ويلسون وانج*
عندما أعلن السعوديون حرب أسعار النفط في مارس/آذار الماضي، بدأ المحللون والخبراء يتنبّؤون بامتلاء خزانات النفط العالمية. ومنطقهم في ذلك أن انخفاض الطلب العالمي على النفط بنحو 30 مليون برميل يومياً دون خفض السعودية للإنتاج سيؤدي إلى امتلاء الخزانات بحلول شهر مايو/آيار، الأمر الذي سينتج عنه أسعار نفط سالبة. والواقع أن نفط خام غرب تكساس أصبح سالباً، ولكن لأسباب مختلفة تماما: خزانات كوشينغ محصورة داخل أوكلاهوما بعيداً عن الموانئ البحرية دون أي طاقة استيعابية متاحة للسوق، ومضاربون تصرفوا بطريقة غريبة قبل انتهاء عقود نفط غرب تكساس لشهر مايو بيومين. إلا أن ذلك لم يحدث لخام برنت المفتوح على الأسواق العالمية. وإذا نظرنا إلى الوضع اليوم، نجد أن الخزانات لم تمتلأ إطلاقاً، رغم أن مستويات المخزون ارتفعت بحوالي 400 مليون برميل فوق المعدل الطبيعي.
أغلب التوقعات الحالية خاطئة
الأمر هذه المرة يتعلق بأسعار النفط المتوقعة، والتي يقدرها محللو كبار البنوك والشركات الاستشارية. فمحللو بنكي غولدمان ومورغان ستانلي، وغيرهم مثل اتش إس بي سي، توقعوا أن تتراوح أسعار النفط بين 50 و 60 دولاراً للبرميل في عام 2021. والبعض الأخر -مثل انيرجي اسبكتس- رفعوا توقعاتهم إلى 66 دولاراً للبرميل في 2021. (يستحقون الإشادة لقيامهم بتغيير توقعاتهم بعد ارتفاع الأسعار).
وتزداد توقعاتهم تدريجياً بمقدار 5 إلى 10 دولارات سنوياً بعد ذلك، لتعكس نوعاً من التقدم الخطّي في انتعاش أسعار النفط باستمرار. لكن التاريخ يعلمنا أن أسعار النفط نادراً ما تنتعش خطياً. وفي الواقع، ترتفع الأسعار بشكل يشبه مسار قذيفة المدفع عندما تكون في صعود، وبشكل يشبه شلال الماء عندما تكون في نزول. لهذا فإن التوقعات الخطية خاطئة تماماً وثبت فشلها.
وبدلا من ذلك، نطلب من القراء استخدام القليل من التخيّل في مجال توقعات أسعار النفط، والأسئلة الرئيسية التي يتعين أن تثار هي:
- ما العوامل المحركة لأسعار النفط العالمية؟
- ماذا سيحدث لهذه العوامل في السنوات المقبلة؟
بالنسبة لنا، نعتقد أن المحرك الأول لأسعار النفط العالمية يكمن في كيفية استجابة النفط الصخري الأميركي لارتفاع أسعار النفط. نقول ذلك لأن السوق في الولايات المتحدة تفترض أن كل الزيادة في الإنتاج في المستقبل ستأتي من النفط الصخري. ولا يمكن أن نتجاهل طاقة الإنتاج الاحتياطية الموجودة حالياً لدى بعض دول "أوبك+"، إلا أنها محدودة وستوفر شبكة أمان على المدى القصير فقط.
وبدلا من ذلك، ستقوم سوق النفط بتحديد السعر المطلوب للصخري الأميركي لتحقيق النمو الذي يفي بنمو الطلب، ونعتقد أن هذا هو المحرك الأول والأساس لأسعار النفط العالمية ولا يدانيه شيء في الترتيب.
علي سبيل المثال، في ظل تفشي وباء كورونا اليوم، يلعب السوق بحذر لتجنب المخاطر عبر تقييد أي استجابة محتملة لارتفاع أسعار النفط. فمن خلال الإبقاء على أسعار النفط في حدود 40 دولاراً للبرميل، يضمن ذلك مستويات منخفضة من الأنشطة في أحواض النفط الصخري، بينما يتم التأكد في الوقت ذاته من عدم تعرض الإمدادات لمزيد من الانخفاض الناتج عن إغلاق الآبار.
وهذا ينقلنا إلى الموضوع الذي نريد طرحه والتركيز عليه في مقال اليوم، وهو: سوء فهم المحللين لكيفية خروج النفط الصخري من هذه الأزمة.
إن عضويتي في مجلس إدارة شركة طاقة أعطتني نظرة متعمقة حول كيفية تفكير إدارة الشركات العاملة، والطريقة التي يتخذون بها قراراتهم، والكيفية التي سيتفاعلون بها مع أسعار النفط المرتفعة في المستقبل. كما أن عضويتي في مجلس إدارة شركة طاقة، أعطتني معلومات قيمة في شهر آذار/مارس الماضي تفيد بانهيار إنتاج النفط الأميركي والكندي بسبب عمليات إغلاق الآبار. هذه المعلومات التي اكتسبتها من الداخل هي ما يمنحني المزيد من الثقة بصحة رؤيتي لمستقبل النفط الصخري الأميركي. وما يدل على ذلك أن إنتاج النفط الأميركي يستجيب بشكل يتماشى تماما مع طريقة تفكيرنا في التطورات حتى الآن.
بعد انهيار الإنتاج في مايو /أيار، أُعيد فتح جزء كبير من الآبار التي أُغلقت في الولايات المتحدة وارتفع الإنتاج. لكن كل هذا التعافي بلغ ذروته. ورغم استجابة المنتجين في أغسطس/آب بعودة جميع الإنتاج المغلق تقريبا، يستمر إنتاج الغاز المصاحب في الانخفاض. وهذا يوضح لنا أن الانخفاض الأساسي أكبر بكثير مما يتوقعه أي شخص.
في الواقع، استنادا إلى المناقشات التي أجريتها مع المنتجين الآخرين على مدار الأسابيع القليلة الماضية؛ من المرجح أن يشهد شهر أغسطس/آب ذروة الإنتاج، ثم ينخفض الإنتاج بعدها بشكل مستمر حتى نهاية العام.
وثبت الآن صحة حساباتنا بأن النفط الصخري يفقد حوالي 250 ألف برميل يومياً كل شهر. فعلى مدى الخمسة أشهر الأخيرة من انعدام النشاط، انخفض إنتاج النفط الصخري الأميركي بحوالي 1.25 مليون برميل يومياً. وتشهد بعض الآبار العائدة من الإغلاق زيادة كبيرة في الإنتاج في الفترة الأولى فقط، ليتلاشى بعد ذلك. وهذا يضع إنتاج النفط الصخري الأميركي قرابة 11.1 مليون برميل في اليوم حالياً.
لهذا فإن عدم استجابة منتجي النفط الصخري في أي شهر يعني انخفاض إنتاج الحوض ما بين 200 ألف برميل يومياً إلى حوالي 250 ألف برميل يومياً. وتتقلص معدلات الهبوط مع انخفاض مستويات الإنتاج.
ولعل أهم مؤشر يجب مراقبته لمعرفة مدى قوة أنشطة الصخري هو عدد فرق التكسير المائي؛ لأنها تدل على الآبار التي ستنتهي وتبدأ ضخ النفط قريباً. فحسب آخر البيانات كان العدد 76، وهو عدد منخفض، ويعني استمرار انخفاض الانتاج بلا هوادة. وحتى نتلافى استمرار انخفاض إنتاج النفط الصخري؛ يجب أن يرتفع هذا الرقم بسرعة إلى 275.
ويتضح من الأرقام الحالية أن إنتاج الولايات المتحدة قد ينخفض إلى 10.7 مليون برميل يومياً بنهاية العام، وهذا أقل من تقديرنا السابق البالغ 11.1 مليون برميل يومياً.
ورغم أن الفرق بين التقديرات الحديثة والقديمة يبدو بسيطاً، إلا أن زيادة العجز بمقدار 400 ألف برميل يومياً (الفرق بين 10.7 و11.1) يعني انخفاض الإنتاج بمقدار 146 مليون برميل في السنة.
الخطوة المقبلة
مع هبوط الإنتاج المستمر وإدراك المحللين والخبراء والتجار لذلك، ستبدأ أسعار النفط بالارتفاع تدريجياً وستبدأ مراقبة ردة فعل إنتاج النفط الصخري لذلك من قبل كل المهتمين بالموضوع. واستناداً إلى مناقشاتنا مع مختلف المنتجين وتقديراتنا للتدفقات النقدية للشركات المنتجة؛ فإننا لن نرى استجابة حتى يتجاوز سعر خام غرب تكساس الـ 60 دولار للبرميل. عندها سيبدأ المنتجون في استخدام التدفّقات النقدية الحرّة الزائدة لسداد الديون وتعزيز موقفهم المالي.
ومن الواضح أن أحد الدروس التي تعلمها العديد من المنتجين من تجاربهم الصعبة في الشهور الماضية هو أن البنوك لم تعد تدعم شركات استكشاف وإنتاج النفط بشكل عام. كما أن فكرة أن التسهيلات الائتمانية بمثابة نوع من السيولة قد انتهت، وبذلك أصبح الرصيد النقدي هو الملك. ومن أهم انعكاسات ذلك أن تخفيض الديون لا يكفي، ولكن يجب رفع الاحتياطيات النقدية أيضا.
ومن الواضح أيضا أن هذا التفكير لايقتصر على مديري الشركات فقط، وإنما يشمل أعضاء مجالس إدارة هذه الشركات الذين انزعجوا من المحادثات مع الدائنين أثناء فترة وباء كورونا؛ فقد استفادت العديد من المؤسسات المالية من هذا الوباء عن طريق زيادة التكلفة على الشركات فرفعت رسوم تجديد خطوط الائتمان من 200% إلى 300%. وعبّر أعضاء مجالس الإدارات عن سخطهم لهذا الارتفاع الذي عدّوه نوعاً من العقوبات، إلا أن الشركات التي ليس لديها أي خيارات أخرى مضطرة للامتثال ودفع هذه الرسوم.
هذه القضايا التي ذكرت أعلاه تزيد من رغبة مديري شركات الاستكشاف والإنتاج في إدارة شركاتهم دون أي ديون في المستقبل، ولم تعد الفكرة القائلة بأن وجود ميزانية حكيمة أمراً صحيحاً؛ فالمنتجون الآن يريدون العمل دون ديون، ودون التسهيلات الائتمانية.
ونظراً لأن كل الشركات المتوسطة الحجم تقريباً -وما دونها- تعتمد على التسهيلات الائتمانية؛ فإن المنطق المذكور أعلاه يقتضي التركيز على تحسين الوضع المالي للشركة بدلا من زيادة الإنتاج، عندما ترتفع الأسعار.
ونتيجة لذلك، فإن عدم استجابة إنتاج النفط الصخري لارتفاع الأسعار سيكون صادماً للسوق. وسيضطر السوق بعد ذلك إلى رفع أسعار النفط لنرى فقط أين يبدأ منتجو النفط الصخري الأميركي في الاستجابة مرة أخرى، هل سيكون 70 دولارا؟ هل سيكون 80؟ أعتقد أنه سيكون أقرب إلى 70 دولاراً.
والآن بعد أن أوضحنا سبب عدم نجاح التوقعات الخطية الشائعة الآن، دعونا نتعمق في أطروحة المتفائلين بارتفاع أسعار النفط.
أوضحنا فيما سبق أن المحرك الأول لأسعار النفط سيكون إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة الأميركية. الأسواق سترفع الأسعار وتختبر مدى استجابة النفط الصخري لإلغاء أي شكوك حولها. إلا أن هناك قوة أكبر تتصاعد، وهي ارتفاع معدلات النضوب في إنتاج النفط التقليدي خارج دول "أوبك".
فخارج النرويج وكندا والولايات المتحدة الأميركية والبرازيل، تجمد -أو تراجع- إنتاج النفط العالمي على مدى السنوات العديدة الماضية.
وبسبب كوفيد-19؛ فإن انخفاض الإنفاق الاستثماري يماثل الانخفاض الذي حصل في عام 2016، عندما رأينا هجرة جماعية لرأس المال. إلا ان الفرق بين الوقت الحالي و 2016، أن صناديق الاستثمار الخاصة غير واقفة بانتظار الفرص الاستثمارية لاقتناصها وإعادة رأس المال للسوق.
تشير البيانات إلى وجود سبب آخر لعدم فاعلية الاستقراء الخطي؛ إذا رأى المشاركون في السوق العجز المقبل في الإمدادات، فلن ترتفع أسعار النفط فقط لتعكس العجز، لكنها سترتفع إلى حد تدمير الطلب مع تحفيز العرض في الوقت نفسه. وهذا يقودنا إلى قضية الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، ومع تجنب البنوك والمستثمرين العالميين لقطاع الطاقة، من أي ستأتي التدفقات الاستثمارية؟
كما أن شركات النفط الكبرى أعلنت بالفعل أنها تريد ان تكون متعادلة من حيث الأثر الكربوني بحلول 2035 أو قريب من ذلك. فهل سينفقون أموالاً أكثر في محاولة زيادة إنتاج النفط. هل الخيط الناظم لذروة الطلب على النفط هو المحفز الكامن لذروة إنتاج النفط؟
جميع هذه السيناريوهات تضمن تماماً أنه لن يكون هناك أي استقراء خطي في السوق مستقبلاً؛ فالأسعار سترتفع بشكل مكافئ لتعكس المشهد المتغير، وبسبب التركيز على المناخ وتجاهل المستثمرين للطاقة بشكل عام، سيتعين على الأسعار تحمل الحمل الثقيل بسبب خطأ توقعات محللي البنوك والبيوت الاستشارية.
وبما أن هذا السيناريو الذي نفكر فيه ليس ضرباً من الخيال،فإنه ليس من الصعب أيضاً أن نقول إننا نعتقد أن أسعار النفط سترتفع ويمكن أن تكسر القمة السابقة بحلول عام 2022، وتصل إلى مستويات قياسية بسبب انخفاض الإنفاق الاستثماري من جهة، والانخفاض الكبير في الإنتاج من جهة أخرى.
الخلاصة
لم ينجح الاستقراء الخطي في سوق النفط. ونظراً لأن إنتاج النفط الصخري لن يستجيب لارتفاع الأسعار؛ فإن الأسواق ستستمر في دفع الأسعار للأعلى. وفي الوقت نفسه فإن التركيز الشديد على قضايا الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وتجنب المستثمرين شركات النفط، سيضمن استمرار العجز في الإنفاق الاستثماري.
كل هذا يعني أن أسعار النفط سوف تستمر في الارتفاع حتى تضغط على الطلب و تحفز المزيد من الإنتاج. بحلول ذلك الوقت، سترتفع الأسعار ثم تنخفض مرة أخرى.
المزيد من مقالات ويلسون وانج.. محلّل مالي في قطاع النفط