قطاع الوقود والطاقة الروسي يشهد تحولًا جذريًا بسبب العقوبات وتقلّبات الأسواق (مقال)
فيلينا تشاكاروفا* – ترجمة: نوار صبح

- إستراتيجية الطاقة في روسيا تعتمد على حملة طموحة لتحقيق الاستقرار الداخلي
- شركات النفط نجحت في تكوين احتياطيات وقود كافية لتلبية كامل طلب الاقتصاد الروسي
- شركة "غازبروم نفط" تُعدّ ركيزة أساسية لمرونة قطاع الطاقة في روسيا
- روسيا تحتلّ حاليًا المرتبة الرابعة بين مورّدي الغاز في الاتحاد الأوروبي
يشهد قطاع الوقود والطاقة الروسي تحولًا جذريًا بسبب دفعات العقوبات المستمرة وتقلّبات الأسواق؛ ما يؤثّر في إيرادات البلاد ومكانتها عالميًا.
يأتي ذلك في الوقت الذي يُواجه فيه نظام الطاقة العالمي صدمتين مُزدوجتين، هما المواءمة الجيوسياسية والاضطراب التقني.
ويرتكز جوهر إستراتيجية الطاقة في روسيا على حملة طموحة لتحقيق الاستقرار الداخلي، مدعومة باحتياطيات وقود محلية قوية وسياسة صناعية حثيثة.
ووفقًا لوزارة الطاقة الروسية، نجحت شركات النفط في تكوين احتياطيات وقود كافية لتلبية كامل طلب الاقتصاد الروسي حتى صيف وخريف عام 2025، بما في ذلك القطاع الزراعي الحيوي.
القيود المفروضة على صادرات البنزين
لحماية الإمدادات المحلية واستقرار الأسعار الداخلية، ما تزال القيود المفروضة على صادرات البنزين من قِبل التجّار غير المنتجين سارية، مع وجود مقترحات أخرى لتمديد هذه القيود إلى شهرَي سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول المقبلين.
وفي الوقت نفسه، ضمنت الوزارة استمرار توريد المنتجات الزراعية للعملاء الزراعيين طويلي الأجل بأسعار ثابتة، ما حمى القطاع من تقلبات السوق خلال موسم الحصاد.
وتُستكمل هذه الجهود بزيادة تكتيكية في الكميات المخصصة لتداولات البورصة المحلية، بهدف تجنُّب الاختلالات الإقليمية وضغوط المضاربة على الأسعار الفورية.

"غازبروم نفط": ركيزة استمرار الطاقة الروسية
في ظل هذه الظروف، برزت "غازبروم نفط" (Gazprom Neft) -ثالث أكبر شركة نفط وغاز متكاملة رأسيًا في روسيا، التابعة لشركة الغاز الروسية العملاقة غازبروم (Gazprom)– بصفتها ركيزة أساسية لمرونة قطاع الطاقة في روسيا.
واختتمت الشركة عام 2024 بإنتاج 126.9 مليون طن من النفط المكافئ من الهيدروكربونات، بزيادة قدرها 5.3% على أساس سنوي، متحديةً بذلك قيود تحالف أوبك+.
وارتفع الإنتاج في الربع الأول من عام 2025 بنسبة 5% أخرى، انعكاسًا للزخم الناتج عن التطورات الجديدة في قطاع الاستكشاف والإنتاج في حقل يورنغوي أخيموف (إيه 3)، ومجموعة تشونسكي في إيركوتسك، واكتشاف حقل رئيس في تومسك باحتياطي 30 مليون طن.
ولم تأتِ هذه المكاسب مصادفة، بل تُعدّ نتيجة تحول إستراتيجي متعدد السنوات نحو الاحتياطيات صعبة الاستخراج (HTR).
ونتيجة لتراجع الاحتياطيات التقليدية نهائيًا -31% منها مستنفدة بشدّة أو مشبعة بالمياه-، تسابق روسيا الزمن لتطوير قدرتها على الاستخراج من التكوينات غير التقليدية.
تستمد شركة غازبروم نفط، حاليًا، أكثر من 60% من إنتاجها من مكامن الغاز صعبة الاستخراج.
وبحلول عام 2030، من المتوقع أن تتجاوز هذه النسبة 70% على مستوى البلاد.
وتشمل مشروعات الغاز صعبة الاستخراج الرئيسة تكوين باجينوف -أحد أكبر حقول النفط الصخري في العالم، حيث يحتوي على 80 مليار برميل من النفط- الذي يقع على مساحة 1.2 مليون كيلومتر مربع في غرب سيبيريا.
من ناحية ثانية، فإن تطويره مجدٍ اقتصاديًا فقط من خلال تقنيات الاستخراج المعزز للنفط المعقدة والحفر الأفقي المتقدم.
وإدراكًا لهذه العوائق، تعمل موسكو بنشاط على صياغة حوافز مالية ودعم للبحث والتطوير لتسريع ابتكارات الغاز صعب الاستخراج، حيث دعا نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك والرئيس التنفيذي لشركة "غازبروم نفط" ألكسندر ديوكوف علنًا إلى دعم حكومي مخصص لتحفيز الإنجازات على مستوى القطاع.
استقلال التكرير والتكيف مع العقوبات
في قطاع التكرير والتوزيع والتصدير، تقود شركة "غازبروم نفط" تحديث قطاع التكرير الروسي لتحقيق قيمة أكبر من كل برميل.
في عام 2024، حققت مصفاتا الشركة الرئيستان - أومسك وموسكو - إنتاجًا إجماليًا بلغ 42.9 مليون طن. وتفخر مصفاة أومسك الآن بعمق تكرير يبلغ 99%، وهو الأعلى في روسيا.
وتخضع مصفاة موسكو للتحول الكامل إلى التكرير العميق؛ ما يؤدي إلى الاستغناء عن إنتاج زيت الوقود لصالح البنزين والديزل عاليَي هامش الربح.
وكان لهذا التكامل الرأسي دور ملحوظ في حماية الشركة من أشدّ آثار العقوبات الأميركية.
في يناير/كانون الثاني 2025، أضاف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية شركة "غازبروم نفط" والشركات التابعة لها، بما في ذلك وحدة التكرير لدى شركة النفط والغاز الصربية "إن آي إس" NIS، إلى قائمة المواطنين المشمولين بالعقوبات.
وعلى الرغم من تأجيل تطبيق العقوبات على شركة النفط والغاز الصربية مرة أخرى في يونيو/حزيران الماضي، فإن التهديد طويل الأمد ما يزال قائمًا.

بدورها، أجبرت علاوة المخاطر الناتجة شركة "غازبروم نفط" على توسيع حسوماتها على مزيج صادراتها، وخفض هوامش ربح التكسير، وإعادة هيكلة قنواتها اللوجستية للحفاظ على عمليات التسليم إلى آسيا والشرق الأوسط، وحتى أميركا اللاتينية، وهي أسواق تتقبل بشكل متزايد تدفقات الطاقة غير الغربية.
وعلى الرغم من ارتفاع الإيرادات بنسبة 16.5% في عام 2024 -مدفوعة بتسعير النفط المقوم بالروبل ومكاسب الإنتاج-، فقد انكمش صافي الربح بنسبة 25%، مع انخفاض بنسبة 42% في الربع الأول من عام 2025 وحده.
وأسهم ارتفاع الأعباء الضريبية (رُفِع معدل ضريبة الدخل إلى 25% بدءًا من يناير/كانون الثاني الماضي)، وتوسُّع الالتزامات المالية، وتضييق فروق أسعار التكرير، في تآكل الأرباح هذا.
على صعيد آخر، انخفضت الأرباح قبل الفوائد والضرائب والإهلاك والاستهلاك بنسبة 23%، بينما تقلَّص التدفق النقدي الحر بأكثر من 20%، ليصل إلى 318 مليار روبل (4 مليارات و134 مليون دولار).
رغم ذلك، ظلت مدفوعات الأرباح سخية، فقد حافظت شركة "غازبروم نفط" على نسبة توزيع أرباح بلغت 75%، ما أدى إلى تحقيق إيراد بنسبة 12.5% في عام 2024، وهو ما يؤكد استرضاء المساهمين واحتياجات الإيرادات الحكومية.
التوجه نحو الغاز المسال
مع وصول تدفقات الغاز عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا إلى أدنى مستوياتها التاريخية -بسبب أعمال التخريب والانقسامات السياسية وإعادة هيكلة البنية التحتية-، تتجه روسيا بقوة نحو الغاز المسال للحفاظ على مكانتها الجيو-اقتصادية.
في النصف الأول من عام 2025، ارتفعت صادرات الغاز المسال الروسية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 1.7% على أساس سنوي، لتصل إلى 11.4 مليار متر مكعب، وفقًا لمركز بروغل للأبحاث.
الجدير بالذكر أن شحنات يونيو/حزيران الماضي زادت بنسبة 27.5% مقارنة بالعام السابق، لتصل إلى 1.97 مليار متر مكعب.
وعلى الرغم من أن أحجام الغاز المسال ما تزال ضئيلة مقارنةً بالنرويج والولايات المتحدة، تحتلّ روسيا حاليًا المرتبة الرابعة بين مورّدي الغاز في الاتحاد الأوروبي.
وتواصل روسيا استكشاف طرق توصيل غير تقليدية، وكان آخرها اقتراح شحنات الغاز المسال إلى المكسيك عبر الممرات البحرية في القطب الشمالي والشرق الأقصى.
وتُشغَّل مشروعات جديدة للغاز المسال (على سبيل المثال، مشروع أركتيك إل إن جي 2) تدريجيًا، ما يعوض جزئيًا عن فقدان الأسواق الأوروبية.
إزاء ذلك، تسعى روسيا إلى إيجاد أسواق جديدة لمبيعات غازها المسال.
في آسيا، شهدت صادرات الغاز المسال والفحم إلى كوريا الجنوبية ارتفاعًا حادًا في مايو/أيار 2025، حيث ارتفعت أحجام الغاز المسال بنسبة 25% على أساس سنوي، ونمت شحنات الفحم بنسبة 15%.
وتستمر إمدادات الغاز الروسي إلى الصين عبر خط أنابيب "باور أوف سيبيريا" في النمو بثبات، حتى مع استمرار تعثُّر مفاوضات "باور أوف سيبيريا 2" في خلافات الأسعار والحسابات الجيوسياسية.
من ناحيته، يرى الكرملين في أسواق الطاقة الآسيوية محورًا لإستراتيجيته التصديرية المستقبلية.
حماية البنية التحتية الحيوية للطاقة من التهديدات السيبرانية
على المستوى الإستراتيجي، وسّعت وزارة الطاقة الروسية نطاق تعاونها، فقد وقّعت مؤخرًا اتفاقيات تعاون في مجال الأمن السيبراني مع شركات تقنية معلومات محلية لحماية البنية التحتية الحيوية للطاقة من التهديدات السيبرانية المتصاعدة.
في الوقت نفسه، ما تزال الاستثمارات الأولية مُركّزة على موارد القطب الشمالي وسيبيريا والجرف القاري، بما في ذلك مشروعات مشتركة مع شركات روسنفط (Rosneft) ونوفاتيك (Novatek) ولوك أويل (LUKOIL)، وشركات إقليمية مستقلة في مجموعات مثل ميسوياخانيفت غاز وأركتيك غاز ونورث غاز وميريتوياخانفط غاز.
وتسعى الحكومة جاهدةً لتوسيع مشاركتها في سلاسل الطاقة ذات القيمة المضافة، من البتروكيماويات إلى المنتجات الصناعية ووقود الطائرات والخدمات اللوجستية البحرية.
ويُعدّ إطلاق قدرات إنتاجية جديدة في مصفاة أومسك عام 2024، وتطوير عمليات التكرير العميقة في مصفاة موسكو، جزءًا من خطة أوسع لتنويع الاقتصاد، بعيدًا عن تصدير السلع الخام، نحو منتجات الطاقة ذات هامش الربح المرتفع.
وفي الوقت نفسه، يستمر الانسحاب الأوروبي، حيث أعلنت شركة بي كي إن أورلين البولندية (PKN Orlen) وقفًا كاملًا لواردات النفط الخام الروسي لمصفاتها التشيكية في ليتفينوف بدءًا من 1 يوليو/تموز الجاري، ما يُمثّل انقطاعًا نهائيًا في روابط الإمداد المباشرة.
ويُسرّع هذا من تحول روسيا نحو ممرات الطاقة البديلة، ويُعزز رغبتها في التخلّي عن البنية التحتية للطاقة وأنظمة التسعير ذات التوجه الغربي.

التداعيات الجيوسياسية
تُشير إستراتيجية الطاقة الروسية المتطورة إلى تحول حاسم نحو الاكتفاء الذاتي الإستراتيجي وتكامل السوق متعدد الأقطاب.
وعلى الصعيد المحلي، تبني موسكو حاجزًا ضد الاضطرابات الداخلية من خلال تخزين الاحتياطيات، وعقود الأسعار الثابتة، وتدخلات السوق المركزية.
خارجيًا، تُسخّر روسيا منظومة الإنتاج والتصدير لديها -التي تدعمها شركات مثل غازبروم نفط- لإعادة توجيه تدفقات التجارة نحو الجنوب العالمي وآسيا، حيث تكون الاحتكاكات الجيوسياسية مع الغرب أقل تقييدًا، ومع ذلك، فإن هذه الإستراتيجية لا تخلو من نقاط ضعف، حيث يزيد الانتقال إلى احتياطيات صعبة الاستخراج من كثافة الإنفاق الرأسمالي، والاعتماد على التقنية، والمخاطر الجيولوجية، وجميعها عوامل تُضخّم التكلفة الاقتصادية للحفاظ على الإنتاج.
إضافة إلى ذلك، فإن اعتماد الشركة على توزيعات أرباح عالية لدعم "غازبروم" والإيرادات الفيدرالية يحدّ من قدرتها على إعادة الاستثمار في ظل تزايد التحديات الجيوسياسية والسيبرانية والتكنولوجية.
وبالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة، يشير استمرار واردات الغاز المسال الروسي واستدامة صادراتها المكررة إلى أن فكّ الارتباط بقطاع الطاقة غير مكتمل وغير متكافئ إلى حدّ كبير.
وتتكيف روسيا مع الأسواق العالمية، دون أن تتراجع عن نهجها الهجين، الذي يجمع بين البنية التحتية الصلبة، والقطاعات البتروكيماوية العمودية، والدبلوماسية الإستراتيجية، ما يسمح لها بالبقاء لاعبًا أساسيًا (وإن كان مثيرًا للجدل) في منظومة الطاقة العالمية.
أمّا بالنسبة للمستثمرين، فإن هذا الواقع يتطلب إعادة تقييم للمخاطر.
وعلى الرغم من أن شركة "غازبروم نفط" وقطاع الطاقة الروسي الأوسع نطاقًا يخضعان للعقوبات، ويواجهان ظروفًا صعبة لسياسة المناخ، وعدم استقرار الاقتصاد الكلي، فإنهما في الوقت نفسه يزدادان تكاملًا مع المجال الاقتصادي غير الغربي.
ولن تُحسم معركة الهيمنة على قطاع الطاقة في القرن الـ21 من خلال القدرة الإنتاجية أو الاحتياطيات، وإنما من خلال المرونة التقنيّة، والبصيرة الإستراتيجية، والقدرة على اجتياز عالم متشعب.
في ظل هذه المعطيات، تظل روسيا لاعبًا مهمًا، وإن كان يزداد عزلة.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- رئيس غازبروم نفط الروسية: لا حاجة إلى مزيد من تخفيضات أوبك+
- إيرادات صادرات الطاقة الروسية تهبط لأقل مستوى منذ 2022.. ماذا استوردت الدول العربية؟
- صادرات روسيا من الغاز المسال تتراجع لأول مرة منذ 2023
اقرأ أيضًا..
- أنس الحجي: رغبة ترمب في خفض أسعار النفط "كارثة" لدول الخليج وأميركا
- أمين عام أوبك: إنتاج النفط العالمي يهبط لأول مرة منذ 4 سنوات.. وهذا حجم الصادرات
- أكبر 10 دول في احتياطيات الغاز الطبيعي عالميًا.. 4 بلدان عربية تزين القائمة