نقل الغاز إلى أوروبا يشعل المنافسة بين تركيا ومصر.. من يفوز؟
هبة مصطفى
بينما كان للغزو الروسي لأوكرانيا تأثير واسع في اضطراب عمليات نقل الغاز إلى أوروبا والتلاعب بالإمدادات، كان في الوقت ذاته بمثابة "كعكة" أثارت شهية دول عدة لتحل محل موسكو وتصبح المورد الأبرز للقارة العجوز.
وفي غضون ذلك، تسعى تركيا بشتى الطرق إلى تأمين ممرات وخطوط تتيح لها حشد إمدادات الغاز؛ لتعوض غياب تدفقات الدب الروسي، وتنعش اقتصادها.
ورغم تنوع خيارات أنقرة؛ فإن ذلك مقيد بتحديات تعرقل كلًا منها، بحسب ما أوردته وكالة ستاندرد أند بورز غلوبال كومودتي إنسايتس (S&P Global Commodity Insights).
وعلى الجانب الآخر، أثارت المشاورات والاتفاقيات حول تصدير الغاز الإسرائيلي إلى القارة العجوز عبر مصر -والمتواصلة منذ مدة- التكهنات بأن القاهرة قد تدخل في منافسة مع أنقرة لتحديد أي منهما ستمثل بوابة لعبور الغاز ونقله إلى أوروبا، وفق تقارير وبيانات اطلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة.
تركيا تنقل الغاز إلى أوروبا
انطلقت الدول الأوروبية لتبحث عن بدائل للغاز الروسي سواء من خلال شحنات فورية تعزز بها مستويات التخزين قبل فصل الشتاء وارتفاع الطلب على الكهرباء والتدفئة، أو بصفقات طويلة الأمد تضمن تخلصها تدريجيًا من قبضة موسكو حال استمرار الحرب الأوكرانية.
وبالنظر إلى أن تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا، خلال العام الماضي (2021)، بلغت 155 مليار متر مكعب؛ فإن تعويضها يتطلب تطوير قطاع المنبع وكذا خطوط النقل باستثمارات ضخمة للدول الراغبة في أن تُصبح موردًا رئيسًا لدول القارة.
وخلال الأشهر الماضية، تواصلت الجهود لتأمين مصادر نقل الغاز إلى أوروبا، وأخذت القارة العجوز على عاتقها التوسع عبر المصادر المختلفة، وكانت تركيا خير دليل على ذلك باعتبارها منفذًا مشتركًا عبر "ممر الغاز الجنوبي".
وبالنظر إلى كونها جزءًا رئيسًا من الممر؛ باتت أنقرة في قلب نقاط نقل الغاز إلى أوروبا، سواء من أذربيجان، أو بحر قزوين، أو الشرق الأوسط، أو شرق المتوسط.
وتتطلع تركيا إلى أن تتصدر بوابة العبور الرئيسة المخصصة لنقل الغاز إلى أوروبا من خلال مسارين؛ الأول يتعلق بخط أنابيب "تاناب" الذي يمثل البنية التحتية التركية في ممر الغاز الجنوبي، والثاني يتعلق بالبنية التحتية لشركة "بوتاش" المملوكة للدولة واحتياطياتها من الغاز.
الغاز الأذربيجاني.. هل يفي بالطلب؟
ترتبط نقاط العبور -سواء كانت تركيا أو مصر- بالقدرة على ضخ التدفقات بما يفي بحجم الطلب الأوروبي على الغاز؛ لذا تتجه الأنظار إلى قدرات الغاز وحجم الإمدادات المتوقع تصديرها عبر الممرات.
وفي هذه الحالة، قد تكون الإمدادات الأذربيجانية أحد المصادر الموثوقة لنقل الغاز إلى أوروبا؛ ما دفع الطرفين إلى توقيع اتفاق في 18 يوليو/تموز الماضي، يلزم باكو بتصدير 12 مليار متر مكعب إلى أوروبا خلال العام الجاري (2022) وزيادة الصادرات إلى 20 مليار متر مكعب بحلول عام 2027.
ووفق الاتفاق، من المقرر أن تنتقل تدفقات الغاز الأذربيجاني عبر ممر الغاز الجنوبي، غير أن التوقعات حول إنتاج الغاز في أذربيجان ترجح عدم قدرته على الوفاء بالطلب الأوروبي المستهدف ضمن الاتفاق.
وحذّرت شركة النفط البريطانية بي بي -التي تعكف على تشغيل حق "شاه دنيز" الأذربيجاني الذي يوفر الإمدادات عبر ممر الغاز الجنوبي- من أن حجم إنتاج الحقل لا يمكنه توفير الإمدادات المطلوبة لخطط توسعة الممر؛ ما يهدد الخطط التركية لنقل الغاز إلى أوروبا.
وفي ظل شكوك حول قدرة أذربيجان على الوفاء بالتزامات الاتفاقية الأوروبية ولا سيما في ظل انخفاض معدل الإنتاج، شرعت تركيا في البحث عن إمدادات إضافية تمكنها من نقل الغاز إلى أوروبا وكان من ضمنها تركمانستان.
مصادر بديلة
تخطط تركيا، حسبما أعلنت، الشهر الماضي (يوليو/تموز)، إلى استيراد الغاز من تركمانستان، لتوفير الإمدادات اللازمة للضخ في ممر الغاز الجنوبي وتتولى من خلاله نقل الغاز إلى أوروبا، ويشمل الاستيراد من تركمانستان 3 مسارات (الشحن البحري، أو ضمن اتفاقيات المبادلة "المقايضة"، أو بتمريره عبر خطوط الأنابيب).
وتفصيليًا، يمكن لإمدادات الغاز من تركمانستان أن تتبع مسار الشحن البحري ونقل الإمدادات في صورة غاز مضغوط عبر بحر قزوين، أو تدخل في نطاق المبادلة والمقايضة مع إيران بالاستفادة من صفقة قيد التوقيع حاليًا وتوسعتها.
وتقضي الصفقة الحالية بنقل 2 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز التركمانستاني إلى إيران، على أن تلتزم طهران بتوريد كميات مماثلة إلى أذربيجان؛ لتعويض نقص الإنتاج الذي أقرته شركة النفط البريطانية بي بي.
أما الخيار الثالث المتعلق بنقل الغاز التركمانستاني عبر خطوط الأنابيب ضمن محاولات تركيا توفير إمدادات نقل الغاز إلى أوروبا؛ فقد يلقى دعمًا من خط أنابيب بسعة من 10 إلى 12 مليار متر مكعب سنويًا تُنقَل من تركمانستان إلى حقل "إيه سي جي" في أذربيجان عبر بحر قزوين.
ويمكن أن تعوض توسعات ممر الغاز الجنوب المعنية بخط أنابيب جنوب القوقاز في مرحلتها الأولى، محاولات تركيا لتوفير الإمدادات عبر الطرق والمسارات المختلفة.
احتياطيات الغاز للدول المصدرة
في حالة زيادة سعة النقل لخط أنابيب جنوب القوقاز (أحد مسارات ممر الغاز الجنوبي) لتفوق السعة الحالية المقدرة بنحو 25 مليار متر مكعب سنويًا؛ فإن الكميات الإضافية قد تصبح مصدرًا للصادرات الأوروبية وتُنقل من خلال السعة غير المستغلة في خط أنابيب "تاناب" والبنية التحتية لشركة بوتاش التابعين لتركيا.
وتملك شركة بوتاش التركية خطوط ربط مع بلغاريا واليونان الواقعتين في أوروبا، غير أن سعة تلك الوصلات محدودة.
وبالنظر إلى أن زيادة معدل نقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا تتطلب (زيادة الإمدادات، إجراء توسعات في البنية التحتية، زيادة معدل الاستثمار في خطوط الأنابيب)؛ فإن الغاز الإيراني بات وجهة جديدة إلى أنقرة يمكن للبنية التحتية الحالية نقله للقارة العجوز، لكن بكميات محدودة.
ويبلغ معدل الواردات التركية من الغاز الإيراني 9.6 مليار متر مكعب سنويًا، يُنقَل عبر خط أنابيب يتسع إلى نقل 14 مليار متر مكعب سنويًا.
وتملك الدول التي تعول عليها تركيا لتوفير إمدادات تتيح لها نقل الغاز إلى أوروبا احتياطيات ضخمة؛ فعلى سبيل المثال تملك إيران ما يزيد على 32 تريليون متر مكعب؛ بما يجعلها تحتل المرتبة الثانية ضمن أكبر الدول التي تملك احتياطيات غاز في العالم.
وتقدر احتياطيات الغاز في تركمانستان بنحو 13 تريليون متر مكعب بحد أدنى، بينما تبلغ احتياطيات العراق 3.5 تريليون متر مكعب.
تحديات تهدد الطموح التركي
يتوازي الطموح التركي في توفير الإمدادات والبنية التحتية اللازمة لنقل الغاز إلى أوروبا، مع تحديات عدة تقوض طموحها.
وبينما يبدو أن استيراد تركيا الغاز من تركمانستان لنقلها إلى أوروبا هو الأرجح؛ فإن التغلب على قيود حكومة "عشق أباد" على تشريعات الاستثمار في المنبع قد تحد من طموح أنقرة حيالها.
ومن جانب آخر يُعَد التعويل على أي خطوط أنابيب في بحر قزوين مخاطرة في ظل رفض محتمل من روسيا وإيران، حتى طموحات أنقرة نحو استيراد الغاز العراقي قد تصطدم بالخلاف الدائر بين بغداد وحكومة إقليم كردستان.
أما إيران، ورغم ضخامة احتياطياتها؛ فإن العقوبات الأميركية الواقعة عليها أدت إلى خفض معدل تطوير الاحتياطيات والبنية التحتية، غير أن إمكاناتها الضخمة قد تسمح لها بتزويد أوروبا -عبر أنقرة- بتدفقات هائلة من الغاز البحري حال رفع العقوبات.
الغاز الإسرائيلي والقبرصي
يُعَد إنتاج الغاز الإسرائيلي والقبرصي المشترك مصدرًا محتملًا لتزويد تركيا بالإمدادات في إطار طموحها لتتقلد موقع "بوابة" نقل الغاز إلى أوروبا، ولا سيما أن تل أبيب وأنقرة وقعتا اتفاقًا لاستئناف العلاقات الدبلوماسية على الصعيد الرسمي في 17 أغسطس/آب الجاري.
وعقب 4 سنوات من تعليق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، يُشير استئنافها إلى إمكان فتح المجال أمام المباحثات حول الغاز، لكن يبدو هذا الخيار أيضًا مليئًا بتحديات تتعلق بالعلاقات التركية القبرصية.
على الجانب الآخر، يبدو أن إسرائيل قررت ألا تقف مكتوفة الأيدي وتخسر استثمارات ضخمة تنتج عن تصدير الغاز إلى أوروبا نتيجة توتر العلاقات التركية-القبرصية.
ومنذ مطلع العام الجاري (2022)، تعزز إسرائيل صادراتها من الغاز إلى مصر بما قدر بنحو 554 مليون قدم مكعبة يوميًا خلال الربع الأول (الأشهر من يناير/كانون الثاني حتى نهاية مارس/آذار).
وسجّلت صادرات الغاز الإسرائيلية إلى مصر في شهر مارس/آذار وحده 720 مليون قدم مكعبة، وفق بيانات اطلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة.
بينما عرف الغاز الإسرائيلي طريقه إلى مصر منذ يناير/كانون الثاني عام 2020 بعدما دخل حقل ليفياثان حيز التشغيل في العام السابق له.
مصر "بوابة عبور" لأوروبا
بينما تتعثر تركيا في تأمين تدفقات غاز موثوقة أو خطوط نقل مأمونة تضمن اقتناصها لقب بوابة نقل الغاز إلى أوروبا، كانت فرص مصر تزداد تدريجيًا إلى أن حظيت بترحيب واسع من الاتحاد الأوروبي.
وكانت منصة الطاقة المتخصصة قد انفردت -في مايو/أيار الماضي- بنشر ما يفيد بدراسة أوروبا استيراد الغاز الإسرائيلي عقب تسييله (تحويله إلى غاز مسال) في مصر، في إطار سعيها للاستغناء عن الغاز الروسي.
وكان سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر، كريستيان برغر، قد توقع حينها -في تصريحات خاصة إلى منصة الطاقة- التوصل إلى اتفاق رسمي وهو ما نُفذ فعليًا في 15 يونيو/حزيران الماضي.
وشمل الاتفاق الثلاثي الموقّع بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، قبل شهرين، تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عقب إعادة تسييله في القاهرة برعاية منتدى غاز شرق المتوسط.
وتنقذ الوساطة المصرية في تلك الصفقة الطموح الإسرائيلي في تصدير الغاز ونقله إلى أوروبا؛ إذ يتطلب ذلك تخصيص استثمارات ضخمة للبنية التحتية لتأهيلها، وهو ما يشكل تحديًا قويًا تفوقت عليه قدرات الإسالة في القاهرة.
وتتمثل تحديات تصدير الغاز الإسرائيلي -قبيل الوساطة المصرية- في عدم توافر خط أنابيب لربط إنتاج الحقول البحرية في إسرائيل بالمنافذ الأوروبية، غير أن خيار تصدير الغاز الإسرائيلي أولًا إلى مصر لإجراء عملية الإسالة بالاستفادة من البنية التحتية الضخمة في القارة ثم إعادة تصديره إلى أوروبا أصبح خيارًا أكثر قابلية للأطراف كافة.
حل مؤقت
رغم أن الاتفاق بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي وُقِّعَ بالفعل وينتظر إعلان ملامح دخوله حيز التنفيذ، فإن الأستاذ المساعد في جامعة بار إيلان الإسرائيلية، إيلاي ريتيغ، اعتبر أن الصفقة لا توفر حلًا طويل الأجل لأوروبا.
وقال ريتيغ إن الحجم المتوقع من الصفقة ثلاثية الأطراف لنقل الغاز إلى أوروبا يقدر بنحو 2 مليار متر مكعب فقط من الغاز الإسرائيلي، متوقعًا أن البنية التحتية اللازمة لإسالة الغاز في مصر قد تقيد تلك التدفقات إلى معدلات أقل.
وأكد وجود اختناقات في خطوط الأنابيب المخصصة لنقل الغاز من إسرائيل إلى مصر، بالإضافة إلى ارتفاع الطلب المحلي فيهما خلال فصل الصيف لإنتاج المزيد من الكهرباء، حسبما نقلت صحيفة ديلي صباح التركية (Daily Sabah) عن تصريحات له لوكالة الأناضول عقب توقيع الصفقة منذ شهرين.
واقترح ريتيغ مد خط أنابيب بحري يربط بين حقول الغاز الإسرائيلية ومحطات الغاز المسال المصرية بصورة مباشرة، غير أنه أشار في الوقت ذاته إلى أن هذا الحل يستغرق سنوات عدة، ولن يوفر إمدادات فورية لأوروبا تكون بديلة للغاز الروسي.
وقال إن تركيا هي الممر الرئيس الذي يمكنه الربط بين خطوط الأنابيب من أذربيجان والعراق وإيران وإسرائيل وشرق المتوسط؛ لنقل الغاز إلى أوروبا.
ودعا إلى التركيز على مد خط أنابيب يربط إسرائيل بتركيا، بسعة تصل إلى ما بين 10 و16 مليار متر مكعب سنويًا.
اقرأ أيضًا..
- أسعار ألواح الطاقة الشمسية في مصر تقفز 55% (خاص)
- سعر برميل النفط اليوم في الجزائر.. ثالث أغلى خام عالميًا (تقرير)
- تقرير يكشف مصير الغاز المسال الأسترالي في 2023 وحقيقة نقص الإمدادات
- هل السيارات الكهربائية تخاطب الأثرياء فقط؟.. أميركا نموذجًا (تقرير)
- ما السفن السياحية العاملة بالغاز المسال؟.. تقرير يجيب عن 5 تساؤلات