في عصر تحوّل الطاقة، يتصدّر قطاع التعدين في الخليج قائمة أكبر المستفيدين من سعي الدول الكبرى إلى تأمين إمداداتها من المعادن الحيوية، التي تشتد إليها الحاجة بشكل متزايد.
وتُعَد بعض المعادن الأرضية النادرة مكونات حاسمة للتحول إلى طاقة الرياح والطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية.
ووفق المعلومات التي رصدتها منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، يمثل الكوبالت والنحاس والليثيوم عملات مزيج الطاقة الجديد؛ ويُمكن العثور على الكثير من هذه المعادن الحيوية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ أو في أفريقيا.
وليس من المستغرب أن نرى دول الخليج المنتجة للنفط تتسارع لتأمين هذه المعادن في الداخل والخارج، في الوقت الذي تُحَوِّل فيه اقتصاداتها، وتتطلّع إلى أفريقيا بحثًا عن فرص استثمارية وتأمين المكونات اللازمة للبنية التحتية للطاقة النظيفة.
تطور قطاع التعدين
شهد قطاع التعدين تطورًا ملحوظًا على مدار العصور؛ إذ كانت التوابل والمعادن سلعًا ثمينة في الحضارات القديمة، وكان العديد من الحروب والغزوات تهدف إلى السيطرة على مناجم الملح أو التوابل.
وكان الملح واحدًا من أكثر الأشياء قيمة؛ إذ كان بمثابة مادة حافظة للطعام، وفي بعض الحالات عملة في العصر الروماني، عندما ورد أن الجنود كانوا يتقاضون جزءًا من رواتبهم بالملح؛ حتى إن الملح كان في بعض الأحيان أكثر قيمة من الذهب.
وذُكرت هذه الحقائق عبر مقال في عدد مارس/آذار 2024 من مجلة الطاقة العالمية التابعة لشركة إيني (Eni)، والذي يقدم تاريخًا رائعًا وممتعًا في بعض الأحيان للمواد الخام واستعمالها عبر التاريخ، وفق ما اطّلعت عليه منصة الطاقة المتخصصة في مجلة ميس المتخصصة في أخبار النفط والغاز (Mees).
بالإضافة إلى الذهب والفضة، كان الخشب سلعة حيوية أخرى؛ إذ استُعمل في البناء وبناء القوارب وإنتاج الفحم، الذي ظل مصدرًا أساسيًا للطاقة لعدّة قرون.
وتوفر كهوف الملح الحل الأمثل لتخزين فائض الغاز والهيدروجين، وكلاهما يمكن استغلاله لدعم الطاقة الشمسية وطاقة الرياح المتقطعة؛ لكن الملح بوصفه سلعة لم يُعد له القدر نفسه من القيمة كما كان في السابق.
وبينما كانت أونصة واحدة من الملح تعادل أونصة من الذهب؛ فإن أونصة الذهب هذه الأيام يُمكن أن تشتري أكثر من 440 كيلوغرامًا من الملح، وفقًا لكاتب المقال أليساندرو جيرودو.
وأوضح جيرودو أن هذا يُعد انعكاسًا للتقدم التقني والتعدين، ولكنه يمثل -أيضًا- إعادة تقييم للموارد والمعادن التي تُعد ذات قيمة وضرورية لتقدم الإنسان وبقائه.
ويرجع جزء كبير من هذا إلى تحول الطاقة؛ لأن بعض المعادن والعناصر الأرضية النادرة تُعَد مكونات حاسمة للتحول إلى طاقة الرياح والطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية.
إنتاج المعادن الحيوية في العالم
أنتجت منطقة آسيا والمحيط الهادئ ما يقرب من 70% من المعادن والمواد الضرورية لتصنيع بطاريات الليثيوم أيون المستعملة في المركبات الكهربائية.
وفي المنطقة، كانت الصين المنتج الرائد في العالم للكوبالت المكرر والمستهلك الرائد له في العالم؛ إذ استُعمل ما يقرب من 87% من الاستهلاك لإنتاج بطاريات الليثيوم أيون، وفقًا للمراجعة الإحصائية للطاقة العالمية لعام 2024.
وبالإضافة إلى إنتاج ما يقرب من 20% من إنتاج الليثيوم في العالم، أنتجت الصين أيضًا نحو 74% من إمداداتها من الغرافيت، وفقًا لتقديرات عام 2023.
وأنتجت أفريقيا 75% من إنتاج الكوبالت في العالم، وكانت جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها مسؤولة عن نحو 96% من الإجمالي أو 56% من الإجمالي العالمي.
على الرغم من انخفاض أسعار المعادن والمواد بشكل عام من أعلى مستوياتها في عام 2022؛ فإن أسعار كربونات الليثيوم ظلّت أعلى بنحو 400% من مستويات ما قبل جائحة فيروس كورونا في عام 2019، وارتفعت أسعار النحاس بنحو 140%.
تقدم التعدين في الخليج
في الآونة الأخيرة، غُيِّرَ اسم بورصة دبي للطاقة (DME)، التي تدرج العقود الآجلة للنفط العماني، إلى بورصة الخليج للسلع، وتخطط لإطلاق سلسلة من مؤشرات المعادن والمعادن الإقليمية، بما في ذلك الذهب.
وتركز المملكة العربية السعودية بشكل كبير على توسيع قطاع المعادن والمعادن الحيوية جزءًا من رؤية 2030؛ واستحوذت مجموعة تداول السعودية على حصة 32.6% في بورصة دبي للطاقة خلال العام الجاري (2024).
ومن شأن استثمار المملكة العربية السعودية في بورصة دبي للطاقة أن يمول إطلاق البورصة لهذه العقود الجديدة، وفق ما جاء تقرير "ميس" الذي اطّلعت منصة الطاقة المتخصصة على تفاصيله.
وتقول بورصة دبي للطاقة إن الشراكة ستمكنها من "الاستحواذ على الطلب على أسواق الطاقة والمعادن والسلع الزراعية ودعم التحول العالمي المستمر إلى اقتصاد مستدام، من خلال إطلاق عقود المشتقات المالية من الجيل التالي جزءًا من التحول إلى اقتصاد مستدام".
في 27 مايو/أيار 2024، أعلنت شركة أبوظبي الدولية القابضة، وهي كيان استثماري مدعوم من الحكومة، أنها تفاوض الحكومة الزامبية للاستحواذ على مناجم كونكولا للنحاس.
وتُعَد هذه الخطوة جزءًا من جهد مكثف تبذله الإمارات والسعودية لزيادة الاستثمار في المعادن الحيوية؛ إذ تسعى دول الخليج المنتجة للنفط إلى تنويع اقتصاداتها بعيدًا عن الوقود الأحفوري.
التعدين في السعودية
من جانبها، تُركِّز السعودية بشكل متزايد على تطوير قطاع التعدين؛ ويؤكد المسؤولون أن التعدين سيكون "الركيزة الثالثة" للاقتصاد، في حين يرى المراقبون إمكانات كبيرة غير مستغلة.
ووفق التقرير الذي اطّلعت عليه منصة الطاقة المتخصصة، تُعَد شركة معادن الحكومية المحرك الرئيس للقطاع، مع التركيز التقليدي على إنتاج الفوسفات في شمال المملكة.
وأطلقت معادن حملة تنقيب محلية كبرى تستهدف سلعًا ثمينة، مثل النحاس والنيكل والزنك والمعادن الأرضية النادرة.
وشكّلت الشركة مشروعًا مشتركًا مع شركة إيفانهو إلكتريك (Ivanhoe Electric) في مايو/أيار 2023 بنسبة 50% لكل منهما، لاستكشاف ما لا يقل عن 48.5 ألف كيلومتر مربع من الأراضي.
ولم تحذُ السعودية حذو الإمارات في عمليات الاستحواذ على مصالح التعدين في أفريقيا، لكن يُقال إن صندوق الاستثمارات العامة مهتم بالاستثمار في المعادن المهمة بجمهورية الكونغو الديمقراطية من خلال شركة معادن.
وفي منتدى مستقبل المعادن في الرياض خلال يناير/كانون الثاني 2024، وقّعت المملكة سلسلة من مذكرات التفاهم للاستثمار بالتعدين في الكونغو ومصر والمغرب، على الرغم من عدم تأكيد أي شيء.
التعدين في الإمارات
أما الإمارات؛ فرغم أنها لا تتمتع بالموارد المعدنية نفسها التي تتمتع بها السعودية؛ فإنها تُعد أكثر تحركًا في عمليات الاستحواذ الخارجية، وقد أنفقت بالفعل مليارات الدولارات في مشروعات التعدين الأفريقية، وخاصةً النحاس؛ حيث تتمتع الصين بمكانة مهيمنة في أفريقيا.
وفي مارس/آذار 2024، أكملت شركة أبوظبي الدولية القابضة استحواذها على مناجم كوندولا للنحاس في زامبيا، بعد أن استحوذت خلال وقت سابق على حصة قدرها 51% في مناجم موباني للنحاس مقابل 1.1 مليار دولار.
وفي العام الماضي (2023)، وقّعت الإمارات صفقة بقيمة 1.9 مليار دولار مع شركة التعدين في جمهورية الكونغو الديمقراطية "ساكيما" لتطوير 4 معادن حيوية.
كما أبرمت أبوظبي اتفاقيات مشروع مشترك لاستعمال الخام في أنغولا، وهي تجري مناقشات متقدمة لاستخراج معادن مهمة مختلفة في بوروندي وتنزانيا وكينيا، وفقًا لمدونة نشرها مؤخرًا معهد دول الخليج العربية في واشنطن.
موضوعات متعلقة..
- استثمارات التعدين في الخليج.. رحلة بحث عن كنوز الأرض رغم التحديات
- أولويات تحول الطاقة ومسارات إنفاق تمويلات المناخ قبل 2030 (تقرير)
- كيف يستفيد العالم من نماذج تحول الطاقة عبر التاريخ؟
اقرأ أيضًا..
- شركة إسرائيلية تطور حقل نفط احتياطياته 1.7 مليار برميل
- ما علاقة تغير المناخ بشراء ولايات أميركية الغاز المسال من قطر والجزائر؟ (تقرير)
- هل يحد انتشار الذكاء الاصطناعي من دور الهيدروجين عالميًا؟ (تقرير)
- توليد الكهرباء المتجددة في الاتحاد الأوروبي يتجاوز الوقود الأحفوري خلال 2023 (تقرير)