الحد من تغير المناخ باستعمال نظم المعلومات الجغرافية (مقال)
هبة محمد إمام

يُعد تغير المناخ أحد أكبر التحديات التي تواجه البشرية في الوقت الراهن؛ إذ مع تزايد انبعاثات غازات الدفيئة وارتفاع درجات الحرارة العالمية، أصبحت الآثار السلبية أكثر وضوحًا.
وتتضمّن هذه الآثار ارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة وتيرة وشدة الظواهر الجوية المتطرّفة مثل الأعاصير والفيضانات والجفاف، وتدهور النظم البيئية.
وفي مواجهة هذه التحديات، يؤدي العلم والتكنولوجيا دورًا حاسمًا في فهم هذه الظواهر وتطوير إستراتيجيات التخفيف من آثار تغير المناخ.
ومن بين الأدوات التقنية التي أثبتت فاعليتها في هذا المجال، تأتي نظم المعلومات الجغرافية (GIS) بصفتها أداةً قويةً لتحليل البيانات المكانية واتخاذ القرارات المستنيرة.
نظم المعلومات الجغرافية
نظم المعلومات الجغرافية (GIS) هي أنظمة حاسوبية مصممة لجمع وتخزين وتحليل وإدارة البيانات المكانية والجغرافية.
وتعتمد هذه الأنظمة على تقنيات متقدمة تسمح بتمثيل البيانات الجغرافية في شكل خرائط ورسوم بيانية؛ ما يُسهِّل فهم العلاقات المكانية بين الظواهر المختلفة.
ويمكن استعمال (GIS) في مجموعة واسعة من المجالات؛ بما في ذلك التخطيط الحضري، وإدارة الموارد الطبيعية، والزراعة، والبيئة، والاستجابة للكوارث.
تغير المناخ: الآثار والتحديات
قبل الخوض في دور نظم المعلومات الجغرافية، من المهم فهم طبيعة تغير المناخ وآثارها؛ إذ إن التغيرات المناخية هي تحولات طويلة الأجل في أنماط الطقس والمناخ على مستوى العالم، والتي ترجع في الغالب إلى الأنشطة البشرية مثل استعمال الوقود الأحفوري وإزالة الغابات.
وتشمل الآثار الرئيسة للتغيرات المناخية:
1. ارتفاع درجات الحرارة: يؤدي ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية إلى زيادة موجات الحر، وتغير أنماط هطول الأمطار، وتأثيرات سلبية في الزراعة وصحة الإنسان.
2. ارتفاع مستوى سطح البحر: نتيجة لذوبان الجليد القطبي وزيادة مياه المحيطات؛ ما يهدد المناطق الساحلية والجزر المنخفضة.
3. زيادة وتيرة الظواهر الجوية المتطرفة: مثل الأعاصير والفيضانات والعواصف الرملية والجفاف.
4. تدهور النظم البيئية: مثل فقدان التنوع البيولوجي وتدهور الغابات.
دور نظم المعلومات الجغرافية في الحد من آثار تغير المناخ
تؤدي نظم المعلومات الجغرافية دورًا محوريًا في فهم تغير المناخ وتطوير إستراتيجيات للتخفيف من آثارها.
ويمكن تلخيص هذا الدور في عدة مجالات رئيسة:
1. رصد تغير المناخ ومراقبته
تُعد المراقبة المستمرة للظواهر المناخية والبيئية خطوة أساسية في فهم تغير المناخ.
تسمح نظم المعلومات الجغرافية بجمع البيانات وتحليلها من مصادر متنوعة مثل الأقمار الصناعية ومحطات الطقس وأجهزة الاستشعار عن بعد.
ويمكن استعمال هذه البيانات لإنشاء خرائط تفاعلية توضح التغيرات في درجات الحرارة، وأنماط هطول الأمطار، والغطاء النباتي على مدى الزمن.
على سبيل المثال، يمكن استعمال GIS لرصد ذوبان الجليد القطبي وتتبع التغيرات في مساحات الغطاء الجليدي.
هذه المعلومات تساعد العلماء وصناع القرار على فهم مدى تأثير تغير المناخ في المناطق القطبية وتوقع الآثار المستقبلية بمستوى سطح البحر.
2. تقييم آثار تغير المناخ
تساعد نظم المعلومات الجغرافية في تقييم الآثار المحتملة للتغيرات المناخية في مختلف القطاعات مثل الزراعة والمياه والصحة.
من خلال تحليل البيانات المكانية، يمكن تحديد المناطق الأكثر عرضة للجفاف والفيضانات أو ارتفاع درجات الحرارة.
على سبيل المثال، يمكن استعمال GIS لتحليل تأثير تغير المناخ في إنتاجية المحاصيل الزراعية بمنطقة معينة؛ ما يساعد المزارعين على اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن تغيير أنماط الزراعة أو استعمال تقنيات ري أكثر كفاءة.

3. تخطيط التكيف مع التغيرات المناخي
تُعَد إستراتيجيات التكيف مع تغير المناخ ضرورية للحد من آثارها السلبية.
تسمح نظم المعلومات الجغرافية بتطوير خطط تكيف فعالة من خلال تحليل البيانات المكانية وتحديد أفضل الممارسات.
على سبيل المثال، يمكن استعمال GIS لتحديد مواقع بناء السدود أو الحماية البحرية لحماية المناطق الساحلية من ارتفاع مستوى سطح البحر.
كما يمكن استعمالها لتخطيط زراعة الأشجار في المناطق الحضرية لتقليل تأثير موجات الحر.
4. إدارة الكوارث والاستجابة لها
مع زيادة وتيرة الظواهر الجوية المتطرفة، أصبحت إدارة الكوارث أكثر أهمية من أي وقت مضى.
تسمح نظم المعلومات الجغرافية بتطوير خطط استجابة سريعة وفعالة في حالات الطوارئ.
على سبيل المثال، يمكن استعمال GIS لتحديد المناطق الأكثر عرضة للفيضانات وتوجيه فرق الإنقاذ إلى هذه المناطق بسرعة.
كما يمكن استعمالها لتقييم الأضرار بعد وقوع الكارثة وتحديد أولويات الإصلاح.
5. تخطيط استعمال الأراضي
تُعد إدارة استعمال الأراضي إحدى الأدوات الرئيسة للتخفيف من آثار تغير المناخ.
تسمح نظم المعلومات الجغرافية بتحليل البيانات المتعلقة باستعمال الأراضي وتطوير خطط تهدف إلى تقليل انبعاثات الكربون وحماية النظم البيئية.
على سبيل المثال، يمكن استعمال GIS لتحديد المناطق المناسبة لإنشاء محطات طاقة متجددة مثل الطاقة الشمسية أو الرياح.
كما يمكن استعمالها لتخطيط زراعة الغابات التي تعمل بصفتها مصارفَ للكربون.
6. التوعية واتخاذ القرارات
تساعد نظم المعلومات الجغرافية في تحسين التوعية العامة بآثار تغير المناخ وضرورة اتخاذ إجراءات للتخفيف منها.
من خلال إنشاء خرائط تفاعلية ورسوم بيانية، يمكن عرض البيانات المعقّدة بطريقة سهلة الفهم للجمهور.
كما تساعد GIS صناع القرار في اتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على تحليل دقيق للبيانات المكانية.
تحديات تواجه النظم الجغرافية
أبرز التحديات التي تواجه استعمال GIS في مجال الحد من تأثير تغير المناخ:
1. جودة البيانات ومدى توافرها
- نقص البيانات الدقيقة: تعتمد نظم المعلومات الجغرافية بشكل كبير على جودة البيانات المتاحة. في بعض المناطق، وخاصة في الدول النامية، قد تكون البيانات غير دقيقة أو غير متوافرة؛ ما يؤثر في دقة التحليلات.
- عدم توافق البيانات: قد تختلف تنسيقات البيانات بين المصادر المختلفة؛ وهو ما يصعب عملية دمجها وتحليلها بشكل متكامل.
- التحديث المستمر للبيانات: تغير المناخ هو ظواهر ديناميكية تتطلب تحديثًا مستمرًا للبيانات. قد تكون عملية جمع البيانات وتحديثها مكلفة وتستغرق وقتًا طويلًا.
2. التكلفة المالية
- تكلفة التكنولوجيا: تطوير نظم المعلومات الجغرافية وصيانتها يتطلبان استثمارات مالية كبيرة، خاصة فيما يتعلق بشراء البرمجيات والأجهزة المتقدمة.
- تكلفة التدريب: يحتاج المستعملون إلى تدريب متخصص لاستعمال هذه الأنظمة بشكل فعّال، وهو ما يتطلب موارد مالية إضافية.
- تكلفة البنية التحتية: في بعض المناطق، قد تكون البنية التحتية التكنولوجية غير كافية؛ ما يزيد من تكلفة تطبيق نظم المعلومات الجغرافية.
3. التحديات التقنية
- تعقيد البرمجيات: قد تكون برمجيات GIS معقّدة وتتطلب مهارات متقدمة لاستعمالها بشكل فعال؛ ما يحد من انتشارها بين المستعملين غير المتخصصين.
- التحديات في تحليل البيانات الضخمة: مع تزايد حجم البيانات المتاحة، قد تواجه نظم المعلومات الجغرافية صعوبات في معالجة وتحليل هذه البيانات بشكل سريع وفعال.
- التوافق بين الأنظمة: قد تظهر مشكلات في التوافق بين أنظمة GIS المختلفة، خاصة عند محاولة دمج البيانات من مصادر متنوعة.
4. التحديات التنظيمية والسياسية
- غياب السياسات الداعمة: في بعض الدول، قد تكون السياسات والأنظمة القانونية غير داعمة لاستعمال نظم المعلومات الجغرافية في إدارة تغير المناخ.
- التنسيق بين الجهات المختلفة: يتطلب استعمال GIS بشكل فعال تعاونًا وتنسيقًا بين الجهات الحكومية، المؤسسات البحثية، والمنظمات غير الحكومية. قد يكون هذا التنسيق صعبًا في ظل غياب آليات واضحة للتعاون.
- الحواجز البيروقراطية: قد تعوق الإجراءات البيروقراطية عملية جمع البيانات وتبادلها بين الجهات المختلفة.
5. التحديات الاجتماعية والثقافية
- نقص الوعي: قد لا يكون هناك وعي كافٍ بأهمية نظم المعلومات الجغرافية في الحد من آثار تغير المناخ، خاصة بين صانعي القرار.
- مقاومة التغيير: قد يواجه تطبيق تقنيات جديدة مقاومة من قِبل بعض الجهات أو الأفراد الذين يُفضّلون الاستمرار في استعمال الأساليب التقليدية.
6. التحديات البيئية
- تغير الظروف البيئية بسرعة: تغير المناخ نفسه قد يؤثر في جودة البيانات المتاحة، خاصة بالمناطق التي تشهد تغيرات سريعة في الظروف البيئية.
- تدهور النظم البيئية: قد يؤدي تدهور النظم البيئية، مثل إزالة الغابات أو تلوث المياه، إلى صعوبة جمع البيانات الدقيقة عن هذه المناطق.
7. التحديات الأمنية
- حماية البيانات: مع تزايد الاعتماد على البيانات الرقمية، تبرز الحاجة إلى حماية البيانات من الاختراقات أو الاستعمال غير المصرح به.
- خصوصية البيانات: قد تكون بعض البيانات الجغرافية حساسة، خاصة تلك المتعلقة بالأمن القومي أو حقوق الملكية؛ ما يحد من مشاركتها.
8. التحديات المتعلقة بتغير المناخ نفسها
- تعدد العوامل المؤثرة: بتأثر تغير المناخ بعدد كبير من العوامل المتشابكة؛ ما يجعل تحليلها باستعمال GIS أكثر تعقيدًا.

طرق التغلب على التحديات
للتغلب على التحديات التي تواجه استعمال نظم المعلومات الجغرافية (GIS) في الحد من آثار تغير المناخ، يمكن اتباع مجموعة من الإستراتيجيات والحلول التي تشمل الجوانب التقنية والمالية والتنظيمية والاجتماعية. فيما يلي بعض المقترحات العملية:
1. تحسين جودة البيانات ومدى توافرها
- تعزيز جمع البيانات: يمكن إنشاء شبكات وطنية ودولية لجمع البيانات المناخية والبيئية باستعمال تقنيات مثل الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار عن بعد ومحطات الطقس.
- توحيد تنسيقات البيانات: تطوير معايير موحدة لتنسيقات البيانات الجغرافية لتسهيل تبادلها ودمجها بين الجهات المختلفة.
- تحديث البيانات بشكل دوري: إنشاء آليات لتحديث البيانات بشكل مستمر لضمان دقتها وفاعليتها في التحليلات.
2. تقليل التكلفة المالية
- الاستثمار في البرمجيات مفتوحة المصدر: استعمال برمجيات GIS مفتوحة المصدر لتقليل التكلفة المرتبطة بشراء البرمجيات.
- التعاون الدولي: تشجيع التعاون بين الدول والمنظمات الدولية لتقليل تكلفة تطوير وصيانة نظم المعلومات الجغرافية.
- تمويل المشروعات البحثية: توفير التمويل اللازم للمشروعات البحثية التي تستعمل GIS في دراسة تغير المناخ.
3. التغلب على التحديات التقنية
- تطوير واجهات مستعمل سهلة: تحسين واجهات المستعمل في برمجيات GIS لتسهيل استعمالها من قبل غير المتخصصين.
- تحسين معالجة البيانات الضخمة: استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة لتحسين قدرة نظم المعلومات الجغرافية على معالجة كميات كبيرة من البيانات.
- التوافق بين الأنظمة: تطوير بروتوكولات وواجهات برمجية لضمان التوافق بين أنظمة GIS المختلفة.
4. تعزيز السياسات والتنظيم
- وضع سياسات داعمة: تطوير سياسات وطنية ودولية تدعم استعمال نظم المعلومات الجغرافية في إدارة تغير المناخ.
- تعزيز التعاون بين الجهات: إنشاء آليات لتنسيق الجهود بين الجهات الحكومية والمؤسسات البحثية والمنظمات غير الحكومية.
- تبسيط الإجراءات البيروقراطية: تقليل الحواجز البيروقراطية التي تعوق جمع البيانات وتبادلها.
5. زيادة الوعي والتوعية
- حملات توعية: تنظيم حملات توعية لأهمية نظم المعلومات الجغرافية في الحد من آثار تغير المناخ.
- تدريب المستعملين: تقديم دورات تدريبية لصانعي القرار والمستعملين على استعمال نظم المعلومات الجغرافية بشكل فعّال.
- تعزيز التعليم: إدراج موضوعات GIS في المناهج التعليمية لبناء جيل جديد من المتخصصين في هذا المجال.
6. حماية البيانات والأمن
- تطوير أنظمة أمنية: استعمال تقنيات التشفير وحماية البيانات لضمان أمن المعلومات الجغرافية.
- وضع سياسات خصوصية: تطوير سياسات واضحة لحماية خصوصية البيانات الحساسة.
7. تعزيز البحث والتطوير
- دعم البحوث: تمويل البحوث التي تهدف إلى تحسين قدرات نظم المعلومات الجغرافية في دراسة تغير المناخ.
- تعزيز التعاون بين الباحثين: تشجيع التعاون بين الباحثين في مختلف التخصصات لتحسين فهم تغير المناخ وتطوير حلول مبتكرة.
8. تعزيز التعاون الدولي
- تبادل البيانات: تشجيع تبادل البيانات بين الدول والمنظمات الدولية لتحسين جودة التحليلات.
- المشروعات المشتركة: تنفيذ مشروعات مشتركة بين الدول لمواجهة التحديات المناخية باستعمال نظم المعلومات الجغرافية.
- المؤتمرات وورش العمل: تنظيم مؤتمرات وورش عمل دولية لتبادل الخبرات وأفضل الممارسات في استعمال GIS.
9. تعزيز القدرات المحلية
- بناء القدرات: تقديم التدريب والدعم الفني للجهات المحلية لتعزيز قدراتها في استعمال نظم المعلومات الجغرافية.
- تمكين المجتمعات المحلية: تشجيع المجتمعات المحلية على المشاركة في جمع البيانات واتخاذ القرارات المتعلقة بإدارة تغير المناخ.
إن التغلب على التحديات التي تواجه استعمال نظم المعلومات الجغرافية في الحد من آثار تغير المناخ يتطلب جهودًا متكاملة تشمل تحسين جودة البيانات، وتقليل التكلفة، وتعزيز السياسات، وزيادة الوعي، وتعزيز التعاون الدولي.
من خلال هذه الجهود، يمكن تعظيم الفوائد التي توفرها نظم المعلومات الجغرافية وبناء مجتمعات أكثر مرونة وقدرة على مواجهة التحديات المناخية.
في ظل التحديات المتزايدة التي تفرضها تغير المناخ، تبرز نظم المعلومات الجغرافية بصفتها أداةً قويةً وفعالةً في فهم هذه الظواهر وتطوير إستراتيجيات للتخفيف من آثارها.
من خلال رصد تغير المناخ وتقييم الآثار وتخطيط التكيف وإدارة الكوارث وتحسين استعمال الأراضي، تُسهِم نظم المعلومات الجغرافية في بناء مجتمعات أكثر مرونة وقدرة على مواجهة تغير المناخ.
ومع التطورات التكنولوجية المستمرة، يمكن أن تصبح نظم المعلومات الجغرافية عنصرًا أساسيًا في الجهود العالمية لمواجهة أحد أكبر التحديات التي تواجه البشرية.
* المهندسة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية
موضوعات متعلقة..
- التطوّع لتحقيق التنمية المستدامة.. دور مهم اجتماعيًا واقتصاديًا (مقال)
- الوعي المجتمعي وتحقيق التنمية المستدامة.. حماية للموارد والبيئة (مقال)
- لجنة الطاقة الأفريقية تتعاون مع منتدى الدول المصدرة للغاز لدعم التنمية المستدامة
اقرأ أيضًا..
- أكبر 5 صفقات طاقة متجددة في فبراير 2025.. صدارة إماراتية
- بحث يكشف عن آثار سرعات الرياح في أنظمة الألواح الشمسية العائمة
- طفرة النفط في غايانا مستمرة منذ 10 سنوات.. هل تصمد أمام التحديات؟