النيكل في إندونيسيا.. كيف تخطط جاكرتا للهيمنة على سوق "معدن الشيطان"؟
محمد عبد السند

يشكّل النيكل في إندونيسيا صداعًا في رأس القائمين على الصناعة العالمية الذين يساورهم قلق متزايد إزاء زيادة تغلغل جاكرتا في القطاع العالمي وتعزيز هيمنتها على سلاسل إمدادات المعدن العالمية.
ويرى المحللون أن النمو الحاد في إنتاج النيكل الإندونيسي يقضي على المنافسة عبر غلق المناجم في بلدان أخرى، كما أنه يُعيد تشكيل سلسلة الإمدادات بصورة كبيرة.
فعبر إغراق السوق وخفض الأسعار، جعلت الشراكة الصينية الإندونيسية من الصعب للغاية على المنافسين إنتاج المعدن اقتصاديًا في أماكن أخرى من العالم، بما في ذلك شركات "بي إتش بي" (BHP) و"آيجو" (IGO) و"فرست كوانتم" (First Quantum)، التي خفّضت إنتاجها وأغلقت مناجم غرب أستراليا.
ووفق تقديرات رصدتها منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، مثل إنتاج النيكل في إندونيسيا 51% من إنتاجية المناجم عالميًا في عام 2024، كما تضع الدولة الواقعة جنوب شرقي آسيا يدها على 42% من إجمالي الاحتياطيات العالمية.
نحاس الشيطان
بدأت قصة النيكل، الملقّب كذلك باسم "نحاس الشيطان"، في إندونيسيا خلال عام 2014، حينما قررت الحكومة حظرًا على صادرات النيكل الخام كافّة، وهو المعدن الذي يشكّل أهمية كبيرة لتحول الطاقة، إذ يُستعمل في تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية.
وكان الألمان أول من أطلق على النيكل اسم "نحاس الشيطان" (باللغة الألمانية كيبفر- نيكل)، لاعتقادهم أن الشيطان لا يسمح باستخلاص النحاس من هذا الخام؛ ما جعلهم يعتقدون أن تلك المادة الجديدة عبارة عن نحاس زائف للتشابه الكبير بين المعدنَيْن.

وشجّع قرار الحظر الإندونيسي الشركات الصينية التي تقودها تسينغشان هولدينغ غروب (Tsingshan Holding Group) المصنّعة للصلب على إنفاق مليارات الدولارات لإنشاء محطات معالجة نيكل في منطقة بهودوبي شرق إندونيسيا وفي أنحاء أخرى من البلاد.
واليوم أضحت بهودوبي مركزًا لأكبر موقع معالجة للنيكل في العالم، وهي منطقة مورووالي الصناعية في إندونيسيا.
وتمتدد مورووالي المملوكة بالأغلبية لشركة تسينغشان هولدينغ غروب، على مساحة تزيد على 4 آلاف هكتار، وبها العشرات من مصاهر النيكل ومصانع الحديد، إلى جانب الميناء والمطار الخاص بها.
*(الهكتار = 10 آلاف متر مربع)
هيمنة على السوق
على الرغم من أن إندونيسيا تمتلك أكبر احتياطيات نيكل في العالم التي وصلت إلى قرابة 55 مليون طن من المعدن في عام 2024، وفق هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، فإن معظمه كان من المعدن منخفض الجودة الذي لم تتوصل البلاد بعد إلى طرق لمعالجته بكفاءة.
لكن وبمساعدة التقنية الصينية والاستثمارات الضخمة من بكين وشيء من الحماية التجارية، نجحت إندونيسيا في السيطرة على السوق، وعزّزت نفسها مركزًا لإنتاج النيكل العالمي لسنوات مقبلة.
وفي العام الماضي (2024)، استأثرت إندونيسيا بـ61% من إمدادات النيكل المكرر العالمية، قياسًا بنحو 6% فقط في عام 2015، وفقًا لبيانات بنك ماكواري الأسترالي.
ومن المتوقع أن تنمو حصة إندونيسيا في سوق النيكل العالمية إلى 74% بحلول عام 2028، وفق معلومات اطلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة.
أوبك النيكل
تهيمن إندونيسيا حاليًا على مزيد من إمدادات النيكل العالمية بأكثر من إمدادات النفط التي تستحوذ عليها أوبك في أوج عهد المنظمة في سبعينيات القرن الماضي، التي كانت تبلغ -آنذاك- قرابة نصف إنتاج الخام العالمي.
وحقّقت إندونيسيا تلك الهيمنة على سوق النيكل العالمية في وقت يحاول فيه العملاء الجدد دون جدوى تأمين إمدادات موثوقة.
ولا تسابق شركات تصنيع سيارات أمثال تيسلا وفورد وفولكسفاغن الزمن من أجل تأمين حصولها على النيكل لإنتاج بطاريات الليثيوم أيون فحسب، وإنما يُستعمَل النيكل على نطاق واسع في الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية الأخرى بالإضافة إلى أهميته القصوى في صناعة الصلب.

وقال المدير الإداري لشركة نيكل إندستريز، وهي شركة مدرجة في أستراليا ولديها أصول تعدين ومصاهر في إندونيسيا، جاستن فيرنر: "نعتقد أن إندونيسيا تمثّل النيكل كما يمثّل الشرق الأوسط النفط والغاز، أو كما يمثّل غرب أستراليا خام الحديد".
وأضاف فيرنر: "لا أظن حقًا أن هناك أحدًا سيكون قادرًا على تحدي تلك الهيمنة الإندونيسية"، وفق تصريحات رصدتها منصة الطاقة المتخصصة.
وأدى النمو الدراماتيكي في إنتاج النيكل لدى إندونيسيا إلى ظهور بعض الشكاوي من قِبل الحكومات الأوروبية التي اتهمت جاكرتا باستعمال سياسات حمائية عدائية، في حين واجه النيكل الإندونيسي اتهامات لآثاره السلبية في البيئة نتيجة التصحر واستعمال محطات عاملة بالفحم.
أوبك النيكل
في عام 2022 طرحت إندونيسيا فكرة إنشاء أوبك النيكل، على غرار منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك، إلى جانب بلدن أخرى منتجة للمعدن، غير أنه لم تُكتب للفكرة النجاح.
لكن نظرًا إلى احتكارها الفعلي لمعدن النيكل، يقول خبراء الصناعة إن جاكرتا قادرة على التأثير وحدها في الأسعار بأي حال.
وقال مسؤولون إندونيسيون مؤخرًا إنهم سيكونون راضين عن أسعار النيكل عند مستوى يتراوح بين 18 و19 ألف دولار للطن، وهو أعلى من المستويات الحالية، وإن كان لا يزال غير كافٍ لجعل إنتاج النيكل مربحًا للآخرين.
وأكد الرئيس التنفيذي لشركة كندا نيكل (Canada Nickel) مارك سيلبي، أنه يتعيّن أن تبقى الأسعار فوق مستوى 22 ألف دولار للطن لمدة زمنية طويلة، حتى تتمكّن المناجم خارج إندونيسيا من إعادة التشغيل.
وفي يناير/كانون الثاني المنصرم أعلنت إندونيسيا عزمها تقليص حصص تعدين النيكل، في محاولة لتعزيز الأسعار، لكن يقول بعض المحللين إن جاكرتا ستأخذ الحيطة والحذر من رفع الأسعار إلى مستويات كبيرة جدًا؛ إذ إن هذا من شأنه أن يحفّز الاستثمارات في المناجم في أجزاء أخرى من العالم ويهدّد هيمنتها على السوق العالمية.
موضوعات متعلقة..
- غضب شعبي ضد تعدين النيكل في إندونيسيا.. والاستثمارات الصينية في خطر
- مناجم النيكل في إندونيسيا تتلقى استثمارات صينية بـ14 مليار دولار
- الصين توسع استثمارات النيكل في إندونيسيا لتلبية الطلب على السيارات الكهربائية
اقرأ أيضًا..
- هل تناور إسرائيل بوقف إمدادات الغاز لمصر؟.. 3 خبراء يتحدثون
- وكالة الطاقة الدولية ترفع توقعات الطلب على النفط في 2025
- صفقة الغاز التركمانستاني إلى العراق قد تفشل.. وأزمة وشيكة في الصيف (مقال)
المصادر: