الهيدروجين الأخضر.. سباق عالمي نحو طاقات المستقبل (مقال)
أحمد فال محمدن
يبدو أن دول العالم على موعد مع سباق جديد على الهيدروجين الأخضر، مع التوجهات إلى تأمين مصادر وقود نظيفة وصديقة للبيئة في ظل المساعي لتحقيق الحياد الكربوني وخفض الانبعاثات.
وبالعودة إلى مطلع القرن الماضي، فقد صاحب اكتشاف الوقود الأحفوري، خاصة النفط والغاز، بزوغ مدة غير مسبوقة من النمو الاقتصادي والازدهار التكنولوجي لم تعرف البشرية له مثيلًا في التاريخ.
وسمح النفط بتطوير مجالات الصناعة الحربية والنقل الجوي والبحري والبري، وأتاح تطوير الصناعات المتعددة وتنمية التجارة الدولية، ومع ذلك أدى الوقود الأحفوري إلى آثار مدمرة على البيئة والمناخ، وشكل مصدرًا لانبعاث غازات ثاني أكسيد الكربون (CO2)، الغاز المسؤول عن تغير المناخ إلى حد كبير.
حراك اجتماعي
شهد عام 2018 ظهور حركة اجتماعية واسعة تطالب بفرض سياسات صارمة، للتخفيف من حدة آثار تغير المناخ في أوروبا وغيرها، إذ تشير الإحصائيات إلى أن 70% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون مرتبطة بإنتاج الطاقة، فقد أدت صحوة الضمير حول مخاطر تلك التغيرات المناخية والزيادة الملاحظة في وتيرة الأعاصير المدمرة واكتساح ظاهرة التصحر والجفاف لمناطق واسعة من العالم من بينها موريتانيا، بالإضافة إلى ذوبان الكتل الجليدية.
كما تسببت آثار التغير المناخي في ارتفاع منسوب مياه المحيطات التي باتت تهدد بابتلاع مدن بأكملها، إلى تشكّل إجماع دولي وصل ذروته خلال قمة المناخ الأخيرة كوب 26 التي انعقدت في مدينة غلاسكو في المملكة المتحدة، حيث شدّد المجتمعون على الحد من زيادة الحرارة إلى مستوى أقل من درجتين مئويتين مقارنة بمستوى العصر ما قبل الصناعي.
وأدّى ذلك إلى تحفيز الإستراتيجيات الوطنية لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، كما نصت عليه توصيات قمة المناخ التي شارك فيها بفاعلية الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، كما أشرف خلالها قطاع البترول والمعادن والطاقة على تنظيم يوم مفتوح حول مقدرات نواكشوط.
يأتي إنتاج الطاقة من الهيدروجين بوصفه أحد الحلول الممكنة، إذ يُصنّف الهيدروجين الأخضر على أنه صديق للبيئة وخالٍ من الكربون، ويُستخرج هذا النوع من الهيدروجين من الماء باستخدام الكهرباء المعتمدة في إنتاجها حصريًا على الطاقات المتجددة، خاصة طاقتي الرياح والشمس.
وتُصنّف هذه التكنولوجيا لإنتاج الطاقة من الهيدروجين على أنها واحدة من أهم مجالات الطاقة النظيفة الرئيسة في العالم، إذ يجري تطويرها خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا والصين.
وسلّطت آرثر دي ليتل -وهي شركة استشارات عالمية- الضوء على قطاع الهيدروجين الأخضر في تقرير جديد لها، إذ أكدت أنه سيستقطب نحو 700 مليار دولار بحلول 2050، موضحة أن العديد من أنحاء العالم أعلنت تنفيذ مشروعات بأكثر من 300 مليار دولار، بما في ذلك 80 مليار دولار للمشروعات التي وصلت إلى مرحلة النضج.
مكانة موريتانيا
تحتل موريتانيا، بمقدراتها الهائلة من الشمس والرياح والمساحات الشاسعة، صدارة دول العالم المهيأة طبيعيًا لإنتاج الطاقة النظيفة على نطاق واسع وتطويرها واستقطاب المشروعات المرتبطة بها.
ولمواكبة تلك التحولات، أطلقت موريتانيا عام 2020 مسارًا لإعداد إستراتيجية وطنية طموحة لتحول قطاع الطاقة، ترتكز على الاستغلال الأمثل لإمكانات البلاد الهائلة من الغاز والطاقات المتجددة على المدييْن المتوسط والبعيد.
وتمكنت موريتانيا -حتى الآن- من رفع نسبة إنتاج الطاقة المتجددة إلى أكثر من 40% من إجمالي إنتاج الكهرباء، وهو ما يمثل أداءً معتبرًا مقارنة بدول القارة.
وستمكّن محطة إنتاج الطاقة الهوائية في بولنوارذات الـ100 ميغاواط من رفع نسبة المزج الطاقوي للبلاد بنسبة كبيرة، إذ ستدخل هذه المنشاة حيز الإنتاج مع تدشين خط الجهد العالي لنقل الكهرباء نواكشوط-نواذيبو بمناسبة احتفالات عيد الاستقلال الوطني.
إمكانات قابلة للاستغلال
تشكل الأشعة الشمسية التي تسطع على جميع مناطق البلاد، وعلى مدار السنة والمساحات الشاسعة المناسبة لإنشاء محطات الطاقة الهوائية والشمسية، في المناطق الشاطئية والصحراوية مزايا معتبرة وعوامل حاسمة في جذب الاستثمار في مجال الطاقات النظيفة بموريتانيا.
وأكدت الأرقام أن متوسط قدرة إنتاج الطاقة الشمسية في موريتانيا يتراوح ما بين 2000 و2300 كيلوواط/ساعة للمتر المربع سنويًا، على عموم التراب الوطني، كما تقدر قوة هبوب الرياح بنحو 9 أمتار إلى 12 للثانية، على مدار العام خصوصًا في المناطق الساحلية.
وتحتل المعدلات صدارة المستويات الأعلى حول العالم، كما تشكل كنوزًا نفيسة لمستقبل الاستثمار الأخضر في موريتانيا، إذا أخذنا بعين الاعتبار التوجه العالمي نحو دعم استغلال الطاقات المتجددة الصديقة للبيئة وتشجيعها.
ومع تطوّر تكنولوجيا استغلال تلك الطاقات وملاحظة انخفاض تكاليف إنتاجها، أصبحت موريتانيا مهيأة بحكم ظروفها المواتية لأن تصبح وجهة عالمية أولى في إطار السباق نحو الاستثمار في طاقات المستقبل.
ومن أجل تحقيق ذلك، عملت موريتانيا على خلق فرص جديدة للاستثمار عبر الشراكة بين القطاع العام والخاص في مجال استغلال مقدرات الطاقات المتجددة، وأطلق قطاع الطاقة مشروعات كبرى لإنتاج الهيدروجين الأخضر عبر شراكات وُقّعت -مؤخرًا- مع الشركات الرائدة في المجال "سي دبليو بي غلوبال" و"شاريوت".
وقود المستقبل
سعيًا منها لتبوء مكانة رائدة عالميًا في مجال السباق العالمي ومساهمة منها في إنقاذ البشرية من المضاعفات المدمرة للتغيرات المناخية، دخلت موريتانيا منذ بداية سنة 2021 بكل ثقة مرحلة إعداد خطتها الطموحة للتحول الطاقوي، ووقّعت مذكرة تفاهم مع شركة سي دبليو بي غلوبال CWP Global لإنشاء أضخم مشروع في العالم لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
ويتضمن مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر تركيب محطات عملاقة للطاقة الهوائية والشمسية على مساحة تتجاوز 85 كلم مربعًا، وبقدرة إنتاجية تصل 30 غيغاواط (30 ألف ميغاواط)، و1.7 مليون طن سنويًا من الهيدروجين، و10 ملايين طن سنويًا من مادة الأمونيا، بالإضافة إلى 50 مليون متر مكعب سنويًا من الماء الصالح للشرب.
ومن المتوقع أن يبلغ إجمالي استثمارات أكبر مشروع لإنتاج الهيدروجين الأخضر نحو 40 مليار دولار أميركي، مع مدة تنفيذ إشغال تتراوح من 8 إلى 10 سنوات وبتشغيل يمتد خلال مدة افتراضية تُقدر بـ40 سنة.
وسيضمن المشروع ريادة موريتانيا في مجال تزويد السوق العالمية بالهيدروجين الأخضر، الذي سيكون حينها أهم مصادر الطاقة حول العالم.
كما سيهيئ المشروع الظروف المواتية لخلق ديناميكية صناعية غير مسبوقة في قطاع الصناعة التحويلية للحديد وفي الصناعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، بالإضافة إلى توفير حوافز قوية لانتقال وتوطين إنتاج وتجميع المعدات اللازمة للمشروع نفسه (توربينات الرياح، الألواح الشمسية، إلخ).
التعاون بين موريتانيا وشاريوت
كما وقعت موريتانيا -مُمَثَّلةً بوزارة البترول والمعادن والطاقة- مذكرة تفاهم مع شركة شاريوت، وهي مجموعة دولية رائدة في مجال الطاقة ورائدة في مجال التحول الطاقوي، تركزت حول مشروع نور، وهو مشروع إنتاج الطاقة بقدرة 10 غيغاواط من الهيدروجين الأخضر.
وتشير مخرجات بعض الدراسات المختصة إلى 3 شروط ضرورية لنجاح مشروعات توليد الهيدروجين الأخضر وهي:
- الإنتاج بتكلفة تنافسية.
- موثوقية الإنتاج والإمداد.
- جذب المستثمرين.
كما أن خفض تكلفة المحلل الكهربائي Electrolyseur سيكون أمرًا بالغ الأهمية لتقليل سعر الهيدروجين الأخضر، لكن ذلك سيستغرق وقتًا وبحوثًا معمقة.
وكخلاصة، تبوّأت موريتانيا مكانتها ضمن طلائع الدول التي بدأت بصفة غير مسبوقة، لكنه فعلي ومدروس، مسار التوجه نحو إنتاج وقود المستقبل، رفقة كل من أستراليا وألمانيا وكوريا الجنوبية وأمريكا والنرويج، لتكون بذلك إحدى أهم الدول المهيأة لاستضافة الاستثمارات الكبرى في هذا المجال، نظرًا إلى البيئة المناسبة والمناخ الاستثماري المشجع والمساحات الشاسعة غير المأهولة والمقدرات الشمسية والهوائية المعتبرة التي تحظى بها بالإضافة إلى قربها من الأسواق الأميركية والأوروبية.
* أحمد فال محمدن- مستشار مكلف بالتعاون والاتصال لدى وزارة البترول والمعادن والطاقة في موريتانيا
موضوعات متعلقة..
- مقال - دور بعض المعادن في خفض تكلفة مشروعات الهيدروجين الأخضر
- أوابك: 8 دول عربية تتسابق في مشروعات الهيدروجين.. وموريتانيا أحدث المنضمين
- مقال - هل تكون الطاقة المتجددة ثروة موريتانيا الجديدة؟
اقرأ أيضًا..
- أرامكو تتجه إلى ماليزيا بعد فشل صفقة ريلاينس الهندية
- جي بي مورغان يتوقع ارتفاع أسعار النفط إلى 125 دولارًا في هذا الموعد