سد النهضة.. مرآة تعكس تناقضات أفريقيا (مقال)
الدكتورة منال سخري*

منذ أكثر من عقد من الزمن، يتصدر سد النهضة الإثيوبي واجهة النقاشات الإقليمية والدولية، ليس فقط بِعَدِّه أضخم مشروع كهرومائي في أفريقيا، بل أيضًا بصفته نقطة تحول في موازين القوى المائية والطاقية في القارة.
فبينما ترى إثيوبيا في السد رمزًا للسيادة والتنمية، تعدّه مصر والسودان تهديدًا مباشرًا للأمن المائي والغذائي لملايين المواطنين.
الجدل المتجدد يجعل من سد النهضة أكثر من مجرد مشروع تنموي؛ فهو ملف إستراتيجي تتداخل فيه البيئة بالطاقة، والسياسة والاقتصاد.
ويُعدّ السد الأكبر في أفريقيا بطاقة إنتاجية قد تصل إلى 6.5 غيغاواط من الكهرباء، أي ما يعادل 3 أضعاف قدرة السد العالي في مصر.
وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2024، فإن نسبة الوصول إلى الكهرباء في إثيوبيا، لا تتجاوز 50%، أي إن أكثر من 60 مليون مواطن يعيشون دون كهرباء منتظمة.
وأشارت الوكالة الدولية للطاقة في تقريرها لعام 2023 إلى أن إثيوبيا تمتلك إمكانات كهرومائية تفوق 45 ألف ميغاواط، لكن المستغل منها قبل سد النهضة لم يتجاوز 3800 ميغاواط.
ومن ثم فإن إضافة 5150 ميغاواط دفعة واحدة عبر سد النهضة تعني مضاعفة القدرة الإنتاجية الوطنية، وفتح الباب أمام تصدير الكهرباء إلى دول الجوار، ما يجعل إثيوبيا مرشحة لأن تكون "بطارية شرق أفريقيا".
من التنمية إلى الجيوسياسية
لا يمكن قراءة سد النهضة بمعزل عن صراع النفوذ في القرن الأفريقي، إذ تسعى إثيوبيا إلى تكريس نفسها قوة إقليمية عبر مشروع يرمز إلى السيادة الوطنية، ويعزز استقلالها عن الضغوط الخارجية.
في المقابل، ترى مصر والسودان أن السد يمثّل ورقة ضغط قد تُستعمل في أيّ وقت لتغيير موازين الأمن المائي، ففي المقابل تعتمد مصر على نهر النيل لتأمين نحو 97% من مواردها المائية (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2022).

أمّا السودان، فيقف على خط التوازن بين الفوائد والمخاطر، فمن جهة قد يستفيد من الكهرباء الإثيوبية الرخيصة وتقليل الفيضانات التي تتلف آلاف الهكتارات سنويًا.
ومن جهة أخرى، حذّرت صحيفة الغارديان البريطانية في تقريرها الصادر بداية 2025 من أن موقع السد في منطقة ذات نشاط زلزالي نسبيًا يجعل سلامته قضية وجودية، إذ قد يتسبب أيّ خلل إنشائي في كارثة كبرى تهدد ملايين السكان على ضفاف النيل.
وهكذا، لم يعد السد مجرد مشروع تنموي، بل تحوَّل إلى أداة جيوسياسية تعيد رسم خرائط النفوذ الإقليمي.
البعد البيئي والطاقي لسد النهضة
على الرغم من أن سد النهضة يُسوَّق بأنه مشروع طاقة نظيفة يسهم في تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري، فإن تأثيراته البيئية تثير تساؤلات جدّية.
وحذّرت تقارير علمية من أن أيّ خفض في تدفُّق مياه النيل الأزرق يؤدي إلى تراجع خصوبة الأراضي الزراعية في مصر والسودان نتيجة حجز الطمي خلف السد، إضافة إلى مخاطر تغير النظام البيئي للنيل الأزرق وتهديد التنوع البيولوجي، وهذه التحديات تضع المنطقة أمام معضلة حقيقية بين أمن الطاقة وأمن المياه والغذاء.
لكن من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى السد بصفته فرصة لتحقيق انتقال طاقي في أفريقيا عبر إنتاج الكهرباء الخضراء التي تدعم الأهداف المناخية وتقلل من الانبعاثات.
وتشير الوكالة الدولية للطاقة (2023) إلى أنّ توسُّع أفريقيا في الطاقة المتجددة يمكن أن يقلل انبعاثات القارة بنسبة تصل إلى 20% بحلول 2030.
والتحدي -إذن- يكمن في الموازنة بين التنمية المستدامة والحدّ من المخاطر البيئية.
من زاوية أوسع، أوضح الاتحاد الأفريقي في تقريره 2023 عن "خطة 2063" أن أكثر من 600 مليون أفريقي ما زالوا دون كهرباء.
وعليه، فإن سد النهضة يعكس طموح القارة لمضاعفة إنتاج الطاقة النظيفة بحلول 2030، لكنه في الوقت ذاته يختبر قدرتها على بناء مشروعات إقليمية تراعي مصالح جميع الأطراف.

من الصراع إلى التعاون
سد النهضة ليس قضية ثلاثية فحسب، بل يمثّل نموذجًا لمستقبل إدارة الموارد المائية المشتركة في أفريقيا، فنجاح إثيوبيا قد يشجع دولًا أخرى على بناء سدود مماثلة، ما قد يُفضي إلى سباق محموم يهدد استقرار المنطقة.
وهنا تبرز الحاجة إلى تطوير آلية أفريقية مستقلة لحل النزاعات المائية، بدل الاعتماد على وساطات دولية ظرفية.
يكشف الملف هشاشة الإطار القانوني المنظّم للأنهار المشتركة في أفريقيا، إذ ما يزال اتفاق "عنتيبي" (2010) محل خلاف، كما أن التركيز على البعد السياسي غيّب إلى حدٍّ كبير النقاشَ حول الأمن الإنساني: ماذا عن الملايين الذين قد يضطرون للهجرة إذا تراجعت الزراعة؟ وماذا عن الشباب الإثيوبي الذي ينتظر فرص عمل من الكهرباء الجديدة؟
ويطرح تجاهل البعد الاجتماعي والبيئي لصالح المكاسب السياسية إشكالًا كبيرًا: هل يمكن أن يتحول المشروع من أداة للتنمية إلى مفجّر لصراعات جديدة؟.
الحل لا يكمن في الصراع، بل في تحويل السد إلى منصة تعاون، ويمكن لمصر والسودان وإثيوبيا إنشاء آلية ثلاثية لإدارة المياه والطاقة، بحيث يُعاد توزيع المنافع:
- كهرباء نظيفة لإثيوبيا
- تدفّق مائي مستقر لمصر والسودان
- مكاسب اقتصادية مشتركة.
كما يمكن إدماج المشروع ضمن خطة الاتحاد الأفريقي 2063 لتعزيز التكامل القاري.
مما تَقدَّم، فإن سد النهضة ليس مجرد بناء هندسي ضخم، بل مرآة تعكس تناقضات أفريقيا، بين الطموح التنموي والمخاوف البيئية، وبين البحث عن الطاقة النظيفة والصراع على المياه.
إن نجاح هذا المشروع في أن يكون رمزًا للتعاون بدل النزاع سيحدد مستقبل الأمن المائي والطاقي في القارة لعقود قادمة.
* د.منال سخري - خبيرة وباحثة في السياسات البيئية.
* هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- الجامعات الخضراء في أفريقيا.. كيف تتصدى لآثار تغير المناخ؟ (مقال)
- التمويل المناخي في أفريقيا.. عوائق تمنع تدفق الاستثمارات الخضراء (مقال)
اقرأ أيضًا..
- حقل تمساح المصري.. عملاق غاز في قلب البحر المتوسط وهذه قصة "المليار"
- وكالة الطاقة الدولية ترفع توقعات الطلب على النفط والمعروض في 2025
- وزيرة الطاقة المغربية: العالم يحتاج إلى زيادة إنتاج الليثيوم 300% خلال 6 سنوات