التقاريرتقارير منوعةرئيسيةمنوعات

منجم بيليكوفا في تركيا.. كنز معادن نادرة يثير الجدل (تقرير)

سامر أبووردة

يُعد منجم بيليكوفا واحدًا من أكثر الملفات حساسية في الاقتصاد التركي، بعدما تحوّل من مشروع جيولوجي محلي إلى ورقة نفوذ ترتبط بالتحالفات الدولية وصراعات المعادن الحيوية التي تقوم عليها الصناعات الدفاعية والتقنيات المتقدمة.

ووفقًا لأحدث بيانات قطاع العناصر الأرضية النادرة عالميًا لدى منصة الطاقة المتخصصة، برز ذكر الموقع بوصفه أحد أكبر مواقع الاحتياطي المكتشف في العالم، وسط تصريحات سياسية متباينة، بين من يراه فرصة تاريخية لتعزيز النفوذ الصناعي، ومن يحذر من تحوّله إلى نقطة نفوذ خارجي على موارد حساسة.

ولم يكن ملف التعدين ضمن أولويات النقاش العام في تركيا، لكن التطورات الدولية دفعت بالقطاع إلى قلب الجدل، مع تصاعد الطلب العالمي على الموارد التي تدخل في صناعة الرقائق الدقيقة، والبطاريات عالية الكثافة، ومحركات الصواريخ.

وهنا بدأ الحديث عن منجم بيليكوفا بصفته جزءًا من معركة اقتصادية تتجاوز حدود السوق، ولا سيما بعد دخول الولايات المتحدة على خط الاهتمام به في سياق بحثها عن بدائل للهيمنة الصينية.

وتؤكد المعارضة التركية أن بعض الملفات الاقتصادية رُبطت بالتحركات الدبلوماسية على نحو يثير القلق، في إشارة إلى زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى واشنطن في 25 سبتمبر/أيلول 2025.

وأشارت إلى أن الحديث عن التقنية يجب ألا يكون غطاءً لنقل المواد الخام إلى الخارج، في حين تصر الحكومة على أن السيادة الاقتصادية خطّ أحمر لا يمكن التفريط فيه.

ورغم حساسية الخطاب السياسي، يبقى العامل الصناعي محوريًا في تفسير الاهتمام الدولي بالموارد الإستراتيجية في تركيا؛ إذ تشير تحليلات اقتصادية إلى أن السيطرة على عملية المعالجة هي الجزء الأخطر في السلسلة، فقد تمنح الطرف الذي يمتلك التقنية قدرة على التحكم في القيمة النهائية للمنتج، وهو ما يعزّز القلق الداخلي من الارتهان التقني.

معلومات عن منجم بيليكوفا

يُطرح منجم بيليكوفا في ولاية إسكي شهير بوصفه المحور الأساسي لهذا الجدل؛ إذ تشير البيانات الرسمية إلى أنه يحتوي على نحو 694 مليون طن من المواد الخام، وهو ما يجعله ثاني أكبر موقع عالميًا من ناحية الاحتياطي القابل للتطوير بعد الموقع الصيني الذي يتصدّر بنحو 800 مليون طن.

وبينما تُورّد الصين حاليًا ما بين 60% و70% من العناصر الأرضية النادرة، تبحث الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عن مصادر بديلة، إذ تُعدّ تركيا، باحتياطياتها المحتملة في بيليكوفا، خيارًا بديلًا في هذه السوق الإستراتيجية.

وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمة تابعتها منصة الطاقة المتخصصة، إن الموقع يحوي 10 من بين 17 عنصرًا من العناصر الأرضية النادرة، ويضم نحو 12.5 مليون طن من أكاسيد العناصر الأرضية النادرة، مضيفًا: "نسعى لأن نكون من أكبر 5 منتجين في العالم لهذه العناصر".

وأضاف أن عمليات المسح شملت أكثر من 125 ألف متر من الحفر موزعة على 300 نقطة في المنطقة، مضيفًا أن الموقع أُدرج ضمن المشروعات الإستراتيجية ذات الأولوية.

وتابع: "في المرحلة الأولى، قمنا بتشغيل منشأة إنتاج تجريبية تابعة لشركة إتي مادين لمعالجة 1200 طن من الخام سنويًا. ونواصل أعمالنا، بما في ذلك تقنيات التنقية، لتحويل المحطة التجريبية إلى منشأة صناعية".

وزير الطاقة ألب أرسلان بيرقدار داخل منجم بيليكوفا
وزير الطاقة ألب أرسلان بيرقدار داخل منجم بيليكوفا - الصورة من حسابه في منصة "إكس" (26 ديسمبر 2023)

بين السياسة والتقنية

أكد الرئيس التركي أن "الدول والشركات التي تملك تقنيات معالجة العناصر الأرضية النادرة تتردد في مشاركة خبراتها المتعلقة بعمليات الإنتاج في هذا المجال"، لافتًا إلى أن تجاوز هذا الحاجز وإدخال ثروات منجم بيليكوفا إلى دائرة الاقتصاد في وقت أقصر يُلزم بتعزيز التعاونات الدولية.

وأوضح: "نجري محادثات لتطوير شراكات مع المؤسسات المتخصصة في الدول التي تملك ذاكرة تقنية في هذا المجال".

واستطرد: "من هذا المنطلق، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُمنَح منطقة عناصر الأرض النادرة في بيليكوفا لأي دولة، ومن يدّعي غير ذلك فهو يفتري على بلده".

وأكمل: "المعادلة في الحقيقة بسيطة جدًا؛ إن أمكنهم، يحاولون العرقلة، وإن لم يستطيعوا، يسعون إلى التشويه، وما يحدث بشأن العناصر الأرضية النادرة هو مثال على ذلك؛ فالهدف هو منع تركيا من الاستفادة من هذا المورد الطبيعي الموجود في باطن أرضها".

وتشير البيانات الصادرة عن شركة "إتي مادن" الحكومية إلى تشغيل وحدة تجريبية لمعالجة نحو 1200 طن من الخام سنويًا بمنجم بيليكوفا في المرحلة الحالية، على أن تتوسع لاحقًا إلى مجمع صناعي قادر على فصل العناصر وفق معايير الاستعمال العسكري والتقني والتصنيع الدقيق.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان - الصورة من "سي إن إن بالعربية"

اهتمام أميركي بمنجم بيليكوفا

في أعقاب الزيارة التي أجراها أردوغان إلى واشنطن ولقائه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ظهر الملف مجددًا في النقاشات البرلمانية.

وأثار ذلك تساؤلات حول طبيعة التفاهمات المحتملة بين الجانبين، ولا سيما في ظل حاجة أنقرة إلى التقنية اللازمة لمعالجة المواد الخام المستخرجة من منجم بيليكوفا، التي تحتكرها قوى محدودة.

ولا يقتصر كنز بيليكوفا على العناصر النادرة فحسب، بل يشمل معادن حيوية أخرى مثل الفلوريت والباريت، وهي معادن مدرجة على القائمة الأميركية للمعادن الإستراتيجية.

وقال رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال، إن أردوغان منح الولايات المتحدة الحق في استغلال هذه الاحتياطيات، منتقدًا الحكومة بقوله: "على تركيا أن تدافع عن مواردها من العناصر الأرضية النادرة؛ فلا يمكن لأردوغان أن يبيع هذه العناصر النادرة في بلاده من أجل مستقبله".

وأضاف أوزال: "إذا استخرجتم هذه (الإوزة التي تبيض ذهبًا) وأعطيتموها لترمب، فسيجري معالجتها ويبيعها لكم في العام المقبل.. سيُنفق أحفادنا بعد 30 عامًا وهم في حيرة من أمرهم، فلا يمكننا قبول أن تُعطى (الإوزة الذهبية) لترمب مقابل بيضتين فقط!".

إلا أن مديرية الاتصالات نفت مزاعم تسليم احتياطيات منجم بيليكوفا إلى الولايات المتحدة.

استكشاف منجم بيليكوفا

تعود أعمال الاستكشاف الأولى لمنجم بيليكوفا إلى خمسينيات القرن الماضي، حين بدأت المديرية العامة لبحوث واستكشاف المعادن الحفر في المنطقة بحثًا عن الثوريوم واليورانيوم وليس العناصر النادرة.

وفي أثناء عمليات الحفر عُثر على خام "الباستاسيت"، الذي بدوره كشف عن كنوز العناصر الأرضية النادرة، حسبما طالعته منصة الطاقة المتخصصة.

ويحتوي الخام التركي على الفلوريت والباريت، بالإضافة إلى اللانثانوم والسيريوم والنيوديميوم، وهي عناصر تُستعمل في تصنيع المحركات النفاثة والرادارات الدقيقة ومكونات الأقمار الصناعية.

وخلال السنوات الأخيرة، تحوّل منجم بيليكوفا إلى نقطة جذب للاهتمام الغربي، بسبب موقعه الجغرافي القريب من الحدود الإستراتيجية لحلف الناتو.

وترى مراكز أبحاث في الولايات المتحدة أن أي تعاون مع أنقرة في هذا الملف يمنح الحلف ميزة في معركة السيطرة على الموارد الحيوية، في حين يشير محللون أتراك إلى ضرورة التعامل بحذر مع الإشارات الغربية؛ لأن إدخال الموارد في معادلة التحالفات العسكرية قد يفتح الباب أمام ضغوط سياسية مستقبلية.

ويحذر خبراء من النظر إلى منجم بيليكوفا بصفته ملفًا استثماريًا بحتًا، إذ يرون أنه يحمل أبعادًا سيادية تتعلق بمكانة تركيا في سلاسل التصنيع العالمية.

ويؤكدون أن النجاح في تحويل الاحتياطي إلى قدرة صناعية مستقلة سيضع أنقرة في موقع تفاوضي مختلف أمام القوى الكبرى.

وزير الطاقة التركي السابق فاتح دونماز يعرض عينات من معادن منجم بيليكوفا
وزير الطاقة التركي السابق فاتح دونماز يعرض عينات من معادن منجم بيليكوفا - الصورة من الوزارة

طموح تركي

قبل بضع سنوات، أُنشئت الوكالة التركية لأبحاث الطاقة والطاقة النووية والتعدين (TENMAK) التابعة مباشرةً للرئاسة، وتضم وحدة جديدة تُسمى NATEN (معهد أبحاث العناصر الأرضية النادرة) تُركز على تقييم العناصر الأرضية النادرة.

ويُعدّ وزير الطاقة والموارد الطبيعية السابق، فاتح دونماز، أول من سلّط الضوء على رواسب العناصر الأرضية النادرة في منجم بيليكوفا.

وفي يوليو/تموز 2022، وصف دونماز مدينة إسكي شهير بأنها على وشك "اكتشاف سيُخلّد في التاريخ"، قائلًا: "خلال 6 سنوات من الاستكشاف، بدأت عام 2011، حفرنا ما مجموعه 125 ألفًا و193 مترًا، وجمعنا 59 ألفًا و121 عينة".

وتابع: "أسفر تحليل هذه العينات عن اكتشاف 694 مليون طن من العناصر الأرضية النادرة، وبهذا الاكتشاف، أصبح منجم بيليكوفا ثاني أكبر احتياطي للعناصر الأرضية النادرة في العالم".

وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، قال وزير الطاقة والموارد الطبيعية ألب أرسلان بيرقدار، إن "تركيا تهدف إلى أن تصبح لاعبًا رئيسًا في تقنيات المركبات الكهربائية والطاقة المتجددة من خلال إنتاج العناصر الأرضية النادرة".

وأضاف: "ستكون تركيا واحدة من 5 دول قادرة على إنتاج العناصر الأرضية النادرة، وستصبح موردًا عالميًا مهمًا".

في هذا السياق، وقّع بيرقدار ونظيره الصيني وانغ غوانغهوا، مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الموارد الطبيعية والتعدين في أكتوبر/تشرين الأول 2024، وفي تعليقه على الاتفاقية، قال بيرقدار: "نهدف إلى تعزيز تعاوننا في جميع مجالات التعدين، ولا سيما المعادن الأساسية، والعمل معًا في تركيا".

وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار مع وزير الموارد الطبيعية الصيني وانغ قوانغهوا
وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار مع وزير الموارد الطبيعية الصيني وانغ قوانغهوا - الصورة من حساب بيرقدار في منصة "إكس" (21 مايو 2024)

مستقبل منجم بيليكوفا

يبقى السؤال المطروح في الأوساط الاقتصادية: هل تنجح تركيا في تحويل منجم بيليكوفا إلى بوابة للتصنيع المتقدم أم يتحوّل إلى ملف سياسي تديره توازنات خارجية؟

وبينما تؤكد الحكومة أن المشروع يسير وفق رؤية وطنية طويلة الأمد، ترى المعارضة أن غياب الشفافية في العقود والتفاهمات الدولية يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول المستقبل.

في المحصلة، تظل موارد التعدين ركيزة أساسية في أي مشروع صناعي كبير، لكن القيمة الإستراتيجية تظهر فقط عندما تتحول المادة الخام إلى قدرة إنتاجية قابلة للمنافسة.

وهنا يكمن جوهر الجدل الدائر حول منجم بيليكوفا: هل سيكون نقطة انطلاق نحو استقلال صناعي أم ورقة ضمن لعبة النفوذ الدولي؟

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

المصدر:

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق