تخزين الكربون لخفض انبعاثات غازات الدفيئة.. تحديات وحلول (مقال)
د. هبة محمد إمام

في ظل التغير المناخي المتزايد وارتفاع انبعاثات غازات الدفيئة، يبرز تخزين الكربون بوصفه حلًا واعدًا للحد من تداعيات الاحتباس الحراري.
وتعتمد هذه التقنية على التقاط ثاني أكسيد الكربون من المصادر الصناعية أو الغلاف الجوي وتخزينه في مواقع جيولوجية آمنة أو إعادة استعماله في تطبيقات صناعية.
ومع ذلك، تواجه تقنية تخزين الكربون مجموعة معقّدة من التحديات الفنية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية التي تعوق انتشارها على نطاق واسع.
في هذا المقال، سنستعرض هذه التحديات بالتفصيل ونقدّم رؤية شاملة للحلول الممكنة.
التحديات الفنية في تخزين الكربون
صعوبة التقاط الكربون بكفاءة عالية:
تُعدّ عملية التقاط الكربون من أكثر المراحل تعقيدًا في سلسلة التخزين. تواجه التقنيات الحالية تحديات في كفاءة الامتصاص واستهلاك الطاقة المرتفع، خاصة في المصانع ومحطات الطاقة التي تعتمد على الوقود الأحفوري.
وللتغلّب على هذه التحديات، يمكن تطوير مواد امتصاص متقدمة مثل الأطر المعدنية العضوية التي تتميّز بقدرة عالية على امتصاص ثاني أكسيد الكربون.
كما أن استعمال تقنيات الاحتراق بالأكسجين بدلًا من الهواء يمكن أن يحسّن كفاءة عملية التقاط الكربون بصورة كبيرة.
بالإضافة إلى ذلك، يفتح دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لتحسين أداء أنظمة التقاط الكربون من خلال التحكم الذكي في العمليات.
تحديات نقل الكربون المسال:
بعد عملية التقاط الكربون، تبرز مشكلة نقله إلى مواقع التخزين. يتطلب نقل ثاني أكسيد الكربون المسال بنية تحتية متخصصة مثل خطوط الأنابيب أو ناقلات مبرّدة، مما يزيد التكاليف والمخاطر المحتملة مثل التسربات.
لحل هذه المشكلة، يمكن تطوير شبكات أنابيب متقدمة مقاومة للتآكل ومصممة خصوصًا لنقل الكربون المسال.
كما أن إنشاء مراكز تخزين مؤقتة بالقرب من مصادر الانبعاثات يمكن أن يقلّل من مسافات النقل والتكاليف المرتبطة بها.
مشكلات التخزين الجيولوجي الآمن:
يُخزّن عادةً الكربون في تكوينات جيولوجية عميقة مثل خزانات النفط المستنفدة أو طبقات المياه الجوفية المالحة.
ومع ذلك، هناك مخاوف جدية من احتمالية تسرب ثاني أكسيد الكربون مع مرور الوقت، مما قد يؤدي إلى تلوث مصادر المياه الجوفية أو حتى حدوث انفجارات حال تجمّع الغاز بكميات كبيرة.
ولضمان تخزين آمن، يمكن استعمال تقنيات متطورة للمراقبة المستمرة، مثل أجهزة الاستشعار التي تكشف عن أي تسرّب محتمل.
كما أن اختيار مواقع تخزين مستقرة جيولوجيًا بعيدًا عن مناطق النشاط التكتوني يُعدّ أمرًا بالغ الأهمية. ومن الحلول الواعدة تطوير تقنيات تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى معادن كربونية مستقرة كيميائيًا لا تُشكّل خطرًا على البيئة.
التحديات الاقتصادية والتمويلية
ارتفاع تكاليف التقاط الكربون وتخزينه:
تمثّل التكاليف المرتفعة عائقًا رئيسيًا أمام انتشار تقنيات تخزين الكربون.
وتتطلّب هذه المشروعات استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتشغيل والصيانة، مما يجعلها أقل جاذبية مقارنة بحلول أخرى مثل الطاقة المتجددة.
ولخفض هذه التكاليف يمكن للحكومات تقديم حوافز ضريبية وتمويلية إلى الشركات التي تستثمر في تخزين الكربون.
كما أن تطوير نماذج تمويلية مبتكرة مثل الشراكة بين القطاعَيْن العام والخاص يمكن أن يُسهم في تخفيف العبء المالي.
نقص الاستثمارات في البحث والتطوير:
لا تزال العديد من تقنيات تخزين الكربون في مراحل البحث والتجربة، مما يتطلّب استثمارات كبيرة في الابتكار والتطوير.
ولتعزيز الابتكار يجب زيادة التمويل الحكومي والدولي لمشروعات البحث والتطوير في هذا المجال.
كما أن تشجيع التعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات الصناعية يمكن أن يسرّع من وتيرة التقدم التكنولوجي.
غياب النماذج الاقتصادية المستدامة:
تواجه تقنيات تخزين الكربون صعوبة في تحقيق الجدوى الاقتصادية دون دعم حكومي مستمر.
ولإنشاء نماذج اقتصادية مستدامة يمكن تطوير أسواق كربون عالمية تسمح بتبادل أرصدة الكربون.
كما أن دمج تخزين الكربون مع صناعات أخرى، مثل استخراج النفط المعزّز، يمكن أن يحسّن الجدوى الاقتصادية لهذه المشروعات.

التحديات البيئية والتنظيمية
المخاطر البيئية المحتملة:
قد يؤدي تسرّب ثاني أكسيد الكربون إلى تلوث التربة والمياه، كما أن عمليات الحقن الجيولوجي قد تتسبّب في حدوث زلازل صغيرة.
وللتخفيف من هذه المخاطر، يجب إجراء دراسات تقييم الأثر البيئي الشاملة قبل اختيار مواقع التخزين.
كما أن تطوير أنظمة إنذار مبكر للكشف عن أي تسرب أو نشاط زلزالي غير طبيعي يُعدّ أمرًا ضروريًا.
القوانين واللوائح غير الواضحة:
تفتقر العديد من الدول إلى إطار قانوني واضح ينظّم عمليات تخزين الكربون، مما يخلق حالة من عدم اليقين للمستثمرين.
ولحل هذه المشكلة، يجب وضع تشريعات وطنية ودولية تحكم عمليات التقاط الكربون وتخزينه.
كما أن إنشاء هيئات رقابية متخصصة للإشراف على هذه المشروعات يمكن أن يعزّز الثقة بهذه التقنية.
مقاومة المجتمعات المحلية:
في بعض الأحيان، ترفض المجتمعات المحلية إنشاء منشآت تخزين الكربون خوفًا من الآثار الصحية والبيئية.
ولتعزيز القبول المجتمعي يجب تنظيم حملات توعية، لتوضيح فوائد تخزين الكربون وآلياته الآمنة.
كما أن إشراك السكان المحليين في عملية صنع القرار وتقديم تعويضات عادلة يمكن أن يزيد من تقبّل هذه المشروعات.
التحديات الاجتماعية والسياسية
نقص الوعي العام بأهمية تخزين الكربون:
لا يزال الكثير من الأفراد غير مدركين لدور تخزين الكربون في مكافحة التغير المناخي.
ولرفع مستوى الوعي يمكن إطلاق حملات إعلامية وتعليمية مكثفة.
كما أن إدراج موضوعات التغير المناخي وتخزين الكربون في المناهج الدراسية يمكن أن يُسهم في بناء ثقافة بيئية لدى الأجيال القادمة.
الصراعات السياسية حول أولوية التمويل:
تتنافس تقنيات تخزين الكربون مع حلول أخرى مثل الطاقة المتجددة على التمويل الحكومي والدولي.
ولحل هذه القضية يجب اعتماد نهج متكامل يجمع بين تخزين الكربون والطاقة النظيفة.
كما أن تخصيص ميزانيات متوازنة لدعم جميع الحلول المناخية يمكن أن يضمن تحقيق أهداف الحد من الانبعاثات.
التحديات الجيوسياسية:
قد ترفض بعض الدول استيراد ثاني أكسيد الكربون أو تصديره بسبب مخاوف أمنية أو سياسية.
ولتعزيز التعاون الدولي يمكن وضع اتفاقيات دولية لتنظيم تجارة الكربون عبر الحدود.
كما أن إنشاء تحالفات إقليمية لتسهيل التعاون في مشروعات تخزين الكربون يمكن أن يقلّل من التوترات السياسية.
الحلول المستقبلية والتوصيات
تعزيز الابتكار التكنولوجي:
يشكّل التطور التكنولوجي حجر الزاوية في تعزيز كفاءة تخزين الكربون وتخفيض تكاليفه.
ويتطلب ذلك استثمارات ضخمة في مجال البحث والتطوير، لتحسين تقنيات التقاط الكربون من المصادر الصناعية والغلاف الجوي.
ومن بين الحلول الواعدة تطوير مواد نانوية متقدمة لامتصاص الكربون، واعتماد أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحسين عمليات المراقبة والتحكم، واستحداث طرق مبتكرة لتحويل الكربون المُخزّن إلى منتجات صناعية مفيدة مثل الوقود الاصطناعي أو مواد البناء.
تعزيز التعاون الدولي:
تتطلّب مواجهة تحديات تخزين الكربون تضافر الجهود العالمية عبر إقامة شراكات إستراتيجية بين الدول المتقدمة والنامية.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء صندوق عالمي لدعم مشروعات تخزين الكربون، ووضع معايير دولية موحّدة لعمليات التخزين، وتبادل الخبرات التقنية بين الدول.
كما ينبغي إدراج تخزين الكربون ضمن اتفاقيات المناخ الدولية لضمان التزام جميع الأطراف بتنفيذ هذه التقنية.
تطوير السياسات والحوافز الاقتصادية:
تحتاج الحكومات إلى وضع إطار تشريعي واضح يشجّع على تبني تقنيات تخزين الكربون.
ويتضمن ذلك تقديم إعفاءات ضريبية إلى الشركات المستثمرة في هذا المجال، ووضع نظام لتسعير الكربون، وإصدار سندات خضراء لتمويل المشروعات.
كما يجب دمج تخزين الكربون في خطط التنمية الوطنية وربطه بأهداف الحياد الكربوني.
تعزيز المشاركة المجتمعية:
يُعدّ كسب ثقة المجتمعات المحلية عاملًا حاسمًا لنجاح مشروعات تخزين الكربون.
ويتطلب ذلك تنظيم حملات توعية مكثفة، وإشراك السكان المحليين في عملية صنع القرار، وتوفير فرص عمل مرتبطة بهذه المشروعات.
كما ينبغي ضمان الشفافية في نشر نتائج الدراسات البيئية وبيانات المراقبة المستمرة.
التكامل مع الحلول المناخية الأخرى:
لا يجب اعتبار تخزين الكربون حلًا منفصلًا، بل هو جزء من إستراتيجية شاملة تشمل التحول إلى الطاقة المتجددة، وترشيد استهلاك الطاقة، وحماية النظم البيئية.
ويمكن تحقيق التكامل الأمثل من خلال دمج تخزين الكربون مع تقنيات احتجاز الكربون واستعماله، وربطه بمشروعات إعادة التشجير، وتطوير نماذج اقتصادية دائرية للكربون.
تطوير البنية التحتية:
يتطلّب نشر تقنيات تخزين الكربون على نطاق واسع استثمارات كبيرة في البنية التحتية.
ويشمل ذلك إنشاء شبكات نقل متخصصة، وتطوير مواقع تخزين جيولوجية آمنة، وبناء مراكز بحثية متخصصة.
ويمكن تسريع هذه العملية من خلال الشراكة بين القطاعَيْن العام والخاص، والاستفادة من البنية التحتية القائمة في قطاع النفط والغاز.
المراقبة والتقييم المستمر:
ضمان نجاح مشروعات تخزين الكربون على المدى الطويل يتطلّب أنظمة مراقبة دقيقة ومستمرة.
يجب تطوير برامج رصد متكاملة تشمل المراقبة الجيوفيزيائية، وتحليل عينات التربة والمياه، واستغلال الأقمار الاصطناعية للكشف عن أي تسربات محتملة.
كما ينبغي إجراء تقييمات دورية لأداء المشروعات وتحديث الإستراتيجيات بناءً على النتائج.
وتمثّل تقنيات تخزين الكربون أحد الحلول الواعدة لمواجهة التحدي المناخي، لكنها تواجه عقبات كبيرة تتطلّب حلولًا شاملة ومتكاملة.
ومن خلال الجمع بين التطور التكنولوجي، والتعاون الدولي، والسياسات الداعمة، والمشاركة المجتمعية، يمكن تحويل هذه التقنية إلى ركيزة أساسية في مسيرة التحول نحو الاقتصاد الأخضر.
ومع ذلك، يبقى تخزين الكربون مكملًا وليس بديلًا عن الجهود الرامية إلى خفض الانبعاثات من المصدر، مما يتطلّب مواصلة الاستثمار في الطاقة النظيفة وترشيد الاستهلاك لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية
موضوعات متعلقة..
- تخزين الكربون في تكساس يواجه تهديدات الزلازل وانفجار آبار النفط (تقرير)
- تخزين الكربون في ولاية أسترالية يواجه صدمة بأمر حكومي
- احتجاز وتخزين الكربون سلاح غير مكتمل في مواجهة تغير المناخ
اقرأ أيضًا..
- أنس الحجي: الذكاء الاصطناعي يزيد الطلب العالمي على الكهرباء.. وهذا دور "نووي" الخليج
- أثر تقلب أسعار النفط في قطاع الطاقة الروسي.. ضربة للسياسات والإيرادات (مقال)
- ترمب يُلزم إيلون ماسك بتصنيع السيارات الكهربائية وأجزائها في أميركا