أزمة الطاقة في أوروبا تدفع الشركات الإيطالية لابتكار حلول ذاتية (تقرير)
عمرو عز الدين
دفعت أزمة الطاقة في أوروبا عددًا من الشركات الإيطالية إلى ابتكار عدد من الحلول الذاتية تضمن لها تجاوز المرحلة الراهنة بأقل قدر من الخسائر.
عملت الشركات الإيطالية على اللجوء إلى الطاقة الشمسية أو تخزين الغاز أو الدخول في شراكات لإنشاء محطات كهرباء من أجل تجاوز عاصفة أزمة الطاقة التي تضرب القارة العجوز بعد انقطاع إمدادات الغاز الروسي بصورة شبه نهائية منذ نهاية سبتمبر/أيلول (2022).
اختلفت استجابة الشركات الإيطالية للأزمة ما بين قادر على المواجهة والتكيف وتدبير البدائل، ومخفق يأمل في انفراج الأزمة الأوكرانية في أسرع وقت ممكن، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
35 مليار غطاء تعبئة
أعلنت شركة بيليكوني الإيطالية المتخصصة في صناعة غطاءات زجاجات التعبئة وتوريدها أولَ نموذج لألواح معدنية شمسية لا تعتمد على الغاز الطبيعي، في إشارة إلى أول استجابة مرنة في مواجهة أزمة الطاقة في أوروبا، وفقًا لوكالة رويترز.
تنتج شركة بيلىكوني قرابة 35 مليار غطاء تعبئة سنويًا تبيع أغلبها داخل إيطاليا إضافة إلى تصدير جزء من الإنتاج إلى مصر والصين، وتلتزم الشركة بتعاقدات ضخمة مع كبرى شركات المشروبات الجاهزة في الأسواق المحلية والدولية، مثل كوكاكولا، وهينيكن، وغينيس.
يصنف نشاط إنتاج غطاءات التعبئة ضمن الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة؛ لاعتماده على مواد خليطة من الحديد والصلب والألومنيوم؛ ما جعل الشركات في المجال تُعَد من أكثر المتضررين من أزمة الطاقة في أوروبا مع نقص الغاز الروسي وخطط خفض الاستهلاك الأوروبية.
وتُعَد بيليكوني واحدة من الشركات الإيطالية التي أدركت الأزمة ولجأت للاستثمار في الألواح الشمسية مبكرًا في محاولة لتجنب توقف نشاطها أو ضعف الإنتاج، بما يؤثر في علاقاتها التجارية بشركات لا يمكنها الاستغناء عن العبوات الزجاجية المصنعة.
الصراخ والعويل لا يفيدان
يقول الرئيس التنفيذي للشركة، ماركو شيتشي، معبرًا عن خطط الأزمات: "إذا كنت تسمع أخبارًا متتالية عن تعرض إمدادت الغاز للخطر؛ فعليك أن تفعل شيئًا لإنقاذ نشاطك التجاري؛ فالصراخ والعويل لن يفيداك إذا ما تقرر وقف التدفق لمصنعك ولو ساعتين يوميًا"، وفقًا لتصريحات نقلتها وكالة رويترز.
تعاني بيليكوني -مثل غيرها من الشركات الإيطالية- زيادةَ تكاليف الكهرباء والغاز بمعدلات تجاوزت 3 أضعاف منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا فبراير/شباط (2022).
وتلجأ الشركات المتضررة من أزمة الطاقة في أوروبا في مثل هذه الحالات إلى تحميل المستهلك أكبر قدر ممكن من التكلفة الزائدة، في صورة زيادات في أسعار السلع والمنتجات النهائية.
واضطرت شركة بيليكوني إلى تمرير ثلثي التكاليف الزائدة في الطاقة إلى العملاء خلال الأشهر الماضية، كما تخطط لزيادة الأسعار مرة أخرى بحلول العام المقبل (2023).
وأسهمت الأسعار المرتفعة في زيادة معدل دوران التصنيع في إيطاليا بنسبة 16.2% في يوليو/تموز (2022)، كما زاد حجم الصناعة بنسبة 1.7%، مقارنة بانخفاض مقابل نسبته 0.8% في ألمانيا، أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.
انكماش بعد انتعاش
يقول الخبير في مركز إنتيزا سان باولو الاقتصادي، باولو ماميلي، إن الاقتصاد الإيطالي الذي يصنف تقليديًا بأنه من أكبر اقتصادات منطقة اليورو، قد شهد انتعاشًا أقوى بعد وباء كورونا من حيث الناتج الصناعي مقارنة بفرنسا وألمانيا، أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي.
تجاوزت بيانات النمو المسجلة في إيطاليا، حتى النصف الأول من العام الجاري، توقعات الخبراء، إلا أن تطورات الأحداث لا تبشر باستمرار الأداء نفسه خلال الربع الثالث.
وتتحسب الحكومة الإيطالية من انكماش الاقتصاد في الربع الثالث، مع توقعات متشائمة باستمرار الانكماش حتى منتصف عام 2023، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
كما يبدي محللون في مصرف غولدمان ساكس توقعات غير متفائلة للاقتصاد الإيطالي خلال العام المقبل في ظل حالة من عدم اليقين بشأن توقعات منطقة اليورو، إضافة إلى صعوبات في قياس مدى الركود الأوروبي المتوقع، فضلًا عن تفاقم مشكلة الديون الإيطالية.
يقدر غولدمان ساكس انكماشًا بنسبة 1% في اقتصاد منطقة اليورو، خلال الربع الثاني من العام المقبل (2023)، وفقًا لأوسط السيناريوهات حدوثًا.
كما يرّجح المصرف، في مذكرة حديثة –اطلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة- أن يُسهِم النشاط الصناعي المرن بمنطقة اليورو في الحد من الانخفاض إلى 0.2% في أفضل السيناريوهات، أما أسوأ هذه السيناريوهات فقد يقفز بمعدل الانكماش إلى 3%.
وتُعَد إستراتيجية المواجهة التي تعتمدها شركات مثل بيليكوني -مقرها بولونيا- عنصرًا محوريًا في معادلة الشركة التي يترقب المحللون نتائجها النهائية لتحليل مدى نجاحها وإخفاقها في بيئة عاصفة بالأحداث.
شركات أبدت مرونة 50%
يقول الرئيس التنفيذي لشركة يوني كريدت، أندريا أورسل، إن الشركات بطبيعتها تتكيف مع الأحداث والظروف، وتصور عكس ذلك خطأً لا ينبغي الوقوع فيه.
ويضيف أورسل: "نرى الشركات تعيد تنظيم سلاسل التوريدات الخاصة بها باستمرار؛ ما يعني أن الأسر والشركات أثبتت أنها أكثر مرونة مما كان متوقعًا".
تشعر الأسواق بالقلق كثيرًا بشأن أداء إيطاليا داخل منطقة اليورو، متجاهلة حقيقة استمرار النمو الاقتصادي في روما أكثر من فرنسا وألمانيا، وفقًا لأورسل الذي يستشهد بارتفاع ودائع الشركات بنسبة 35% عن مستويات ما قبل الجائحة.
تقول يوني كريدت -التي تقدم خدمات تمويلية للشركات بمجالات الطاقة المتجددة- إن بعض العملاء في القطاعات غير كثيفة الطاقة استطاعوا توليد 30% إلى 40% من احتياجات الطاقة بشكل مستقل.
كما استطاعت بعض الشركات في حالات أكثر مرونة توليد 50% من احتياجاتها عبر مصادر مختلفة من مصادر متجددة، مثل الألواح الشمسية التي تشهد نموًا في الاتجاه إليها من قِبل الشركات الإيطالية.
مخزونات الغاز
لجأ البعض الآخر من الشركات لتأمين احتياجاته عبر تعزيز مخزونات الغاز الطبيعي المسال، كما فعلت شركة (إس بي إي فارفت) المصنعة للأقفال؛ إذ استطاعت تأمين 400 حاوية غاز طبيعي ستُشحَن إلى مصنعها شمال شرق إيطاليا بحلول يناير/كانون الثاني (2023) لتعويض أي نقص محتمل في الإمدادات العادية.
كما تخطط شركات عاملة في صناعات السيراميك والورق -أكثر القطاعات المتضررة من نقص الغاز- لتوفير بدائل الطاقة؛ ما يشير إلى مرونة تكيف عالية لدى أغلب القطاعات الإيطالية في مواجهة أزمة الطاقة المتفاقمة في أوروبا.
وتتوقع شركة إيطالسر المتخصصة في صناعة البلاط تغطية ربع استهلاكها من الطاقة، عبر محطتين مشتركتين للتوليد تخطط لإسراع اكتمالهما في أقرب وقت ممكن.
يقول الرئيس التنفيذي لإيطالسر، غرازنوا فيردي، إن شركته تحملت تكاليف باهظة في بند توفير الغاز والكهرباء بقيمة 60 مليون يورو (58.96 مليون دولار) هذا العام؛ ما يمثل 70% من تكاليف التصنيع، مقارنة بـ20% في المدة المقارنة من العام السابق 2021.
وأضاف فيردي أن شركته استثمرت 10 ملايين يورو (9.83 مليون دولار) لبناء محطتي توليد مشترك لهذا العام (2022).
ونجحت شركة البلاط الإيطالية في توفير 5 ملايين يورو (4.91 مليون دولار) هذا العام (2022) من بنود مختلفة؛ أبرزها رفع أسعار المنتجات بنسبة 30 إلى 35%، وخفض معدل سماكة البلاط المنتج من 10 مليمترات إلى 8.5 مليمترًا، إضافة إلى الاستفادة من الدعم الحكومي.
الدعم الحكومي
خصصت حكومة رئيس الوزراء المنتهية ولايته، ماريو دراغي، مبلغ 66 مليار يورو (64.85 مليار دولار) لدعم إعفاءات ضريبية للشركات كثيفة الاستهلاك للطاقة والأسر الفقيرة حتى الآن.
ويحذر الاتحاد العام للصناعة الإيطالية (كونفيندو ستريا) من زلزال اقتصادي قادم، إذا لم تنجح الحكومة الجديدة في تعويض الضرر الناجم عن ارتفاع أسعار الطاقة في قطاعات الصناعة الإيطالية.
على الجانب الآخر يبدي بعض المصرفيين تقديرات متفائلة بشأن قدرة الشركات الإيطالية على التكيف، وفقًا للمصرفي الشهير، كورادو باسيرا، رئيس بنك إيطالي إم آي.
يقول باسيرا إن الأزمات تختبر بطبيعتها قدرة الشركات، وتنتقي الأكثر صمودًا، مشيرًا إلى استمرار طلب الشركات للقروض الرقمية من مصرفه لتمويل عمليات بناء مشروعات جديدة أو صفقات دمج واستحواذ بينها.
المصرفيون أقل تشاؤمًا
يذهب رئيس مصرف بانسو بي بي إم -ثالث أكبر مصرف في إيطاليا- إلى الاتجاه نفسه قائلًا: إن التحدث مع أصحاب الشركات والأعمال من خارج اتحاد الصناعة يعطيك انطباعًا متفائلًا بقدرتهم على الاستجابة والتكيف للأزمات.
وخفض الاتحاد العام للصناعة الإيطالية (كونفيندو ستريا) توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023 إلى صفر% مقارنة بتوقعات صادرة في أبريل/نيسان (2022) رجحت معدل نمو بنسبة 1.6%.
أما بالنسبة لتوقعاته للعام الجاري (2022)؛ فما زالت تقديراته تأمل في تسجيل معدل نمو في حدود 3.4% بفضل الأداء الممتاز للاقتصاد الإيطالي في النصف الأول من العام.
أما حكومة رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي –المنتهية ولايته- فتبدو أقل تشاؤمًا من الاتحاد بالنسبة لتوقعاته للنمو الاقتصادي في العام المقبل (2023)؛ إذ تتوقع انخفاضه إلى 0.6% بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة الناجم عن نقص إمدادات الغاز الروسي، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وتواجه إيطاليا أزمة في توفير بدائل الغاز الروسي -مثل بقية الدول الأوروبية- وسط مخاوف من تداعيات نقص الغاز في فصل الشتاء المقبل الذي يشهد ارتفاعًا طبيعيًا في استهلاك الطاقة من كل عام.
يقول اتحاد الصناعة الإيطالية: "إذا تصاعدت حدّة التوترات بين الاتحاد الأوروبي وموسكو إلى حدّ يؤدي لمزيد من القفزات السعرية و/أو منع إمدادات الغاز الروسي؛ فإن الآثار السلبية في الأنشطة الإنتاجية ستكون أكثر حدّة؛ ما يعني ضمنًا حدوث ركود أكثر وضوحًا".
إيطاليا قد تحقق معجزة غاز
سعت إيطاليا، خلال الأشهر الماضية، إلى عقد صفقات شراء الغاز الطبيعي مع الجزائر ودول الشمال الأوروبي؛ ما أدى إلى انخفاض اعتمادها على الغاز الروسي من 38% إلى 10% حتى شهر سبتمبر/أيلول (2022)، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وتسابق الحكومة الإيطالية الزمن لإنهاء إجراءات إنشاء محطة ضخمة لتخزين الغاز الطبيعي المسال بميناء مدينة بيومبينو الساحلية؛ أملًا في إحداث معجزة تمكنها من توفير 5 مليارات متر مكعب من الغاز بحلول فصل الشتاء المقبل.
كلفت الحكومة المنتهية ولايتها، الشركة المشغلة لشبكة الغاز سنام بإنفاق 400 مليون دولار لإنشاء تلك المحطة وتشغيلها بحلول مارس/آذار المقبل.
ومن المقرر أن تعمل هذه المحطة على تخزين الغاز الطبيعي وإعادة تحويله إلى غاز سائل وقت الحاجة؛ ما يمكّن إيطاليا من تفادي نقص الغاز في الأجل القصير والمتوسط .
وقال متحدث حكومي إيطالي، يوم الجمعة (21 أكتوبر/تشرين الأول 2022)، إن الحكومة الإيطالية ستعطي الضوء الأخضر لإنشاء محطة الغاز الطبيعي المسال، بداية الأسبوع المقبل، في إشارة إلى اختصار إجراءات قد تستغرق سنوات إلى أسابيع قليلة، من أجل مواجهة أزمة الطاقة في أوروبا.
يواجه هذا المشروع انتقادات بيئية كبيرة يقودها عمدة مدينة بيومبينو فرانشيسكو فراري الذي يتضامن مع انتقادات المنظمات البيئة المحلية خشية استمرار إيطاليا فيما يصفه "إدمان الغاز الطبيعي"؛ ما يعوق عمليات الإقلاع وخطط الانتقال إلى الطاقة المتجددة، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
اقرأ أيضًا..
- 3 دول تسبق المغرب والجزائر في مشروع نقل الهيدروجين عبر خطوط الغاز
- تحركات الغرب لتقييد صادرات النفط الروسي مهددة بالفشل.. وهذه هي الأسباب