التغير المناخيالمقالاترئيسيةمقالات التغير المناخي

تغير المناخ.. الآثار البيئية للحروب والنزاعات المسلحة في الطبيعة (مقال)

د. هبة محمد إمام

في ظل تنامي تداعيات تغير المناخ، تشكّل الحروب إحدى أخطر الظواهر التي لا تؤثّر في الأفراد والمجتمعات، بل تمتد أضرارها لتشمل البيئة والنظم البيئية عمومًا.

في هذا المقال سنناقش تأثير الحروب في البيئة بمختلف جوانبها، بدءًا من التلوث الهوائي والمائي، وصولًا إلى التأثيرات الطويلة الأمد في التنوع البيولوجي وصحة الإنسان، وسنستعرض أيضًا الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على ذلك.

لطالما كانت الحروب جزءًا من التاريخ البشري، غير أن الآثار البيئية لهذه النزاعات لم تحظَ بالاهتمام ذاته مقارنةً بالأضرار الإنسانية والمادية.

إلّا أن الدمار الناجم عن العمليات العسكرية يترك آثارًا بيئية عميقة يمكن أن تستمر لعقود، بل وآثاره تمتد لتشمل تغير المناخ ونظمًا بيئية بأكملها.

والحروب هي نزاعات مسلحة تنشب بين الدول أو الجماعات المسلحة، ترتبط عادة بالسياسة أو الاقتصاد أو السيادة الإقليمية.

ورغم أن الأسباب تختلف من حالة لأخرى، فإن الوسائل المستعمَلة في الحرب تؤدي دائمًا إلى تدمير البيئة الطبيعية والموارد الحيوية، بجانب تفاقم ظواهر تغير المناخ.

منذ الحروب القديمة حتى الحروب الحديثة، كانت البيئة دائمًا هدفًا عرضيًا أو مباشرًا للتدمير العسكري.

وسواء كانت المعارك تقليدية أو معاصرة تتضمن استعمال أسلحة كيماوية وبيولوجية، فإن الطبيعة كانت دائمًا تحمل العبء الثقيل هذا، مما يدعو إلى إعادة النظر في الإستراتيجيات العسكرية لتقليل هذه الأضرار.

تأثير الحروب في النظم البيئية: دمار متسلسل

تتسبب الحروب في تدهور النظم البيئية بطرق متعددة، بدءًا من تدمير المَواطن الطبيعية، ووصولًا إلى فقدان التنوع البيولوجي.

وفيما يلي سنستعرض بعض المسارات الرئيسة التي تؤدي فيها الحروب إلى تأثيرات بيئية مدمّرة، وتفاقم تداعيات تغير المناخ.

تدمير المَواطن الطبيعية والموائل البيئية:

عندما تنشب الحروب، تتعرض المَواطن الطبيعية -مثل الغابات والأنهار والبحيرات والمناطق الريفية- للتدمير المباشر.

القصف الجوي والمدفوعات العسكرية يؤديان إلى حرق الغابات وضرر بالموارد الطبيعية التي تُعدّ أساسية لأنواع عديدة من النباتات والحيوانات.

كما أن التغييرات الفجائية في البيئة تؤدي الى فقدان المواطن الطبيعية، مما يحرم الحيوانات من بيئتها المناسبة، ويزيد من احتمالات الانقراض.

حرائق غابات بوبكات
حرائق غابات بوبكات - الصورة من "سي إن إن"

التلوث والتأثير في جودة الهواء:

تؤدي العمليات العسكرية مثل الانفجارات واستعمال الأسلحة الثقيلة إلى إطلاق كمية كبيرة من الملوثات في الهواء، تشمل جزيئات غبار دقيقة ومواد كيميائية سامّة.

هذه العوامل تؤثّر مباشرةً بجودة الهواء، مما يعرّض حياة السكان المحليين لخطر أمراض الجهاز التنفسي والحساسية والسرطان.

كما يؤثّر التلوث الجوي بالنباتات، من خلال تقليل قدرتها على التمثيل الضوئي وإنتاج الأكسجين.

تلوث المياه والتأثير في الموارد المائية:

تؤدي المياه عنصرًا حيويًا في النظم البيئية، ويواجهها الكثير من التهديدات خلال النزاعات المسلحة.

قد تتعرض مصادر المياه للتلوث من خلال تسرب الوقود والزيوت والمواد الكيميائية المستعمَلة في العمليات العسكرية، كما أن تدمير البنية التحتية مثل محطات معالجة المياه يؤدي إلى تفاقم هذه المشكلة.

ينتج عن ذلك اضطرابات في توازن الحياة المائية، حيث تؤدي هذه الملوثات إلى وفاة الأسماك وتدمير المواطن البيئية للكائنات الحية.

تلوث التربة وصعوبة استعادة الأراضي:

تتعرض الأراضي للضرر الكبير نتيجة للعمليات العسكرية، حيث تؤدي انهيارات المباني والاشتباكات المسلحة إلى انتشار المواد الكيميائية والنفايات الخطرة في التربة

. يؤدي ذلك إلى فقدان خصوبة الأراضي وصعوبة استعمالها الزراعي فيما بعد

. كما أن آثار المتفجرات غير المنفجرة، مثل الألغام الأرضية، تبقى في الأرض لأوقات طويلة، مما يعوق جهود إعادة التأهيل وتنمية المجتمعات المحلية.

الأثر في الحياة البحرية والنظم البيئية الساحلية

النزاعات المسلحة التي تشهد ساحات من المعارك البحرية، أو التي تحدث في مناطق قريبة من السواحل، تسبّب تلوثًا خطيرًا في البحار والمحيطات.

تسرُّب النفط من السفن أو المنشآت العسكرية يؤدي إلى كوارث بيئية كبيرة تؤثّر بالثروة السمكية والحياة البحرية عمومًا.

كما أن انتشار المواد الكيميائية في المياه يجعل من الصعب على الحياة البحرية البقاء على قيد الحياة، ويسبّب تغييرات في التوازن البيولوجي بتدمير السلسلة الغذائية البحرية.

التأثيرات طويلة الأمد في التنوع البيولوجي:

لا تقتصر آثار الحروب على التغيرات البيئية المؤقتة فحسب، بل تمتد إلى تأثيرات طويلة الأمد في التنوع البيولوجي، يبقى أثره في البيئة لسنوات عديدة بعد انتهاء الصراع.

ذوبان الجليد يهدد التنوع البيولوجي
تغير المناخ يهدد التنوع البيولوجي- الصورة من موقع صندوق النقد الدولي

انقراض الأنواع وتغيير في توزيع الكائنات الحية:

يرتبط التنوع الحيوي بصحة النظام البيئي وقدرته على التعافي من الصدمات، وعندما تتعرض المواطن الطبيعية للتدمير، يكون من الصعب على الأنواع المحلية البقاء أو الانتقال إلى مواطن جديدة.

هذا يؤدي إلى انقراض كثير من الأنواع، أو إلى نقلها إلى مناطق جديدة، ما يغيّر الجوهر الطبيعي للنظام البيئي، وقد يؤدي ذلك إلى خلل في السلسلة الغذائية، مما يزيد من خطر انهيار بعض النُّظم البيئية.

التأثير في النباتات والحيوانات البرية:

من بين أكثر الآثار وضوحًا تأثير الحروب في الحيوانات البرية، إذ فقدَ الكثير من الأنواع مواطنه الطبيعية بسبب التصحر ودخول أسلحة الدمار إلى المواطن البيئية.

كما تؤدي عمليات الصيد غير المشروع في أوقات النزاع إلى تفاقم الوضع، حيث يستغل بعضهم الانشغال بمتابعة الحرب للصيد الجائر، مما يُضعف من معدلات التكاثر والانتشار الطبيعي لهذه الأنواع.

فقدان النظم البيئية المتوازنة:

يُسهم كل من التلوث والتدمير المباشر للمواطن الطبيعية في اضطراب النظم البيئية المتوازنة.

على سبيل المثال، قد يؤدي اختفاء المفترسات العليا إلى انتشار مفرط للفرائس، مما يغيّر من التوازن الطبيعي للنظام البيئي.

هذا الاضطراب يؤثّر في نهاية المطاف باستدامة البيئة، إذ إن بعض الأنواع قد ينمو بصورة مفرطة، بينما تختفي الأخرى التي تعدّ ضرورية للتوازن.

الحروب وتغير المناخ

تؤدي الحروب دورًا غير مباشر في تغير المناخ، إذ تُسبِّب انبعاث كميات كبيرة من الغازات الدفيئة والمواد الكيميائية التي تؤثّر في الغلاف الجوي.

انبعاث الغازات الدفيئة من النشاطات العسكرية:

يعدّ النشاط العسكري مصدرًا غير مباشر للغازات الدفيئة، حيث تسهم العمليات العسكرية الكبيرة والذخائر الثقيلة في إطلاق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيره من الغازات.

تؤدي هذه الانبعاثات إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، مما يسرّع من وتيرة تغير المناخ.

وتنعكس هذه الانبعاثات في زيادة درجات الحرارة العالمية وتغير أنماط الأمطار، وهو ما يهدد الزراعة والمياه العذبة.

تأثير تدمير الغابات في مخزون الكربون:

تؤدي الغابات دورًا مهمًا بكونها مخازن للكربون، إذ تمتص ثاني أكسيد الكربون من الجو، وتقلل من تأثيراته الضارة.

إلّا أن تعرُّض الغابات للقصف والحرق يؤدي إلى تقليل قدراتها على امتصاص الكربون، مما يزيد من تراكم الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، ويزيد من خطر تغير المناخ بشكل أكبر في تلك المناطق.

احتجاز ثاني أكسيد الكربون

آثار الحروب في الطاقة المتجددة والتكيف المناخي:

تتطلب جهود خفض انبعاث الغازات الدفيئة وتحقيق التنمية المستدامة استثمارات كبيرة في مصادر الطاقة المتجددة.

لكن الحروب عادةً ما تُخرج الحكومات عن مسارها بالتخطيط للتنمية، مما يؤجل أو يعطِّل مشروعات الطاقة النظيفة.

بالإضافة إلى ذلك، تستهلك الحروب موارد لا تقتصر على الموارد الطبيعية فحسب، بل تمتد إلى الموارد المالية، مما يُصعِّب من تنفيذ سياسات التكيف المناخي في المدى الطويل.

التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية

لا تقتصر تأثيرات الحروب في البيئة وحدها، بل تتداخل مع الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات المتضررة من النزاعات المسلحة، ومنها:

تأثير الأضرار البيئية في الصحة العامة:

تعدّ الصحة العامة إحدى النتائج المباشرة لآثار الحروب البيئية، وينتج عن التلوث الهوائي والمياه زيادة في الأمراض التنفسية والجلدية والسرطانية بين السكان المتضررين.

كما يشكّل تلوث المياه والتربة خطرًا صحيًا على الزراعة والمياه الصالحة للشرب، مما يزيد من معدلات الإصابة بالأمراض المعدية والمزمنة.

في الكثير من الحالات، يؤدي ضعف البنية التحتية الصحية المتضررة من النزاعات إلى عدم القدرة على معالجة هذه الأمراض بفعالية.

الأثر الاقتصادي الناجم عن تدمير الموارد الطبيعية:

تُعدّ الموارد الطبيعية إحدى أهم ركائز الاقتصاد المحلي والإقليمي.

ويؤدي تدمير هذه الموارد إلى خسائر اقتصادية ضخمة، سواء مباشرةً، نتيجة لفقدان الأراضي الزراعية والموارد المائية أو غير مباشر من خلال تدهور السياحة والصيد والصناعات المستندة إلى الموارد الطبيعية.

كما تتكبد الحكومات تكاليف إصلاح البيئة وإعادة البناء، مما ينعكس سلبًا على النمو الاقتصادي والاستقرار المالي للدول.

تأثير في التنمية المستدامة وإعادة الإعمار:

تصنع الحروب في الدول حاله من عدم الاستقرار، مما يجعل من الصعب وضع وتنفيذ سياسات التنمية المستدامة.

فالجهود المبذولة لإعادة الإعمار غالبًا ما تُعطَّل أو تُستنزَف بسبب استمرار مشكلات البيئة الملوثة وصعوبة تأمين مصادر المياه النظيفة والطاقة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن اضطراب التعليم والصحة يمكن أن يؤديا إلى فقدان رأس المال البشري، وهو أمر جوهري للتنمية المستدامة.

أثار الدمار الذي خلقته الحرب في غزة
أثار الدمار الذي خلّفته الحرب في غزة - أرشيفية

الجهود الدولية والمحلية لإصلاح البيئة بعد الحروب

رغم حجم الدمار الناتج عن الحروب، فإن هناك جهودًا على المستوى الدولي والمحلي لإصلاح البيئة واستعادة التوازن الطبيعي في المناطق المتضررة:

المبادرات الدولية للتنمية البيئية وإعادة الإعمار:

تولي المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية اهتمامًا متزايدًا بتقديم المساعدة والتمويل لبرامج إعادة الإعمار البيئي في مناطق النزاع.

وتتنوع هذه المبادرات بين حملات لتنظيف المصادر المائية، وزراعة الأشجار لاستعادة الغابات، وإصلاح الأراضي الزراعية المتضررة.

كما تعمل هذه المبادرات على تدريب الفِرَق المحلية والمساعدة في إنشاء أنظمة مراقبة بيئية لضمان عدم تكرار مثل هذه الكوارث في المستقبل.

دور الحكومات المحلية في استعادة البيئة:

يتطلب إعادة تأهيل البيئة في مناطق النزاع جهودًا دورية ومستمرة من الحكومات المحلية.

ويشمل ذلك وضع سياسات تنظيمية صارمة لمنع الاستعمال العشوائي للمناطق المتضررة، وتخصيص ميزانيات لإصلاح البنية التحتية البيئية، والعمل على تأهيل الأراضي الزراعية والمياه العذبة.

كما يجب أن تتضافر الجهود مع الجهات الأكاديمية والمنظمات البيئية لتطوير تقنيات جديدة تعتمد على الطاقات المتجددة والمواد المستدامة للمساعدة في عملية الإعمار.

الشراكات بين القطاعين العام والخاص: نموذج ناجح لإصلاح البيئة

تؤدي الشراكات بين القطاع الخاص والعام دورًا أساسيًا في تحقيق الاستدامة البيئية بعد النزاعات المسلحة.

تتبادل الشركات البيئية والمؤسسات الحكومية الخبرات، وتطوِّر مشروعات مشتركة تهدف إلى إعادة تأهيل المواطن البيئية والتخلص من الملوثات الناتجة عن الحروب.

وقد أسهمت مثل هذه الشراكات في بعض الدول بتبنّي حلول تكنولوجية مبتكرة وتحقيق النتائج المرجوة في وقت أقل، مقارنة بالمشروعات التي تنفّذها الجهات الحكومية وحدها.

إن تأثير الحروب بالبيئة ليس ظاهرة منفردة، بل هو جزء لا يتجزأ من معادلة السلام والأمن العالمي.

إن النزاعات المسلحة تُحدِث أضرارًا بيئية جسيمة تؤثّر في حياة البشر والكائنات الحية والنظم البيئية عمومًا.

لذلك، يتعين على الدول والمجتمعات التعاون لإيجاد حلول مستدامة تضمن إعادة تأهيل المواطن الطبيعية ودرء التدهور البيئي، وهو ما يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل الأفراد والحكومات والمنظمات الدولية.

ولا يمكننا فصْل قضية البيئة عن قضية السلام، إذ إن حماية البيئة هي حماية للحياة نفسها.

حماية البيئة
صورة تعبّر عن حماية البيئة

من خلال تعزيز البحث العلمي وتطبيق التقنيات الحديثة وتنفيذ السياسات البيئية السليمة، يمكن أن نُحدِث نقلة نوعية نحو مستقبل يتميز بالسلام والتنمية المستدامة.

إن الدروس المستفادة من الحروب الماضية تُظهر أن السلام الحقيقي لا يكون بغياب النزاع فحسب، بل بوجود نظام بيئي متكامل ومستدام يدعم الحياة والتعليم والصحة الاقتصادية.

ومن هنا، تُعدّ حماية البيئة وإعادة تأهيلها جهدًا إنسانيًا لا يقلّ أهمية عن إنهاء الحروب، إنها مسؤولية تقع على عاتق الجميع: الحكومات، والمنظمات، والأفراد، والمجتمع الدولي بأسره.

بالالتزام بهذه المبادئ والعمل على تعزيز الشراكات الدولية والمحلية، يمكننا أن نأمل في مستقبلٍ تتعافى فيه الأرض، وتعود الطبيعة كما كانت عليه من قبل.

لذا يجب العمل والالتزام بحقوق الطبيعة والسعي لوضع مستقبل آمن ومستدام للأجيال القادمة.

إن على المجتمع الدولي العمل معًا لتطوير إستراتيجيات شاملة وقوية تضمن حماية البيئة في ظل الأزمات والصراعات، مما سيسهم في بناء عالم أكثر عدلًا واستدامة.

* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق