خسرت روسيا حرب الطاقة طويلة الأمد أمام أوروبا، بعد أن ذهبت خطط الرئيس فلاديمير بوتين التي تستهدف قطع شرايين الطاقة عن القارة العجوز -لا سيما في فصل الشتاء- أدراج الرياح، نتيجة تضافر عوامل عدة، في مقدمتها نجاح الأوروبيين في تدبير إمدادات بديلة للغاز الروسي.
وبينما تشهد أسواق الطاقة الأوروبية زخمًا ملحوظًا، لن تعود نظيرتها الروسية على ما يبدو إلى سابق عهدها نتيجة العقوبات الغربية الخانقة المفروضة على موسكو.
وخلافًا للسيناريو الحاصل، توقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجاحه في استغلال صادرات الغاز هذا الشتاء لابتزاز أوروبا في حرب الطاقة الدائرة بينهما، وتقويض الدعم الغربي لأوكرانيا، لكن هذا التكتيك انقلب على القيصر الروسي في النهاية، وقوّض وضع بلاده في أسواق الطاقة الأوروبية، حسب تقرير لموقع أتلانتيك كاونسيل (Atlantic Council).
خطط بوتين الفاشلة
في سبتمبر/أيلول (2022)، توقع محللون فشل خطة بوتين لقطع إمدادات الوقود عن أوروبا، والتسبب في معاناة سكان القارة العجوز برودة الطقس المتطرف في فصل الشتاء، وفق معلومات طالعتها منصة الطاقة المتخصصة.
ومع اقتراب موسم الشتاء من نهايته، تثبت تلك التوقعات صحتها على الأرجح.
وعلى عكس تنبؤات الكرملين، لم ينعم المستهلكون الغربيون بالدفء في منازلهم في فصل الشتاء فحسب، وإنما حوّلت معظم الشركات الأوروبية وجهتها صوب أوكرانيا لوضع فائض الغاز لديها في منشآت التخزين المحلية هناك.
ويكشف التصميم أدناه -الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة- صادرات روسيا من النفط الخام والمكثفات:
وإحقاقًا للحق، كان الحظ حليفًا لأوروبا، فالطلب والعرض ظلا متوازنين بفضل ثبات معدلات الاستهلاك نتيجة الطقس المعتدل، وهبوط الطلب الصناعي.
وفي غضون ذلك، استقبلت أوروبا كميات كافية بديلة من شحنات الغاز الطبيعي المسال، من السوق العالمية وسط انعدام المنافسة من الصين التي كانت ما تزال تعاني تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19".
أسواق أوروبا مرنة
يُعزى انتصار أوروبا في حرب الطاقة -أيضًا- إلى مرونة أسواقها، التي سرعان ما تعاملت مع قرار موسكو قطع إمدادات الغاز عن أوروبا في العام المنقضي (2022)، ما رفع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية غير معهودة.
وأحدثت حرب الطاقة التي شنّها الرئيس الروسي على الاتحاد الأوروبي صدمة كبيرة لدول التكتل التي تتطلع جاهدة لإنجاز مسار تحول الطاقة، عبر إكمال المشروعات التي طال انتظارها، أو حتى تسعى للعثور على مصادر بديلة لسد فجوة الإمدادات الروسية.
ومع هبوط حصة روسيا من الواردات الأوروبية، من 40% لما دون 10%، نهاية عام 2022، اتجهت الشركات الأوروبية نحو أسواق الغاز الطبيعي المسال، لتستورد 96.3 مليون طن في عام 2022، بزيادة على 56.3 مليون طن في العام السابق.
وبفضل حزمة من السياسات التي تستهدف رفع معدلات التخزين، اكتملت سعة معظم المستودعات المبنية تحت الأرض بنسبة 90% أو يزيد بحلول بداية موسم التدفئة في 1 أكتوبر/تشرين الأول (2022)، متخطيةً بذلك النطاق المستهدف بواقع 10%.
ويعني هذا أنه مع قرب إسدال الستار على موسم الشتاء، تبقى سعة منشآت التخزين عند مستويات مرتفعة، في حين انخفضت أسعار الغاز إلى أدنى مستوى لها في 16 شهرًا.
ويوضح الرسم البياني أدناه -الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة- حجم الصادرات الروسية من النفط الخام خلال العام الفائت (2022)، بحسب بيانات الوكالة الدولية للطاقة:
مخاطر قائمة
ما تزال هناك مخاطر قائمة، فحدوث موجة برد غير متوقعة في أواخر فبراير/شباط (2023)، أو خلال الأسابيع الأولى من فصل الربيع، أو حتى تعافٍ كبير في الطلب الصيني، أو إمكان تصعيد خطير في الحرب الأوكرانية، قد يُربك الأسواق، وتقود في النهاية إلى مزيد من الاضطرابات أو ارتفاع في الأسعار.
ورغم كل تلك التهديدات القائمة، تبدو أسواق الطاقة الأوروبية أكثر استعدادًا لامتصاص الصدمات المحتملة، ما يُرجح كفة الأوروبيين في حرب الطاقة الدائرة مع روسيا.
وتعكف أوروبا على توسيع سعة وارداتها من الغاز الطبيعي المسال، التي من المتوقع أن ترتفع بما لا يقل عن 20% هذا العام (2023).
وسيتوقف الكثير من خطط أوروبا على مدى توافر إمدادات الغاز الطبيعي المسال عالميًا.
ومع ذلك، فإن الحقيقة التي مؤداها أن ألمانيا قد نجحت في تشغيل 3 محطات للغاز الطبيعي المسال في أقل من عام، لتحل محل واردات الغاز الروسي، تشير إلى قدرة غير عادية للأسواق الأوروبية في مواجهة التحديات الجسيمة.
مشروعات حاسمة
عامل آخر كان له دور في حسم أوروبا حرب الطاقة لصالحها أمام روسيا، يكمن في مشروعات الطاقة التي ظلت معطلة لمدة طويلة أو حتى في طي النسيان، قبل أن يفطن الأوروبيون إلى هذا الأمر، ويشرعوا في إنجازها على الفور.
فعلى سبيل المثال، استطاعت بلغاريا مع اليونان بدء تشغيل شبكة ربط تسمح باستغلال الغاز من بحر قزوين والغاز الطبيعي المسال.
في غضون ذلك، أسّست كل من ألمانيا وفرنسا خطوط غاز ثنائية الاتجاه، التي ستتيح لألمانيا ليس فقط تصدير الغاز إلى فرنسا، وإنما أيضا الاستيراد من هذا الاتجاه.
ويبيّن الرسم البياني التالي -الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة- تدفقات الغاز إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب:
وحتى رومانيا التي لطالما عارضت فكرة تصدير الغاز المنتج محليًا، وجهت بعض شحناتها إلى بلغاريا المجاورة.
كما حفّزت حرب الطاقة التي شنها بوتين على أوروبا مشروعات الطاقة المتجددة، ومع سعي حكومات دول الاتحاد الأوروبي لتسريع وتيرة منح تراخيص تلك المشروعات، شهدت معدلات تركيبات الألواح الشمسية، والمضخات الحرارية، واحدة من أفضل سنواتها على الإطلاق في 2022.
وفي هذا السياق، ارتفعت سعة الطاقة الشمسية بواقع 41.4 غيغاواط، أو ما يعادل نسبته 25% على أساس سنوي، مسجلة 208.9 غيغاواط عام 2022، ومن المتوقع أن تنمو بوتيرة أسرع في العام الجاري (2023).
وعلاوة على ذلك، تأثرت واردات الفحم والنفط الروسية بحزمة العقوبات الأوروبية، إذ توقف المستهلكون الأوروبيون عن شراء الفحم، وكذلك النفط المنقول بحرًا، في النصف الثاني من عام 2022.
وهذا يُترجم حرفيًا تراجع حصة موسكو من واردات الاتحاد الأوروبي من الفحم والنفط لما دون 15% في العام الفائت (2022)، قياسًا بأكثر من 45% للفحم، و25% للنفط في العام السابق (2021)، وفق أحدث التقديرات الصادرة عن "يورستات"، مكتب الإحصاءات الأوروبي ومقره لوكسمبورغ.
أوروبا تتفادى الركود
هناك علامات الآن على أن الاقتصادات الأوروبية الكبرى ربما تكون قد تفادت الانزلاق في بئر الركود، كما تتوافر مؤشرات على أن أسواق الطاقة بدأت تستعيد الزخم، بعكس الحال في قطاع الغاز الروسي الذي هبط إنتاجه بنسبة 12% في عام 2021، لأقل مستوياته على الإطلاق منذ عام 1990.
بل يبدو الأمر أكثر سوءًا بالنسبة إلى "غازبروم"، عملاقة الطاقة الروسية التابعة للحكومة، التي هبط إنتاجها على أساس سنوي بنسبة 20% في عام 2022، في أسوأ موجة تراجع سنوي بتاريخ الشركة.
ويأتي هذا بينما نجحت "غازبروم" في زيادة صادرات الغاز إلى الصين بنسبة 5.4 مليار متر مكعب، بيد أنها فقدت معظم إنتاجها المصدر إلى السوق الأوروبية والبالغة 140 مليار متر مكعب.
ليس هذا فحسب، وإنما خسرت "غازبروم" حصتها في السوق المحلية الروسية، لصالح منتجين مستقلين في عام 2022.
وربما تتطلع "غازبروم" الآن لإنعاش ثرواتها المتناقصة عبر استعمال تركيا كونها بوابة خلفية، إذ تخطط الشركة الروسية لبيع الغاز إلى شركة بوتاش التركية للغاز التي ستبيعه بدورها إلى أوروبا، على أنه غاز تركي.
وقد يتيح هذا لموسكو التعافي على الأقل من بعض الخسائر التي تكبدتها في عام 2022.
في غضون ذلك، فإن طبيعة التحولات الحاصلة إبان الأشهر الـ11 الماضية، تعني أن روسيا ليس لديها بصيص من الأمل في العودة إلى سابق وضعها المهيمن في أسواق الطاقة الأوروبية، بعد أن تيقنت من خسارتها في حرب الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- منشآت الطاقة الأوروبية تواجه حربًا روسية خفية.. هل يتكرر مصير نورد ستريم؟
- الغاز الروسي في مأزق بعد خسارة السوق الأوروبية.. هل يدفع بوتين الثمن؟
- رئيس أرامكو: أزمة الطاقة لن تنتهي بوقف الحرب الروسية الأوكرانية.. وهذه هي الأسباب
اقرأ أيضًا..
- 3 شواهد منطقية تشير إلى تدفق الغاز الجزائري للمغرب سرًا (مقال)
- المجلس العربي للطاقة المستدامة: 9 دول عربية تقود الهيدروجين الأخضر عالميًا (حوار)
- سعر برميل النفط عالميًا يرتفع بسبب زلزال تركيا.. وخام برنت فوق 82 دولارًا