انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية.. أعباء اقتصادية وسياسية تواجهها موسكو (مقال)
فيلينا تشاكاروفا* – ترجمة: نوار صبح

- • ثروة روسيا الهيدروكربونية شكّلت ضمانة جيوسياسية لها ودِعامتها المالية
- • وزارة المالية الروسية ربطت حسابات الموازنة بسقف سعري قدره 60 دولارًا للبرميل
- • أوبك+ أعلن جدولًا زمنيًا أسرع من المتوقع لرفع قيود الإنتاج
- • مخاوف الركود العالمي تعني انخفاض الطلب على الطاقة والسلع الأخرى
يفاقم انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية أعباء البلاد الاقتصادية والسياسية، حيث تُعدّ الثروة الهيدروكربونية ضمانةً جيوسياسيةً ودِعامة مالية مهمة.
في أوقات التقلّبات العالمية، اعتمد الكرملين تقليديًا على إيراداته الهائلة من النفط والغاز لتحقيق استقرار الموازنات، ودعم الروبل، وبسط نفوذه خارج حدوده.
وفي عام 2025، سيُصبح هذا الأصل الإستراتيجي عبئًا اقتصاديًا، ووفقًا للتقييم الأولي لوزارة المالية، انخفضت إيرادات النفط والغاز الروسية في الربع الأول من العام إلى 2.64 تريليون روبل (305 مليارات و518 مليون دولار)، ما يُمثل انخفاضًا بنسبة 9.8% على أساس سنوي.
(روبل روسي = 0.012 دولارًا أميركيًا)
تجدر الإشارة إلى أن ما بدا في البداية انخفاضًا مؤقتًا في الأسعار، تحوّل الآن إلى أزمة هيكلية، تُغذّيها حرب رسوم جمركية عالمية متسارعة، وتذبذب أسعار النفط، وهشاشة تماسك تحالف أوبك+، وتراجع الوصول إلى الأسواق بسبب العقوبات المستمرة.
تدهور قاعدة إيرادات النفط والغاز الروسية.. البيانات وراء التراجع
وُضعت الموازنة الفيدرالية الروسية لعام 2025 بتوقعات طموحة؛ 10.93 تريليون روبل من إيرادات النفط والغاز الروسية، أي ما يقارب 27% من إجمالي الدخل الفيدرالي.
وشهدت الأشهر الـ3 الأولى من العام انخفاض إيرادات الهيدروكربونات بنحو 10% عن مستويات العام السابق.
وعلى الرغم من أن الإيرادات غير النفطية والغازية أظهرت نموًا مُشجعًا، إذ ارتفعت بنسبة 10.6%، لتصل إلى 6.4 تريليون روبل، فإن هذا المبلغ لا يستطيع تعويض الانخفاض في إيرادات الضرائب المرتبطة بالطاقة.
وتكمن المشكلة الهيكلية في السعر، فقد ربطت وزارة المالية الروسية حسابات الموازنة بسقف سعري قدره 60 دولارًا للبرميل.

ومع مطلع أبريل/نيسان الجاري، انخفض سعر خام الأورال الروسي إلى ما دون 50 دولارًا للبرميل، ليُتداول عند نحو 4 آلاف و700 روبل، وهو رقم أشارت "رويترز" إلى أنه أقل بكثير من توقعات الموازنة لأغراض الضرائب.
ويمثّل هذا الانخفاض في إيرادات النفط والغاز الروسية عجزًا بنسبة 30% عن المستويات المرجعية المستعملة في التخطيط المالي.
وينبع انهيار الأسعار من مصادر متعددة، ففي أوائل أبريل/نيسان الجاري، أعلن تحالف أوبك+ -تحت ضغط متزايد من تهديدات الرسوم الجمركية الأميركية وضعف الطلب العالمي- جدولًا زمنيًا أسرع من المتوقع لرفع قيود الإنتاج.
وفي محاولة للحفاظ على حصتها السوقية، خفّضت السعودية أسعارها للعملاء الآسيويين بصفة حادة.
وفي الوقت نفسه، أدى إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 50% على الواردات من 185 دولة، بمن في ذلك مستهلكو النفط الأساسيون، إلى انهيار متسارع في أسعار الطاقة العالمية.
وانخفض سعر خام برنت إلى ما دون 63 دولارًا للبرميل، وتراجع سعر خام غرب تكساس الوسيط إلى ما يزيد قليلًا على 60 دولارًا. وتحمّلت أسواق النفط الروسية وطأة هذه الصدمة.
الهشاشة المالية وفجوات الموازنة
على الرغم من تأكيد الحكومة الروسية وجود "ادخارات كافية" في صندوق الرعاية الاجتماعية الوطني لامتصاص صدمات الأسعار، فإن البيانات ترسم صورة أكثر قتامة.
ففي حال انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية بنسبة تتراوح بين الثلث والنصف، فمن المرجح أن يتضخم عجز الموازنة المتوقع لعام 2025 -المتوقع حاليًا عند 1.17 تريليون روبل- إلى أكثر من 6 تريليونات روبل.
وهذا من شأنه أن يدفع روسيا إلى تجاوز المرحلة النفسية الحرجة المتمثلة في 3% من الناتج المحلي الإجمالي في الإنفاق بالعجز.
وتاريخيًا، ارتبطت هذه المستويات بعدم الاستقرار المالي. وللإشارة، في عام 1998، عام الأزمة المالية الروسية وتعثرها عن سداد ديونها السيادية، بلغ عجز الموازنة 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
وما لم يحدث تحسّن سريع في أسعار السلع الأساسية أو تخفيف العقوبات، فقد تُجبر روسيا على السحب بصورة أكبر من احتياطياتها السيادية، أو فرض زيادات ضريبية جديدة، أو تقليص الإنفاق بصورة حادة، لا سيما في القطاعات غير ذات الأولوية.

تداعيات انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية
في حال استمرار إيرادات النفط والغاز الروسية في الانخفاض وتزايد عجز الموازنة، فستواجه موسكو خيارات صعبة. يتفق معظم المحللين على أن الإنفاق الدفاعي سيبقى على حاله.
في المقابل، قد تواجه بنود الإنفاق الكبيرة الأخرى، مثل تطوير البنية التحتية، والتحويلات الإقليمية، والبرامج الاجتماعية، تخفيضات كبيرة.
في عام 2022، وخلال انخفاض مماثل في الأسعار، علّقت الحكومة مؤقتًا الدعم المقدم إلى شركات النفط وخفّضت بعض المدفوعات الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، قد تصبح السياسة الضريبية مجددًا أداة الملاذ الأخير.
ورغم تفعيل تعديل ضريبة القيمة المضافة ورسوم الإنتاج في السنوات الأخيرة، فإن زيادات جديدة مطروحة. ويضيف الروبل الأقوى من المتوقع، الذي يتجاوز حاليًا المستويات المتوقعة بنسبة 10%، مستوى آخر من التعقيد من خلال تآكل إيرادات التصدير بالعملة المحلية وتقليل آثار تخفيف التضخم.

وفي حال انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية بصورة كبيرة، ستتضاءل قدرة روسيا على توليد النقد الأجنبي، وقد تتراجع قيمة الروبل بنسبة 30-40%، ما يُسهم مباشرةً في التضخم.
ونتيجةً لذلك، قد يضطر البنك المركزي الروسي إلى رفع سعر الفائدة الرئيس، رغم ارتفاع تكاليف الاقتراض. وهذا من شأنه أن يُضعف الاستثمار المحلي والطلب الاستهلاكي أكثر فأكثر.
التحديات الاقتصادية المحلية
يُفاقم المشهد الجيوسياسي التحديات الاقتصادية المحلية التي تواجهها روسيا.
وعلى الرغم من أن موسكو استُبعدت بصورة واضحة من الموجة الأولى من الرسوم الجمركية العقابية التي فرضها ترمب -ويُقال إن ذلك يعود إلى مفاوضات سرية جارية تتعلق بأوكرانيا- فإن الآثار الأوسع للحمائية الأميركية تُزعزع الاستقرار بصورة كبيرة.
وقد أعاد نظام ترمب الجمركي إشعال المخاوف من حرب تجارية عالمية شاملة، تُذكر بثلاثينيات القرن الماضي.
ووفقًا لوكالة فيتش للتصنيف الائتماني، يبلغ متوسط الرسوم الجمركية الأميركية على الواردات الآن 22%، وهو أعلى مستوى منذ حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
وقد أدت الرسوم الجمركية الانتقامية التي فرضتها الصين بنسبة 34% على السلع الأميركية، إلى جانب قيود التصدير على المعادن الأرضية النادرة، إلى تعميق عدم استقرار الأسواق المالية.
وسجّلت مؤشرات الأسهم في جميع أنحاء أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية خسائر بنسبة مزدوجة الرقم منذ بداية أبريل/نيسان الجاري.
وانخفض مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 4.1% في 4 أبريل/نيسان الجاري، وخسر مؤشرا داكس الألماني وفوتسي 100 البريطاني أكثر من 5%.
وفي روسيا، انخفض مؤشر بورصة موسكو بنسبة 17% عن ذروته في عام 2025، مع تسجيل شركات طاقة، مثل سوفكومفلوت (Sovcomflot) وميشيل (Mechel)، انخفاضات حادة.
بالنسبة إلى روسيا التي ترزح تحت وطأة عقوبات غربية خانقة، تُعدّ هذه الاضطرابات بمثابة عدوى ثانوية، لأن مخاوف الركود العالمي تعني انخفاض الطلب على الطاقة والسلع الأخرى.
وهذا يُشكّل خطرًا بالغًا على روسيا التي لا يزال اقتصادها، على الرغم من جهود التنويع، يعتمد بصفة كبيرة على التصدير.
ويتمثّل الخطر في استمرار انخفاض أسعار السلع الأساسية مثل النفط والغاز والفحم والمعادن، أكثر من انخفاض أحجام الصادرات.

استقرار العمليات في مصافي التكرير الروسية الحيوية
ليست جميع المؤشرات سلبية، فقد أدى وقف مؤقت للضربات على البنية التحتية للطاقة لمدة 30 يومًا الذي بدأ باتفاق متبادل بين الرئيسَيْن ترمب وبوتين في 18 مارس/آذار، إلى استقرار العمليات في مصافي التكرير الروسية الحيوية.
ورغم استمرار الهجمات المتفرقة بطائرات مسيرة، فإن معظم المرافق الكبيرة تعمل الآن في ظل ظروف أمنية محسّنة.
ويقول خبراء في القطاع إن هذا قد يُخفّض أقساط التأمين ويُحسّن استغلال القدرة الإنتاجية، في حال صمود وقف إطلاق النار.
بالإضافة إلى ذلك، قد تُحسّن المفاوضات الرامية إلى إحياء مبادرة حبوب البحر الأسود الخدمات اللوجستية، وتُخفّض مخاطر شحن النفط الخام والمنتجات النفطية الروسية.
ومن شأن انخفاض التوتر في منطقة بحر آزوف-البحر الأسود أن يُفيد مواني مثل كافكاز وتيمرايوك، التي عانت من تأخيرات بسبب تشديد الأمن حول جسر كيرتش.
وهناك بوادر مبكرة على انفراج في تطبيق العقوبات، وتُفيد بعض شركات الطاقة الروسية بتحسن في مشاركة الأطراف الغربية والآسيوية، بما في ذلك استئناف المشاورات التقنية، ومحادثات العقود التمهيدية، وحتى المناقشات غير الرسمية بشأن الوثائق المالية مثل خطابات الاعتماد.
وعلى الرغم من أن العقوبات الرسمية تظل قائمة ومعقدة، يبدو أن المزاج السائد بين بعض الشركات الأجنبية بدأ يتغير.
حقبة ما بعد الدولة النفطية
يُسرّع تضافر انخفاض أسعار النفط، وتصاعد التوترات الجمركية، وتقييد الوصول إلى الأسواق، دخول روسيا إلى حقبة ما بعد الدولة النفطية.
ولم يعد النهج الاقتصادي التقليدي للبلاد -القائم على تسييل صادرات المواد الخام لتمويل الاستقرار المحلي والامتداد الجيوسياسي- يُحقق إيرادات النفط والغاز الروسية اللازمة.
ومن منظور إستراتيجي، تبرز 3 تداعيات:
- أولًا: تراجع الاستقلالية الإستراتيجية. يُقيّد انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية قدرة البلاد على تمويل التدخلات العسكرية طويلة الأمد، ودعم المبادرات الدبلوماسية العالمية، أو الاستثمار في بنية تحتية جيوسياسية جديدة. قد تتقلّص مساحة المناورة المتاحة للكرملين، إقليميًا وعالميًا.
- ثانيًا: تحوّل متسارع نحو أسواق بديلة. توقعات بمشاركة أعمق مع دول البريكس+، ومستوردي الطاقة الأفارقة، ومشتري جنوب شرقي آسيا. ولا يخلو هذا التحوّل من التحديات، فأنظمة الدفع، والأطر القانونية، والمخاطر الجيوسياسية في هذه الأسواق غالبًا ما تتطلب تنازلات في الربحية والقدرة على التنبؤ.
- ثالثًا: تصدعات داخلية محتملة. إذا استجابت الحكومة للضغوط المالية بسياسات تقشف صارمة أو ضرائب غير شعبية، فقد يُختبر الاستقرار الاجتماعي.
وقد تبرز التفاوتات الإقليمية التي لطالما تميّزت بتحويلات من موازنات الدول الغنية بالطاقة، على السطح بوصفها نقاط اشتعال.
خلاصة القول، تواجه روسيا أزمة نفطية مؤقتة، إلى جانب نقطة تحول هيكلية.
ويعتمد مستقبل اقتصادها السياسي -وبالتالي بصمتها الجيوسياسية- على طريقة تعاملها مع الشهور الـ12 إلى 18 المقبلة.
وسواء من خلال التكيف أو المواجهة أو الارتجال، ستحدّد الفترة المقبلة مسار روسيا في نظام عالمي متزايد التصدع.
لذلك، يقترب عصر ريع الطاقة السهل من نهايته، ويبقى السؤال مطروحًا بشأن ما سيحل محله.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- انخفاض إيرادات النفط والغاز الروسية يضغط على اقتصاد موسكو (مقال)
- إيرادات النفط والغاز الروسية.. ظلال قاتمة تحيط باقتصاد موسكو (مقال)
- إيرادات النفط والغاز الروسية تتجاوز أرقام 2023.. ماذا بعد؟ (مقال)
اقرأ أيضًا..
- واردات أوروبا من الغاز المسال قد ترتفع 25% قرب مستوياتها القياسية
- أسعار الوقود في مصر تقفز 570% خلال 9 سنوات.. 11 معلومة ترصد رحلة الزيادات
- 7 مصادر للطاقة نتائج الحفر في حقل ظهر المصري غير مبشّرة.. وهذه قصة المياه (تحديث)