الإصلاح القانوني والمؤسساتي والاقتصادي لقطاع الطاقة في العراق (مقال)
د. لؤي الخطيب*
دأب الكثير من المهتمين بشأن ملف الطاقة في العراق (إنتاج وصناعة النفط والغاز والكهرباء والطاقة المتجددة) على التركيز في طروحاتهم على مناقشة الجانب الفني دون النظر إلى تحديات الموروث الإداري والمؤسساتي والقانوني، هذا فضلًا عن غياب مناقشة الجوانب الاقتصادية والسياسات العامة لهذا القطاع الحيوي والمهم في بناء النظام الاقتصادي للبلاد، مقارنة بالأنظمة الاقتصادية الناجحة في العالم.
يتطرق هذا المقال إلى الخطوات الواجب تنفيذها -عمومًا- لإصلاح قطاع الطاقة العراقي، بما يلبي متطلبات دستور الدولة الاتحادية لعام 2005، ومعالجة الجوانب القانونية والسياقات الإدارية وتنضيج العمل المؤسساتي، لتتحول إلى منتجة ورابحة، ومساندة للنظام الديمقراطي وحامية للسلم الأهلي وضامنة لحقوق الأجيال.
الشركات العراقية
تُعدّ الشركات العامة في العراق والوزارات والدوائر الحكومية المشغل الرئيس للطبقة العاملة في البلاد، إذ تصل نسبة منسوبيها الى 17% من مجموع النسمة السكانية البالغة 41 مليون نسمة، حسب تقديرات وزارة التخطيط لعام 2021، وهذه نسبة كبيرة جدًا مقارنة بالمعدلات العالمية للدول الديمقراطية التي تعتمد اقتصاد السوق منهاجًا لها.
كما تشير الإحصائيات إلى استمرار زيادة هذه الشريحة العاملة خلال السنوات المقبلة، في ظل استمرار نمو النسمة السكانية بنسبة 3% حسب تقديرات البنك الدولي، ما سيُثقل كاهل الموازنات العامة ويولّد ضغطًا على الاقتصاد العراقي بسبب حجم الدعم الحكومي المتزايد لهذه المؤسسات واستنزاف جل الواردات الحكومية من خزينة الدولة دون النظر إلى عوامل الربح والخسارة.
أغلب الشركات العامة المرتبطة بالوزارات في العراق هي خاسرة ومستنزفة لخزينة الدولة، بل ومكرّسة للمحاصصة السياسية في كل مرافقها وأملاكها وتخصيصاتها المالية، ومعطلة لدور القطاع الخاص، وبالتالي هي السبب الرئيس لتراجع الاقتصاد وتحييد مصادر دخل الدولة.
تحديات قطاع الطاقة في العراق
أما بخصوص مجال الطاقة في العراق، فتكمن الأزمة بتشظي هذا القطاع بين 3 وزارات (النفط والكهرباء والصناعة)، وتداخل العمل المؤسساتي بين الجهات التنظيمية (الوزارات) والجهات الخاضعة للتنظيم (الشركات العامة)، بالإضافة إلى غياب الدور القيادي لهذا القطاع وتشرذم أدوار الوزراء الذين تعاقبوا على هذه الوزارات الثلاث، إذ وصل عددهم إلى نحو 30 وزيرًا منذ عام 2003، ما أسهم في تنامي الخسائر وضياع الفرص والتخبط واللااستقرار في الرؤية والتنفيذ، وبالتالي خلق بيئة عمل فاشلة يغيب فيها التنسيق، وتنمو فيها سلوكيات سوء الإدارة والفساد وتضارب المصالح.
يأتي هذا فضلًا عن تعكز العمل الحكومي وسياقاته البيروقراطية على تشريعات مركزية القرار واشتراكية المنهج (سارية المفعول حسب المادة 130 من الدستور) تصطدم مع متطلبات الدستور الاتحادي لعام 2005 في ظل غياب التشريعات الاتحادية التي يجب أن تنتهج اقتصاد السوق واللامركزية في رسم معالم الدولة الاتحادية، مؤسساتيًا واقتصاديًا.
كل هذه التحديات أدت إلى ازدياد الضياعات (الفنية والتجارية) في الطاقة الكهربائية المُنَتَجة إلى 55%، وتدني كفاءة المصافي بنسبة 50%، في ظل دعم حكومي غير مجدٍ لملف الطاقة يُكلف خزينة الدولة إجمالًا لأكثر من 25 مليار دولار سنويًا موزعة بين ثلاث وزارات (النفط والكهرباء والصناعة)، للإيفاء بالتزاماتها تجاه تعرفة الكهرباء المدعومة وتكلفة الغاز والمشتقات المستوردة والمنتجة والمبيعة بالدعم الحكومي.
كل هذا أدى الى ازدياد التجاوزات على الشبكة الوطنية وتنامي جرائم تهريب المشتقات المدعومة، بالإضافة إلى زيادة شح الطاقة أو ما يُعرف بفقر الطاقة الذي يكلف الدولة خسائر صناعية وتجارية (بعنوان الفرص الضائعة) تتراوح بين 17 و20 مليار دولار سنويًا (حسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية)، وتحجيم دور القطاع الخاص في ظل تنامي البطالة بين أوساط الشباب وكذلك البطالة المُقنّعة في المؤسسات الحكومية.
إجراءات لحل أزمة قطاع الطاقة في العراق
يكمن الحل الأمثل لهذه التحديات في تشريع القوانين الاتحادية (المُعَطَّلة) حسب دستور العراق لعام 2005، وتحديدًا قانون النفط والغاز استنادًا إلى المادة 112 من الدستور وقانون توزيع الواردات الاتحادية، استنادًا إلى المادة 106 من الدستور وتأسيس المجلس الاتحادي للطاقة، وهيئة توزيع الواردات الاتحادية، استنادًا إلى هذه التشريعات الاتحادية لخلق قطاع طاقة واعد يضمن أمن الطاقة محليًا، ويجعل من العراق منتجًا عالميًا مُرَجِّحًا للنفط في الأسواق العالمية، وناقلًا إقليميًا في أسواق الطاقة الكهربائية.
وبالتالي يكون قطاع الطاقة في العراق داعمًا ومُسَرّعًا لعملية الإعمار في البلاد بشتى المجالات، ومؤسسًا لبداية صحيحة لتشكيل الصناديق الاستثمارية والسيادية، بهدف تنويع واردات الدولة وتسريع عجلة الإعمار وضمان حقوق الأجيال.
الإصلاحات التشريعية يجب أن تواكبها خطوات الحوكمة الرشيدة وخلق نظام ضريبي رصين وقطاع خاص واعد يكون هو المشَغّل الأساس للشعب، وليس الحكومة، فالأخيرة واجباتها رسم السياسات والإدارة والتنظيم وجباية الضرائب وتنفيذ برنامجها، بحسب عقد اجتماعي متوازن.
وليس بالضرورة تشغيل الشعب على ملاكات حكومية واستنزاف واردات النفط في تمويل وظائف غير منتجة وخلق بطالة مُقَنّعة، لأن مهمة التشغيل ستكون من مسؤولية دور القطاع الخاص والشركات العالمية الرصينة بعد خلق بيئة واعدة للاستثمارات طويلة الأمد، لينتهي مصير واردات النفط في تمويل الصناديق السيادية لتنمية اقتصاد الدولة بصورة مستدامة وحماية حقوق الأجيال وضمان الاستقرار لشبكات الحماية الاجتماعية وإنهاء حالة الفقر والبطالة ودعم ملفات الصحة والتعليم بسياسات سليمة.
مقترحات لحل أزمة قطاع الطاقة العراقي
نستعرض فيما يلي مقترحات لحل أزمة الطاقة في العراق:
- تعديل قانون وزارة الكهرباء رقم 53 لسنة 2017 وفك ارتباط الشركات العامة ذات العلاقة، لتكون مستقلة بعملها على أساس الربح والخسارة، ومن ثم خصخصتها تدريجيًا بمعايير عالمية لجذب الاستثمارات، شرط أن تكون وزارة أو هيئة الكهرباء جهازًا تنظيميًا.
- تشريع قانون اتحادي للنفط والغاز والطاقة استنادًا إلى المادة 112 من الدستور، ينسجم مع متطلبات الاتفاقيات العالمية ذات العلاقة بالبيئة والتكنولوجيا ويكون بديلًا عن قانون 101 لسنة 1976، ويؤسس لوزارة الطاقة (التنظيمية) وفصل الشركات العامة المرتبطة بالوزارة سابقًا لتستقل بعملها التنفيذي.
- فصل الشركات العامة عن الوزارات، لتكون كيانات تشغيلية مستقلة خاضعة للتنظيم من الجهة المنظمة (الوزارة القطاعية المختصة)، لتعمل على مبدأ الربح والخسارة بتمويل ذاتي ودون أي دعم مالي من الحكومة، وفي حال خسارتها، تُصَفّى أصولها. ويُلغى الدعم المالي على التعرفة والوقود والمشتقات ليُربط بمخصصات مالية محدودة للمُسَجلين بشبكات الحماية الاجتماعية حصرًا تُستوفى من ضرائب الشركات وضريبة الدخل بعد تعديل سلم الضرائب، وتحديدًا على القطاع العام.
- تُحدد عائدية أصول ملكية الشركات العامة لوزارة المالية وليس لصالح الوزارة القطّاعية، إذ الأخيرة دورها تنظيمي.
- تتعاون الوزارة القطاعية مع شركة استشارية عالمية مختصة لإعادة هيكلة الشركات العامة وكذلك مجالس إداراتها بضوابط ومعايير عالمية، على أن تتمتع قياداتها بأفراد مختصين ومهنيين بكفاءة عالية ومعايير عالمية وشروط صارمة في الاختيار حتى لو اقتضى الأمر الاستعانة بشخصيات أجنبية إذا لم تتوفر الكفاءات العراقية لملء الفراغ كما حدث في البلدان الخليجية، مع إعادة النظر في هوية أعضاء مجالس إداراتها لتتمتع بشخصيات مرموقة كما هو معمول به عالميًا.
- تقييم أصول الشركات العامة من خلال مؤسسة استشارية عالمية مختصة لغرض إدراجها في سوق الأوراق المالية مع حزمة حوافز استثمارية لجذب رؤوس الأموال وتطويرها في سوق العمل من خلال عرض نسبة من أسهمها للمستثمرين.
- الاحتفاظ بالكوادر الكفوءة للشركات العامة، ونقل الفائض من منتسبيها إلى مراكز مهنية وتدريبية، لتأهيلهم للعمل بمعايير عالمية، ومراجعة الملاكات القيادية والفنية والتجارية واستبدال كوادر مهنية وكفوءة بمعايير عالمية بهم.
- إنهاء حالة تضارب المصالح بين الشركات العامة والوزارة المختصة، بمعنى لا دخل للوزير ودوائر الوزارة بعمل مجالس إدارة الشركات أو اختيار أعضائها أو التدخل بتعاقداتها وسياقاتها التنفيذية.
- بوصفها مرحلة أولية قبل دمج الوزارات المتعلقة بملف الطاقة (النفط والكهرباء والصناعة)، جعل منصب نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة منصبًا دائمًا في الكابينة لدورتين كاملتين ومستقرتين دون استوزاره لأي وزارة أخرى، ليترأس المجلس الوزاري للطاقة بعضوية وزارات النفط والكهرباء والصناعة والمالية والتخطيط، للتركيز على رسم السياسات العامة وتقديم مشروعات القوانين ذات العلاقة لمجلس النواب والإشراف على الإصلاحات المؤسساتية لوزارات النفط والكهرباء والصناعة، وما يتعلق بها من تشكيلات للشركات العامة، ووضع إستراتيجية للطاقة طويلة الأمد، شرط أن من يتسلّم هذا المنصب يكون ضليعًا بالسياسات العامة والاقتصاد في الأنظمة الاتحادية والتعاملات مع الشركات والمؤسسات العالمية والعلاقات الدولية.
متطلبات تنفيذ الإصلاحات
كل هذه الإصلاحات بحاجة إلى إرادة سياسية تضمن دعم الحكومة وعدم التدخل في عملية الإصلاح الاقتصادي بمزاجيات معرقلة لا تمت إلى الاقتصاد وبناء الدولة بصلة. لو تحقق هذا الأمر، لانتهت أزمة البطالة المقنّعة واستنزاف خزينة الدولة ولعبة المحاصصة وقصة الوزارات "الحلوب" وتعطيل تشكيل الحكومات وتعطيل تشريع قوانين الموازنات، بسبب التحاصص على واردات الخزينة العامة وتخصيصاتها، لأن عمل الوزارات سيقتصر على التخطيط ووضع السياسات والتنظيم وتطبيق البرنامج الحكومي بعيدًا عن المهام التشغيلية التي ليست من واجبات الحكومة حصرًا، وإنما للشركات (عامة أو خاصة أو مختلطة) الممولة ذاتيًا التي تعمل على مبدأ اقتصاد السوق في الربح والخسارة بعيدًا عن آفة الدعم الحكومي.
العراق بحاجة إلى لحظة إنقاذ في مجال الاقتصاد والطاقة من خلال اعتماد قيادات تتمتع بقدرات فكرية ومعايير عالمية تكون معروفة ومُعرّفة على المستوى العالمي، تبتعد عن سياسة التفرد والميول الفئوية وتنتهج العمل المؤسساتي وتعتمد خطابًا مهنيًا يكون أداةً لجذب الاستثمارات والمستثمرين العالميين والمحليين لترسيخ الثقة ولاستدراج رؤوس الأموال وتنمية الاقتصاد وضمان حالة التوازن في خلق الشراكات الرصينة مع الأسواق العالمية، والانتقال بالعراق إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي ومرتبة المؤثر على اقتصاديات أمن الطاقة العالمي.
وتُعد هذه هي الضمانة الوحيدة التي ستدفع بالمجتمع الدولي إلى التعاطي مع العراق بصفته مرتكزًا مهمًا لضمان أمنه واستقراره سياسيًا، وبخلاف هذه الخطوات، سيتعرّض العراق لمخاطر الانهيار سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وسيتهدد السلم الأهلي قبل حلول عام 2030.
* الدكتور لؤي الخطيب سياسي عراقي عمل وزيرًا للكهرباء في حكومة عادل عبدالمهدي.
*للتواصل مع الكاتب (هنا).
موضوعات متعلقة..
- جنرال إلكتريك تطرح خطة من 3 محاور لتحول الطاقة في العراق
- ما هي أسباب أزمات الطاقة في العراق؟.. مسؤول سابق يكشف التفاصيل
- تطور جديد لأزمة الطاقة في العراق.. استهداف شركة غاز الشمال
اقرأ أيضًا..
- أكبر خطوط أنابيب النفط والغاز في أفريقيا.. اثنان منها في الجزائر (خرائط وصور)
- خريطة النفط حول العالم في 10 رسوم بيانية.. قبل 3 أزمات عالمية
- قفزة في واردات الصين من الغاز خلال 2021 (إنفوغرافيك)