السد الأخضر "رئة الجزائر" لمكافحة التصحر وتغير المناخ (مقال)
منال سخري*
يشكّل السد الأخضر أبرز المبادرات البيئية التي أطلقتها الجزائر، إذ أصبح بحقّ "رئة الجزائر" التي تعمل على استعادة التوازن البيئي في مواجهة التصحر وتحديات تغير المناخ.
وتهدف المبادرة الإستراتيجية التي انطلقت منذ عدة عقود، إلى بث الحياة في الأراضي القاحلة وتعزيز الاستدامة البيئية، وهو ليس مجرد مشروع للتشجير، وإنما رؤية طموحة تجسّد التزام الجزائر بحماية مواردها الطبيعية، وضمان مستقبل مستدام للأجيال القادمة في وجه مخاطر التصحر وآثار التغير المناخي.
وبدأ التفكير في مشروع السد الأخضر في الجزائر عام 1967 نتيجة لزحف الرمال من الجنوب نحو الشمال، وتزايد تدهور الأراضي بسبب السياسات الاستنزافية للموارد الزراعية، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية بسبب الاستعمار الفرنسي وتضافر العوامل الطبيعية.
وفي عام 1970، أطلق الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين المشروع، إذ سُخّر أكثر من 20 ألف جندي من الجيش الوطني الشعبي، بالإضافة إلى تطوع تنظيمات المجتمع المدني.
وخلال المشروع غُرست أنواع متنوعة من الأشجار، مثل الصنوبر الحلبي والبلوط الأخضر والفستق الحلبي، بالإضافة إلى أصناف نباتية رعوية مثل الحلفاء والصرو.
السد الأخضر في الجزائر
يمتد السد الأخضر بوصفه حزامًا طوليًا من المناطق القاحلة إلى المناطق شبه القاحلة، إذ تتراوح معدلات تساقط الأمطار بين 200 مم في الجنوب و300 مم في الشمال، على مساحة تُقدّر بـ3.7 مليون هكتار.
ويربط المشروع الحدود الغربية والشرقية للجزائر على طول 1500 كيلومتر وعرض 20 كيلومترًا، ويشمل ولايات الجلفة، وباتنة، وخنشلة، وتبسة، والنعامة، والأغواط، والبيض، والمسيلة.
وكان الهدف الأساسي من المشروع الوطني هو الحد من زحف التصحر، وحماية الغطاء النباتي، واستعادة التوازن البيئي، فضلًا عن فك العزلة عن المناطق الريفية.
إعادة إحياء السد الأخضر
تتأثر الجزائر، بسبب موقعها الجغرافي، بظاهرة التصحر وتدهور الأراضي؛ إذ زحفت الظاهرة على مساحة تُقدّر بـ50 مليون هكتار، لذا، عملت الدولة الجزائرية على إعادة إحياء مشروع السد الأخضر، الذي يعكس جهودها في مواجهة التغير المناخي لا سيما بعد حرائق الغابات التي شهدتها خلال السنوات الأخيرة التي أدت إلى تضرر 100 ألف هكتار في عام 2022، و17 ألف هكتار في عام 2023.
ويُسهم المشروع بدور رئيس في وفاء الجزائر بالتزامها وفق الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر التي انضمت إليها عام 1996، واتفاقية باريس لعام 2015 لخفض الانبعاثات بحلول عام 2030، وأهداف التنمية المستدامة الـ17.
وانطلق مشروع إعادة تأهيل السد الأخضر في الجزائر في عام 2020، مع تخصيص ميزانية تبلغ 75 مليار دينار جزائري (562 مليون دولار)، ويُجدّد التمويل الخاص بالمشروع سنويًا وفقًا للقانون المالي الجزائري، لمدة 7 سنوات (2023-2030).
ووُسعّت مساحة السد من 3.7 إلى 4.7 مليون هكتار، ليشمل 13 ولاية (المسيلة، وباتنة، وخنشلة، والأغواط، والبيض، والنعامة، وسطيف، والجلفة، والبويرة، وتبسة، وبرج بوعريريج، وبسكرة)، بالإضافة إلى 183 بلدية، و1200 منطقة.
وتتشكّل 63% من مساحة السد الأخضر من مساحات رعوية تبلغ 2.33 مليون هكتار، في حين تشكّل المساحات الغابية 18%، بمساحة تُقدّر بـ665 ألفًا و741 هكتارًا، في حين تشكل المساحة الفلاحية 16% من المساحة الإجمالية، بمقدار 591 ألفًا و769 هكتارًا.
إستراتيجية شاملة للتنمية المستدامة
أُجريت دراسات عديدة لإعادة إحياء السد الأخضر في الجزائر، من خلال مقاربة متكاملة تأخذ بالأبعاد البيئية والاقتصادية والاجتماعية المستدامة؛ إذ تمت دراسة احتياجات السكان في المناطق المعنية، وقياس نسبة البطالة، بهدف توفير فرص عمل تتناسب مع إمكانات المناطق وتلبية احتياجات الاقتصادَين المحلي والوطني من خلال فتح باب الاستثمار والمشروعات الصغيرة.
كما خُصصت الأراضي الخصبة للزراعة، إما للتشجير وإما لغرس الأشجار المثمرة، في حين تم توجيه الأراضي غير الخصبة للاستعمال بصفتها عقارًا صناعيًا لإنشاء وحدات لتحويل المنتجات الزراعية.
ويُعد تشجيع السياحة البيئية جزءًا من الإستراتيجية، إذ مُنحت عقود امتياز لاستغلال المساحات الغابية للاستجمام، كما يُعد السد الأخضر مصدرًا للمواد الأولية التي تعتمد عليها الصناعات التقليدية.
وللوفاء بمتطلبات عمليات التشجير، تم إنشاء 45 مشتلًا موزعة على 12 ولاية، لتوفير 120 مليون شتلة على مدار 7 سنوات (2023-2030)، واُختيرت أشجار مقاومة للتصحر والجفاف، مثل الزيتون، والفستق الحلبي، واللوز، والخروب، كما اُختير التين الشوكي بصفته حاجزًا طبيعيًا ضد الحرائق، الذي تُستعمل أوراقه علفًا للماشية، كما تم الاعتماد على مياه الصرف الصحي المعالجة في عمليات الري الخاصة بالأشجار الحرجية والرعوية.
ولضمان فاعلية إعادة إحياء المشروع الجزائري العملاق، تم إنشاء الهيئة التنسيقية لمكافحة التصحر وإعادة بعث السد الأخضر التي تضم ممثلين عن 15 وزارة، بالإضافة إلى مديري المراكز والهيئات والمؤسسات العمومية، وممثلين عن جميعات المجتمع المدني التي تنشط في مجال مكافحة التصحر.
ومن المهام الرئيسة للهيئة مكافحة التصحر والجفاف ومتابعة إحياء مشروع السد الأخضر، إلى جانب متابعة تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة حول مكافحة التصحر وتعيين القطاعات المعنية، بحضور مؤتمرات الأطراف وغيرها من المهام ذات الصلة.
ويُلاحظ في تشكيلة الهيئة التنسيقية لمكافحة التصحر غياب وزارة التربية والتعليم، الأمر الذي يشكّل تحديًا لجهود التوعية البيئية في خلق جيل صديق للبيئة.
خطة عمل طموحة
من أجل إعادة إحياء السد الأخضر في الجزائر، تم وضع خطة عمل طموحة تغطّي السنوات من (2020-2030) مقسمة على برامج متوسطة وقصيرة المدى.
وتغطي المرحلة الأولى المدة من 2020- 2023، وخُصصت لها ميزانية 11.7 مليار دينار (88 مليون دولار)، واستهداف غرس 23 مليون شجرة، من خلال إشراك مختلف الفاعلين والقطاعات الوزارية، كالعدالة (إدارة السجون)، ووزارة الشباب والرياضة (مديريات الشباب عبر الولايات المعنية)، والدفاع الوطني.
وبلغت عمليات التشجير في المرحلة 19 ألفًا و626 هكتارًا ضمن 26 ألفًا و234 هكتارًا المستهدفة بمعدل إنجاز قدره 75%، إذ تم تشجير 17 ألفًا و545 هكتارًا من المساحات الغابية، و448 هكتارًا من المناطق الرعوية، و1513 هكتارًا من مزارع الفاكهة، وتثبيت 143 هكتارًا من الكثبان الرملية، وحجز ما يقارب 44 ألفًا و894 مترًا مكعبًا من المياه وفتح 413 كيلومترًا من الطرق الريفية.
وتُقدّر ميزانية المرحلة الممتدة من 2023 إلى 2026 بنحو 10 مليارات دينار (75 مليون دولار)، من خلال إشراك مختلف الفواعل من الوزارات المعنية، والفلاحين، والمرأة الريفية، وتنظيمات المجتمع المدني، والقطاع الخاص.
وأوكلت المهمة في المرحلة إلى كل من المجمع العمومي للهندسة الريفية "جي جي أر"، والمكتب الوطني للدراسات الخاصة بالتنمية الريفية الذي يشرف على دراسات تقييم المشروع، في إطار صفقات بالتراضي.
وتستهدف المرحلة تشجير المناطق الغابية بمساحة 7440.5 هكتار، والمناطق الرعوية بمساحة 2640 هكتارًا، ومزارع للفواكه 4331.5 هكتارًا، والتين الشوكي 444.16 هكتارًا، وشريط أخضر مختلط 9.295 هكتارًا، بالإضافة إلى مد مصدات الرياح بأطول تزيد على 1012.5 كيلومترًا، وتثبيت الرمال 1129.5 هكتارًا، وفتح 413 طريقًا ريفيًا.
تعزيز الأمن الغذائي
يُعد السد الأخضر في الجزائر مشروعًا إستراتيجيًا لمكافحة التصحر وحماية الأراضي الزراعية، إذ يعمل بوصفه حاجزًا طبيعيًا يحد من زحف الرمال وتدهور التربة، ما يسهم في صون المساحات الزراعية في الشمال والغرب.
كما أن الغطاء النباتي الذي يوفّره يحسّن المناخ المحلي عبر خفض درجات الحرارة وزيادة الرطوبة، مما يعزز من فرص هطول الأمطار.
بالإضافة إلى ذلك، يوفر السد الأخضر موائل طبيعية تسهم في الحفاظ على التنوع البيولوجي ودعم الحياة البرية، خاصة للأنواع المهددة.
ويقوم المشروع أيضًا بدور حيوي في مواجهة التغير المناخي من خلال امتصاص ثاني أكسيد الكربون وتقليل انبعاثات غازات الدفيئة.
من ناحية أخرى، تدعم إعادة تأهيل الأراضي وزراعتها بالأشجار والمحاصيل الملائمة الأمن الغذائي للجزائر، وتحد من الاعتماد على الواردات.
كذلك، يُسهم المشروع في خلق فرص عمل للشباب في المناطق الريفية وإعادة التوازن الاجتماعي للأقاليم والحد من الهجرة نحو الشمال واستقرار السكان في الهضاب العليا والسهوب والمناطق شبه الصحراوية وتحسين الظروف الاجتماعية لسكان المناطق المعنية من خلال الاستفادة من مختلف مشروعات حفر الآبار والحوجز المائية ومصدات الرياح ومعدات الطاقة الشمسية، مما يسهم في حل أزمة البطالة ويقلل من الضغط على المدن.
كما يدعم السد الأخضر السياحة البيئية عبر استغلال المساحات الخضراء التي تجذب الزوار المهتمين بالطبيعة، مما يُسهم في تعزيز الوعي البيئي وتنمية الاقتصاد المحلي والبيئي.
وإلى جانب فوائده البيئية والاقتصادية، يعزز المشروع الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية، ويفتح آفاقًا للسياحة البيئية في المناطق المستهدفة.
رؤية تنموية طموحة
يمثّل مشروع السد الأخضر في الجزائر خطوة إستراتيجية تعزز الفوائد البيئية والاقتصادية، إذ يسهم في تقليل زحف الرمال وتحسين المناخ الإقليمي، مما يعزّز هطول الأمطار ويخفّف الجفاف في دول الجوار مثل تونس وليبيا.
كما يوفر نموذجًا أفريقيًا لمواجهة التغير المناخي عبر امتصاص ثاني أكسيد الكربون، ويعزز الأمن الغذائي من خلال تحسين جودة التربة ودعم الزراعة المحلية. بالإضافة إلى ذلك، يفتح المشروع آفاق التعاون الإقليمي في مكافحة التصحر ويعزز السياحة البيئية، مما يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في القارة الأفريقية.
ويواجه مشروع السد الأخضر تحديات كبيرة، أبرزها التغيرات المناخية التي تؤثر سلبًا في التربة والنباتات، وحاجته إلى موارد مائية ومالية ضخمة، مما جعل الجزائر تطلب تمويلًا من صندوق المناخ الأخضر بالتعاون مع الأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو).
كما يعوق ضعف الوعي البيئي لدى السكان المحليين ونقص الخبرات التقنية وتحديات النقل إلى المناطق النائية استدامة المشروع.
ولمواجهة التحديات، يمكن إنشاء صندوق دعم يعتمد على إسهامات حكومية ودولية، وإشراك المجتمعات المحلية بتدريبات وحوافز، وتطوير سياسات بيئية صارمة تحظر القطع الجائر والرعي العشوائي، وتعزيز الوعي البيئي لتحفيز المجتمع على حماية المشروع ودعمه.
* د. منال سخري، أستاذة وخبيرة في السياسات البيئية والتنمية المستدامة.
موضوعات متعلقة..
- التحول الأخضر في أفريقيا.. معضلة قد تحلها 4 توصيات (دراسة)
- صناعة التعدين.. هل تكتسي باللون الأخضر خلال رحلة انتقال الطاقة في 2022؟
- الجزائر تعطي الأولوية لحماية البيئة في أنشطة الفحم والمناجم
اقرأ أيضًا..
- مستجدات أسواق الغاز المسال العربية والعالمية في الربع الثالث 2024 (ملف خاص)
- بعد مغادرتها مصر.. سفينة حفر عملاقة تصل إلى موقع اكتشاف نفطي ضخم
- حقول النفط والغاز في الإمارات.. أرقام الاحتياطيات والإنتاج (ملف خاص)