحم، ومواجهة الطلب المتنامي من السيارات الكهربائية، وأنظمة التدفئة، جنبًا إلى جنب مع الوفاء بالأهداف المناخية.
ويوضّح التصميم أدناه -الذي أعدته منصة الطاقة المتخصصة- واردات ألمانيا من الغاز الطبيعي واستهلاكها:
معضلة تحول الطاقة
سيتطلب تحول الطاقة في ألمانيا تركيب ألواح شمسية تغطي ما يعادل 43 ملعب كرة قدم، وألف و600 مضخة حرارية يوميًا.
كما يتطلب تحول الطاقة بناء 27 مزرعة رياح بحرية جديدة أسبوعيًا، بحسب ما ذكره المستشار الألماني أولاف شولتس، خلال زيارته مؤخرًا لمقر "فولكس فاغن،" عملاقة صناعة السيارات الألمانية، في فولفسبورغ.
وبدوره قال نائب المستشار الألماني وزير الاقتصاد روبرت هابيك والمسؤول -أيضًا- عن الإشراف على تنفيذ سياسات المناخ والطاقة: "هذا مشروع جريء -ربما حتى يكون المشروع الأكثر جرأة- منذ إعادة إعمار ألمانيا"، بحسب تصريحات أدلى بها أوائل شهر فبراير/شباط (2023).
ووفقًا لتقديرات أفرج عنها مركز أبحاث الطاقة الألماني "أغورا إنرجي ويندي"، ستحتاج ألمانيا إلى تركيب سعة جديدة بواقع نحو 250 غيغاواط، وسط توقعات بارتفاع الطلب على الكهرباء بنحو الثلث، مقارنة بما هو عليه الآن.
وتكفي كمية الكهرباء المُولدة المطلوبة لتغطية الطلب الحالي في المنازل بالنسبة لكل مواطني الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 448 مليون.
وستكون تلك الكهرباء المطلوبة مزيجًا من مصادر الطاقة المتجددة، والمحطات العاملة بالغاز، التي تأمل برلين في أن تعمل بالهيدروجين في المستقبل القريب.
ورغم ذلك؛ فإن تحقيق هذا الحلم قد يكون صعبًا -على الأقل في الوقت الحالي- إذ أعلنت الحكومة، هذا الأسبوع، أنها تستعد لطرح مناقصات هذا العام (2023)، للمحطات العاملة بالغاز التي تمثل نحو عُشر تلك السعة، وفق معلومات جمعتها منصة الطاقة المتخصصة.
بل حتى بالنسبة للتوسع في الطاقة المتجددة في ظل أزمة الطاقة؛ فإن بناء مزرعة رياح قد يستغرق ما يصل إلى 7 سنوات نتيجة الإجراءات البيروقراطية في ألمانيا.
ويُظهر الرسم البياني أدناه صادرات روسيا من الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب على أساس شهري:
أزمة أسعار الكهرباء
تخطط شركة "بي إيه إس إف" الألمانية، أكبر مُنتج للكيماويات في العالم، لشطب ألفين و600 وظيفة، في ظل ما تعانيه من تداعيات أزمة الطاقة؛ حيث تحوّلت عمليات المجموعة في ألمانيا إلى الخسارة في النصف الثاني من العام الماضي (2022)؛ ما دفعها إلى غلق عدد من مصانعها التي تستخدم الطاقة بصورة مكثفة، من بينها مصنعان للأمونيا، ومنشآت للأسمدة، ليصل إجمالي الوظائف الملغاة في مقرها الرئيس في مدينة لودفيغسهافن إلى 700.
وقال الرئيس التنفيذي لـ"بي إيه إس إف" مارتن برودرميلر: إن "أسعار الكهرباء المرتفعة الناجمة عن أزمة الطاقة تضع الآن عبئًا إضافيًا على الربحية والتنافسية في أوروبا".
وعزا برودرميلر السبب في ذلك إلى "الإفراط في القواعد التنظيمية، وعمليات إصدار التراخيص البطيئة التي تحكمها البيروقراطية بصورة كاملة".
الطاقة النووية خارج الحسابات
في قلب مُعضلة أزمة الطاقة في ألمانيا، تبرز خُطط سياسية للتخلص من مصادر طاقة معينة دون تحديد المسار الذي يقود إلى إيجاد البديل.
فعلى سبيل المثال، تُخطط برلين لغلق آخر 3 محطات نووية لديها بحلول أواسط أبريل/نيسان (2023)، وتستهدف البلاد الآن تسريع وتيرة إنهاء اعتمادها كليةً على الفحم إلى عام 2030.
وتعاظم هذا التحدي في أعقاب قطع روسيا -مورد الطاقة الرئيس لألمانيا قبل الحرب الأوكرانية- إمدادات الغاز عن الدول الأوروبية الحليفة لكييف.
ومع استبعاد الطاقة النووية والفحم من المنظومة، طرحت ألمانيا محطات لاستيراد الغاز المسال بثمن أعلى، بينما تسعى برلين لتوفير الكهرباء اللازمة لتدوير عجلة اقتصادها القائم أساسًا على الصناعة.
في غضون ذلك، من المقرر أن ترفع السيارات الكهربائية والمضخات الحرارية وأجهزة التحليل الكهربائي اللازمة لإنتاج الهيدروجين، الطلب على الكهرباء بنسبة 33% إلى 750 تيراواط/ساعة بحلول نهاية العقد الجاري (2030)، بحسب تقديرات حكومية طالعتها منصة الطاقة المتخصصة.
إرادة سياسية
بينما يُظهر كل من شولتس وهابيك إرادة سياسية للدفع باتجاه تحول الطاقة؛ فإنهما يحتاجان إلى العون من القطاع الخاص، من بين ذلك استيراد أطنان من الصلب والمواد الخام الأخرى الضرورية لهذا المشروع الضخم، وفقًا لما قالته خبيرة أنظمة الطاقة في مؤسسة "إي 3 جي" البحثية ليزا فيشر.
وعلاوة على ذلك تحتاج ألمانيا إلى الوقوف على كيفية توليد الكهرباء عند انعدام ضوء الشمس والرياح، وتشتمل خُطط برلين حتى الآن على إعداد أسطول من المحطات العاملة بالغاز التي من الممكن أن تعمل لاحقًا بالهيدروجين، رغم صعوبة إيجاد مستثمرين راغبين في تنفيذ تلك المشروعات باهظة التكلفة.
وفي هذا السياق، قالت عضو المجلس الاقتصادي الذي يقدم الاستشارات إلى الحكومة الألمانية فيرونيكا غريم: "في ظل المناخ الحالي، لا يمكن توقع دخول عدد كافٍ من المستثمرين".
وينشأ نقص التمويل من تزايد عدم اليقين في الأسواق، نتيجة أزمة الطاقة، بجانب اللوائح التنظيمية المُبهمة، بحسب ما ذكرته غريم.
مضاعفة الشبكة
تحاول برلين حل أزمة الطاقة عبر تحديث آليات شراء وبيع الكهرباء، وبدأ بالفعل نُخبة من الخبراء والاستشاريين مناقشة الأمر مؤخرًا.
ولعل أبرز التحديات التي تستحوذ على نصيب الأسد من مناقشات هؤلاء الخبراء هي ضمان وصول الكهرباء الخضراء، التي تُنتَج في الغالب في المناطق الساحلية الريفية في شمال البلاد، إلى المصانع والمستهلكين في الجنوب.
ولتحقيق هذا الهدف، تتعين على ألمانيا مضاعفة سعة الشبكة لديها بحلول عام 2030، حسبما يرى الرئيس التنفيذي لـ"إي أو إن" إحدى أكبر شركات تشغيل الطاقة في أوروبا، والتي تدير مساحة قدرها 800 ألف كيلومتر (500 ميل) من شبكة التوزيع في ألمانيا، ليونارد بيرنبوم.
ورغم كل التحديات؛ لا يزال أمام ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في القارة العجوز، بعض الوقت لإعادة ترتيب البيت من الداخل، ووضع الأمور في نصابها، لكنها تحتاج، مع ذلك، إلى التحرك في أسرع وقت.
وفي هذا السيناريو، أكدت فيشتر أن "ألمانيا قادرة على تجاوز الأزمة، لكن ثمة تحديات لا تنظر إليها برلين الآن بصورة كافية".
موضوعات متعلقة..
- عام على الغزو الروسي لأوكرانيا.. دبابات موسكو تقلب موازين الطاقة (تغطية خاصة)
- مسؤول: حظر الغاز الروسي لن يسبب مشكلة لألمانيا
- غازبروم تنقذ فائض الميزانية الروسية وتضاعفه 4 مرات في نوفمبر
اقرأ أيضًا..
- 7 خبراء لـ"الطاقة": الغزو الروسي لأوكرانيا أقل تأثيرًا بعد عام.. وهذه توقعات أسعار النفط
- الجزائر تتصدر صفقات الغاز العربية والأفريقية في العام الأول لحرب أوكرانيا
- حرب أوكرانيا تعزز صفقات الطاقة المتجددة في 4 دول عربية