قطاع الطاقة الروسي يترقب تحولات جذرية في ظل تقلب أسعار النفط (مقال)
فيلينا تشاكاروفا* – ترجمة: نوار صبح

- سبق لروسيا أن أطلقت شبكة لوجستية سرية واسعة النطاق للالتفاف على العقوبات
- روسيا حوّلت منهجها في مجال الطاقة من التبعية إلى السيادة التكنولوجية
- موسكو اتجهت نحو تصدير معدات الطاقة إلى الشرق الأوسط ورابطة الدول المستقلة
- التشديد المُقترح لسقف أسعار النفط يُمثل أكثر من مجرد تعديل تكتيكي
في يونيو/حزيران 2025، يشهد قطاع الوقود الأحفوري العالمي تعديلات جذرية؛ إذ يقف قطاع الطاقة الروسي في قلب هذه المعادلة، في ظل تقلّب أسعار النفط.
وتخضع روسيا لحصار اقتصادي من الغرب، وتخوض غمار التحول الهيكلي، وتسعى إلى مسارات جديدة لتحقيق السيادة في مجال الطاقة والنفوذ الإستراتيجي.
وعلى الرغم من أن مجموعة الـ7 تستعد للاجتماع في كندا، أكد مسؤولو المفوضية الأوروبية أن الاقتراح الذي طال انتظاره لخفض سقف أسعار صادرات النفط الروسية سيُطرح رسميًا على الطاولة.
وتهدف الخطوة، التي يقودها الاتحاد الأوروبي في المقام الأول، إلى إعادة ضبط العقوبات استجابةً لانخفاض أسعار النفط وتراجع فاعلية سقف السعر الحالي، البالغ 60 دولارًا للبرميل، الذي فُرض أواخر عام 2022.
سعر برميل النفط الروسي
على الرغم من عدم إعلان أي قرار نهائي بشأن سقف سعر برميل النفط الروسي، فقد ظهر رقمان من وراء الكواليس: 50 دولارًا و45 دولارًا للبرميل، وكلاهما يمثّل تشديدًا كبيرًا على النظام الحالي.
ووفقًا للمتحدثة باسم المفوضية الأوروبية، باولا بينهو، يجري تنسيق المناقشات مع الولايات المتحدة وأعضاء مجموعة الـ7 الآخرين، بهدف التوصل إلى توافق في الآراء بالقمة خلال منتصف يونيو/حزيران الجاري.

من ناحية ثانية، فإن الإلحاح وراء هذه المبادرة يتشكّل إلى حد كبير من خلال اتجهات السوق الأخيرة، وهو ما يُلقي بظلاله على قطاع الطاقة الروسي.
ومنذ يناير/كانون الثاني 2025، انخفضت أسعار خام برنت بنحو 25%، لتحوم حول 65 دولارًا للبرميل، في حين يتم تداول خام الأورال القياسي الروسي بين 52 و55 دولارًا؛ وهو أقل بكثير من عتبة العقوبات الحالية.
وهذا يعني أن "سقف سعر برميل النفط الروسي" الحالي لم يعد يقيّد صادرات موسكو بصورة كبيرة.
وتكمن الفكرة وراء السقف الجديد في تقليص تدفق إيرادات الكرملين بصورة أعمق من خلال مطابقة القيمة السوقية الحقيقية لنفط الأورال أو خفضها قليلًا، وبالتالي حرمان موسكو من الوصول إلى خدمات الشحن والتأمين ما لم تقبل بإيرادات أقل للبرميل.
ضغوط الموازنة والتداعيات الاقتصادية
يُعدّ توقيت الإجراء المقترح حاسمًا، فإيرادات روسيا من صادرات الوقود الأحفوري تشهد، حاليًا، انخفاضًا حادًا.
ووفقًا لوزارة المالية الروسية، انخفضت إيرادات النفط والغاز في مايو/أيار 2025 بنسبة 35% على أساس سنوي، وبنسبة 53% مقارنةً بشهر أبريل/نيسان الماضي.
وخلال الأشهر الـ5 الأولى من العام، بلغت الإيرادات التراكمية 4.24 تريليون روبل (53 مليارًا و410 ملايين دولار)، بانخفاض 14.4% عن المدة نفسها من عام 2024.
واستجابةً لذلك، خفّض الكرملين توقعاته لإيرادات قطاع الطاقة الروسي لعام 2025 بنحو الربع، بمقدار 2.6 تريليون روبل، لتصل إلى 8.32 تريليون روبل.
(روبل روسي = 0.013 دولارًا أميركيًا)
في المقابل، وخلافًا للآمال الغربية، فإن عجز الإيرادات ليس نتيجة مباشرة لسقف أسعار النفط الروسي.
ويشير المحللون إلى ضغط ثلاثي:
- انخفاض أسعار النفط العالمية.
- ارتفاع قيمة الروبل (الذي يقلّل من إيرادات التصدير عند تحويله إلى العملة المحلية).
- تعديلات إنتاج تحالف أوبك+ التي عقّدت حجم الصادرات.
وفقًا للمحلل المالي لدى شركة استشارات وخدمات تقنية المعلومات "بيت ريفر" (BitRiver)، فلاديسلاف أنتونوف، علق قائلا: "حتى في حال تطبيق سقف جديد، سيعتمد تأثيره بصورة كبيرة على دعم دول مجموعة الـ7، خصوصًا الولايات المتحدة".
وحذر أنتونوف، قائلًا: "دون دعم واشنطن، سيكون سقف سعر برميل النفط الروسي رمزيًا إلى حد كبير".
وفي غضون ذلك، أبدت الهند والصين وتركيا -أكبر 3 دول مستوردة للنفط الخام الروسي- اهتمامًا ضئيلًا بتطبيق سقف الأسعار الحالي، ومن غير المرجح أن تلتزم بنسخة أكثر صرامة.
وفي حال تطبيق سقف سعري أكثر صرامة على نطاق واسع، فقد تكون العواقب وخيمة على قطاع الطاقة الروسي.
وقد يكلّف سقف 50 دولارًا للبرميل روسيا ما يصل إلى 60 مليار دولار من إيرادات التصدير السنوية، ما قد يؤدي إلى تفاقم عجز الموازنة، وإضعاف الروبل، وإثارة ضغوط تضخمية.
بدورهم، يحذّر المحللون من أن الكرملين مستعد لمواجهة ذلك من خلال تعبئة الاحتياطيات، وزيادة الضرائب، وخفض الإنفاق.
وقد تُمتص الصدمة الاقتصادية قصيرة المدى، لكن نقاط الضعف طويلة المدى ستتعمّق.

التهرّب من العقوبات والتكيّف مع السوق
سبق لروسيا أن أطلقت شبكة لوجستية سرية واسعة النطاق للالتفاف على العقوبات.
ويشمل ذلك النقل من سفينة إلى أخرى، ونقل البضائع مختلطة الدرجات، وتطوير "أسطول ظل" من ناقلات النفط التي تتجنّب شركات التأمين والسلطات القضائية الغربية.
ووفقًا لرئيس قسم البحوث التحليلية لدى شركة إدارات الاستثمارات "آفي كابيتال" (AVI Capital)، ديمتري ألكساندروف، فمن المرجح أن تواصل روسيا تجاوز القيود ما لم تقرن مجموعة الـ7 سقفًا أدنى للأسعار بتشديد القيود على خدمات النقل والتأمين السرية.
إلى جانب ذلك، قد يؤدي تشديد العقوبات إلى عواقب غير مقصودة، فالانخفاض الكبير في الصادرات الروسية -خصوصًا إلى أوروبا- قد يضغط على العرض العالمي، ويدفع أسعار خام برنت إلى الارتفاع بمقدار 5-10 دولارات للبرميل، ما يؤدي إلى تضخم أسعار الطاقة في الغرب.
وفي الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من ضغوط تضخمية راكدة، يوجد انقسام؛ فبعض الأعضاء يؤيّدون اتخاذ تدابير أكثر صرامة، فيما يخشى آخرون من ردود الفعل العنيفة من الصين والهند وتأثيرها في القدرة التنافسية الصناعية.
التحول نحو السيادة التكنولوجية
في ظل هذه القيود، حوّلت روسيا بقوة منهجها في مجال الطاقة من التبعية إلى السيادة التكنولوجية، فبين عامَي 2021 و2025، ارتفعت حصة معدات النفط والغاز المنتجة محليًا من 60% إلى 70%.
وتتولى وزارة الصناعة والتجارة، ووزارة الطاقة، ومجلس تنسيق استبدال الواردات، تنسيق هذه الحملة التي تشمل الآن 7 مجالات تكنولوجية حيوية، بدءًا من التنقيب في عمليات الاستكشاف والإنتاج، وصولًا إلى البنية التحتية للغاز المسال.
ومن أبرز النجاحات:
أولًا: استبدال أنظمة وحدات محلية الصنع لمصفاة تانيكو بالقطع الهيدروليكية الألمانية، ما زاد من عمق تكرير النفط إلى ما يقرب من 100%.
ثانيًا: استُبدلت قطع روسية في مشروعات الطاقة في القطب الشمالي بمضخات الغاز المسال اليابانية.
ثالثًا: إنتاج واختبار أنظمة إكمال الآبار متعددة البراميل وجرارات حفر الآبار روسية الصنع للتكسير المائي (الهيدروليكي).
رابعًا: تطوير ضواغط الغاز لمجمع أوست-لوغا للغاز، ومبادرات الهندسة العكسية المحلية بدعم من البحث والتطوير المموّل من الدولة.
ولا تقتصر الإنجازات على تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل اتجهت موسكو نحو تصدير معدات الطاقة إلى الشرق الأوسط، ودول رابطة الدول المستقلة، وجنوب شرق آسيا، مع بذل جهود حثيثة لتلبية معايير شهادة معهد النفط الأميركي (API).
وتُمكّن الإستراتيجية طويلة المدى روسيا من المنافسة في سوق طاقة عالمية متشعّبة، إذ يبحث الجنوب العالمي عن بدائل للموردين الغربيين.
حوكمة الطاقة الرقمية
تستثمر روسيا في التحول الرقمي بصفته عامل تمكين إستراتيجيًا، خلال مؤتمر "الصناعة الرقمية في روسيا الصناعية لعام 2025"، حيث قدّم الرئيس التنفيذي لشركة غازبروم نفط (Gazprom Neft)، ألكسندر ديوكوف، مشروع "سايبر تك"، الذي يهدف إلى إنشاء نموذج رقمي لقطاع الطاقة بأكمله.
وصُمّمت المنصة لمحاكاة سيناريوهات الضرائب والاستثمار وتخصيص الموارد عبر سلسلة قيمة الوقود الأحفوري.
بدورهما، تخطط وزارتا المالية والطاقة لإطلاق مشروعات تجريبية تستعمل هذه المحاكاة، لتحديد أنظمة ضريبية خاصة بكل قطاع، ما يُحسّن الإيرادات في بيئة متقلّبة.
ومع مرور الوقت، قد يسمح هذا لروسيا بالانتقال إلى نظام حوكمة موارد أكثر ديناميكية واستجابة، ما يزيد من الشفافية وكفاءة القطاع على الرغم من العقوبات.

التكيّف مع التكنولوجيا الخضراء
في موازاة ذلك، طوّر علماء روس من جامعة بيرم بوليتكنيك وشركاؤهم الصينيون إنجازًا كبيرًا في مجال التكسير المائي (الهيدروليكي) باستعمال ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج.
وتُخفّض الطريقة الجديدة متطلبات الضغط بنسبة 43%، مع زيادة طول الشق 3 أضعاف مقارنةً بالتكسير التقليدي القائم على الماء.
ولا يقتصر هذا على تعزيز الاستخلاص من تكوينات الصخر النفطي غير التقليدية، بل يسمح بعزل الكربون، بما يتماشى مع اتجاهات إزالة الكربون الأوسع.
ورغم أن التقنية ثنائية الاستعمال ما تزال في مرحلة تجريبية، فإنها مهيّأة لمساعدة روسيا على إطالة عمر احتياطياتها من الوقود الأحفوري، مع الاستجابة للانتقادات البيئية الدولية.
ومع تزايد اهتمام دول الجنوب العالمي بمقاييس الاستدامة، قد تُعزّز هذه الابتكارات الجاذبية الجيوسياسية للطاقة الروسية.
أسعار النفط
يُمثّل التشديد المُقترح لسقف أسعار النفط أكثر من مجرد تعديل تكتيكي، بل يعكس نقطة تحول إستراتيجية في حرب الطاقة بين روسيا والغرب.
وفي حال صمد موقف مجموعة الـ7 وتم تطوير آليات التنفيذ، فستواجه موسكو قيودًا مالية أشد، ما قد يحدّ من قدرتها على تمويل الحرب في أوكرانيا ويفرض تقشفًا محليًا أعمق.
ورغم ذلك، فإن التنفيذ الجزئي أو تخفيضات الصادرات الانتقامية قد تدفع أسعار النفط إلى الارتفاع، وتُعاقب المستهلكين الأوروبيين، وتُظهر تصدعات داخل التحالفات الغربية.
من جانبها، لا تكتفي روسيا بتجاوز الأزمة، وإنما تُعيد صياغة توجهات قطاع الوقود الأحفوري لديها، ليصبح مجمعًا صناعيًا سياديًا متجذرًا في التكنولوجيا المحلية، ومعزولًا عن التمويل الغربي، ومرتبطًا بصفة متزايدة بالأسواق غير الغربية.
إنها لعبة طويلة الأمد، تهدف إلى إعادة تشكيل دور روسيا في نظام الطاقة ما بعد الغربي.
ومن خلال الاستثمار في الحوكمة الرقمية، والتقنيات الخضراء، وصادرات المعدات، يبني الكرملين حاجزًا ضد العقوبات المستقبلية، ويُنشئ البنية التحتية اللازمة لإدارة شؤون الطاقة الإستراتيجية.
وفي حال تسريع ضوابط الأسعار الغربية انقسام أسواق الطاقة العالمية، فقد ينشأ نظام موازٍ؛ حيث تتدفق الهيدروكربونات الروسية شرقًا وجنوبًا، ولا تعود القوانين الغربية سارية.
وقد تكون النتيجة نشوء نظام طاقة عالمي أكثر تجزئةً وأقل قابلية للتنبؤ، يتميّز بالتكتلات الإقليمية، وقومية الموارد، والمساومات الجيوسياسية على التقنيات الحيوية.
خلاصة القول، تتحول ساحة معركة الوقود الأحفوري من ناقلات النفط والرسوم الجمركية إلى التكنولوجيا والنفوذ والتكيف الإستراتيجي.
لن تنتصر المرحلة التالية من حرب الطاقة بالعقوبات وحدها، وإنما من خلال القدرة على إعادة تشكيل سلاسل التوريد، وإتقان الابتكار، وكسب ثقة الأسواق البديلة.
لذلك، تراهن روسيا على أن تحولها سيصمد أمام الضغوط الاقتصادية الغربية، وعلى العالم أن يستعد لمنافسة طويلة ومتقلّبة.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- صادرات النفط الروسية في مرمى رسوم ترمب الجمركية.. تبعات اقتصادية وجيوسياسية (مقال)
- العقوبات على صادرات النفط الروسية تؤثر في أسواق الطاقة العالمية.. أبرز التداعيات (مقال)
- أول تعليق من روسيا على انهيار أسعار النفط.. و"الأورال" يقترب من 50 دولارًا
اقرأ أيضًا..
- أوابك: الطاقة النووية تشهد نجاحات وتحديات في 6 دول عربية
- خريطة أكبر 5 مناجم ذهب في الوطن العربي.. احتياطيات ضخمة
- أنس الحجي: تحالف أوبك+ يستبق ردود أفعال السوق بقرار ذكي.. وهذا دور السعودية والصين