أزمة الطاقة في أوروبا.. فقاعة وهمية أم نار تحت الرماد؟
محمد عبد السند
رغم النجاح الملحوظ في درء أزمة الطاقة في أوروبا التي لطالما تنبأ الخبراء بأنها ستكون الأسوأ في القارة منذ عقود، إلا أن هناك علامات باعثة على القلق تشير إلى احتمالية عودة الأوروبيين إلى "المربع الأول" في تلك الأزمة التي يصعُب التكهن بنهايتها.
فمن أسعار الكهرباء المرتفعة باطراد، وصعوبة إيجاد بديل آمن لإمدادات الوقود الروسية، إلى جانب استمرار الحرب الأوكرانية وتصاعد التوترات الجيوسياسية في العالم، قد تجد أوروبا نفسها في قلب أزمة تعصف بها لسنوات طويلة.
وحتى الآن نجحت أوروبا -نوعًا ما- في تفادي أزمة الطاقة التي أشعلت فتيلها تداعيات الحرب الأوكرانية التي تدير موسكو رحاها منذ 24 فبراير/شباط (2022)، لكن المخاطر السياسية والإستراتيجية ما تزال ماثلة، حسبما أوردت مجلة "فوربس" الأميركية.
تغيرات مفاجئة
قد تقود المخاطر الإستراتيجية -الناتجة أساسًا عن سقف أسعار النفط الروسي- "إلى تغيرات كبيرة ومفاجئة في بيئة سوق النفط الأوسع نطاقًا، ما قد يؤثر بدوره على أداء الأسواق، وفي نهاية المطاف على الاستقرار المالي العالمي"، حسبما ورد في مقالة نشرتها "بلومبرغ".
ويسري تطبيق سقف أسعار النفط الروسي (المعروف كذلك بآلية تصحيح السوق) في 15 فبراير/شباط (2023).
وحتى الآن يشهد مزيج خام برنت القياسي -الذي يُعتد به في تسعير نحو ثلثي إنتاج النفط العالمي، لا سيما في أسواق أوروبا وأفريقيا- تراجعًا ثابتًا منذ 30 ديسمبر/كانون الأول (2022)، وهو ما ينطبق -أيضًا- على سوق الغاز الطبيعي الهولندية.
وقال كبير الخبراء الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي روبن بروكس، في 26 يناير/كانون الثاني (2023)، إن أسعار النفط المنخفضة تحمل دلالات مختلطة لأوروبا.
ارتفاع أسعار الكهرباء
غرّد بروكس على حسابه الشخصي على موقع "تويتر"، قائلًا إن صدمة الطاقة -إن لم تكن أزمة الطاقة- ما تزال تُطل برأسها على أوروبا، مشيرًا إلى أن أسعار الكهرباء تشهد صعودًا في بعض البلدان، بقيادة ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في عموم أوروبا.
وما تزال أسعار الكهرباء مرتفعة في أوروبا مقارنة بما كانت عليه قبل عام، حتى رغم تراجع أسعار السلع، ما حدا ببعض الشركات إلى غلق مصانعها، وتسريح عمالتها، مثل "داو كيميكال" التي استغنت عما يزيد على 2000 عامل، بسبب تكاليف الطاقة، وفق ما ذكرته "بلومبرغ" الأسبوع الماضي.
ويوضح التصميم التالي -الذي أعدته منصة الطاقة المتخصصة- علاقة الطلب على الكهرباء في أوروبا بأسعار الكربون:
ونجح الاتحاد الأوروبي في استبعاد النفط والغاز الروسيين من منظومة الطاقة لديه، رغم استمرار تدفق بعض الغاز عبر خط أنابيب "ترك ستريم" التركي، بجانب الغاز الطبيعي المسال.
وعوّضت أوروبا أخيرًا بعض شحنات النفط الروسي، عبر عقد تحالفات طاقة جديدة مع قطر ومصر، وأذربيجان (غاز طبيعي)، والولايات المتحدة الأميركية.
خروج روسيا.. مَن البديل؟
استبدلت أميركا الغاز الطبيعي المسال ببعض إمدادات الغاز الطبيعي الروسي، ويتطلب هذا بالطبع وجود موانٍ للغاز الطبيعي المسال التي تحتاج إليها أوروبا بأعداد أكبر، لجلب إمدادات الغاز الطبيعي المسال الأميركية.
وأضحت أميركا أكبر بلد مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم -بفضل أوروبا- في الربع الأول من العام الفائت (2022)، بحسب أرقام صادرة عن إدارة معلومات الطاقة الأميركية، وطالعتها منصة الطاقة المتخصصة.
ورغم ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي المسال، مقارنة بأسعار الغاز الطبيعي المنقول عبر الأنابيب، فإن الأول لا يقترن بمخاطر سياسية، أو حتى شُبهة التعامل مع روسيا -من منظور أوروبي على الأقل- في الوقت الراهن.
غير أن تلك الأسعار المرتفعة لم تعبأ بها أوروبا خلال عام 2022 بُحكم الضرورة، وحاجة دول القارة الماسة إلى إمدادات الوقود بأي ثمن، بُغية الإفلات من براثن أزمة الطاقة المحتملة.
وقال المحلل الإستراتيجي غافن ماغواير إن الاتحاد الأوروبي سيركز بصورة أكبر على خفض تكاليف الطاقة، فيما يُعد اختبارًا لاستمرار أوروبا في الاعتماد على إمدادات الطاقة المستوردة من خارج الحدود، حسبما ورد في مقالة نشرتها وكالة رويترز.
ولعل هذا ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى البحث في أماكن أخرى عن إمدادات رخيصة للغاز الطبيعي المنقول عبر الأنابيب، في مسعى من دول التكتل لدرء أزمة الطاقة في أوروبا.
صادرات الغاز الروسية
تمثّل صادرات الغاز الروسية ما نسبته 40% من إجمالي مشتريات أوروبا من الغاز المستورَد، كما أنها تشكّل 60% من إمدادات الغاز المستوردة في ألمانيا.
وعلى مدار الأعوام 20 عامًا الماضية، رفعت دول الاتحاد الأوروبي حجم مشترياتها من الغاز الروسي بنسبة 150%، بحسب تقديرات الصناعة.
ويبيّن التصميم أدناه -الذي أعدته منصة الطاقة المتخصصة- خطوط أنابيب نقل الغاز الروسي إلى أوروبا:
وما إن فرضت عقوبات على روسيا على خلفية الحرب الأوكرانية، سارعت أوروبا لمعاقبة قطاع النفط والغاز الروسيين، لترد موسكو على الفور بعرقلة وصول إمدادات الوقود الأحفوري إلى دول القارة، واضعة إياها وجهًا لوجه أمام أزمة الطاقة المرتقبة، وما قد يَنتج عنها من اضطرابات سياسية واجتماعية لا تُحمد عُقباها.
ومن ثم لم يكن هناك خيار على طاولة قادة أوروبا سوى البحث عن بدائل في أماكن أخرى، حتى ولو اعتمدت على الفحمين الروسي والبولندي، اللذين يهددان أهدافها المناخية.
أذربيجان الحل.. ولكن!
في هذا السيناريو، أصبحت أذربيجان الحل المتاح أمام أوروبا للحصول على الغاز الطبيعي في الصيف الماضي.
وتصدر الدولة القوقازية النفط والغاز إلى النمسا وبلغاريا وألمانيا واليونان وإيطاليا وإسبانيا وأيرلندا والبرتغال ورومانيا وكرواتيا وجمهورية التشيك.
وفي عام 2022، بلغ حجم إمدادات الغاز الطبيعي المسال الأذربيجاني إلى دول الاتحاد الأوروبي، 12 مليار متر مكعب، وستتضاعف تلك الواردات بحلول عام 2027، بحسب بيان صادر عن الاتحاد الأوروبي، وطالعته منصة الطاقة المتخصصة.
ونجحت أذربيجان في "إنقاذ إيطاليا" من انهيار قطاع الصناعة لديها، حسبما صرّح رئيس "داتا لاب" -معهد الدراسات السياسية الدولية- ماتيو فيلا، لصحيفة "أذربيجانية"، في إشارة منه إلى مدى أهمية خط الأنابيب العابر للبحر الأدرياتيكي "تاب" الذي لم يتجاوز عمره عامين.
ويتصل "تاب" بخط أنابيب الغاز العابر للأناضول "تي إيه إن إيه بي" الذي يتصل بدوره بخط أنابيب جنوب القوقاز في أذربيجان.
ويرى العديد من المحللين أن الغاز الطبيعي الأذربيجاني لن يكون كافيًا لتعويض نقص إمدادات الوقود في أوروبا، بما يدرأ عنها أزمة الطاقة التي تهددها بين الحين والآخر.
وأوضح هؤلاء أن روسيا لديها أكبر احتياطي غاز طبيعي في العالم يُقدر بـ37.4 تريليون متر مكعب، في حين تمتلك أذربيجان احتياطي غاز يلامس 2.5 تريليون متر مكعب، ويصل هذا الرقم إلى 13.6 تريليون متر مكعب، و 2.4 تريليون متر مكعب، لدى كل من جارتيها تركمانستان وقازاخستان على الترتيب.
بيد أن الغاز التركماني والقازاخي يتطلب العبور من الأراضي الأذربيجانية كي يصل إلى أوروبا، عبر خط أنابيب ترانس-قزوين الذي يزيد طوله على 1.5 كيلومترًا، والمتوقف الآن نتيجة مشكلات تقنية.
ويُظهر الرسم البياني التالي -الذي أعدته منصة الطاقة المتخصصة- إنتاج النفط الخام في روسيا خلال الأعوام من 2019-2023:
شوكة إيران
تبرز إيران نقطة أخرى قد تعجّل بنشوب أزمة الطاقة في أوروبا عبر عرقلة وصول إمدادات الوقود إلى دول القارة، إذ تجمعها مشكلات عدة مع أذربيجان، أبرزها محور "زانغيزور" الإستراتيجي المقترَح الذي سيصل بين أذربيجان وتركيا، ليقطع بذلك الأراضي التي تصل بين إيران وأرمينيا، وهو ما لا يروق لطهران، حسبما أشار تحليل نشرته مؤسسة "جيمستاون فاونديشن" في الخريف الماضي.
ويتصدر محور "زانغيزور" أجندة أولويات الرئيس الأذربيجاني إلهام حيدر أوغلو علييف، إذ سيتيح لباكو بناء طرق سريعة وخطوط سكك حديدية جديدة، ما يروق لحكومات أوروبا التي سارعت إلى توقيع اتفاقية مع أذربيجان، لجلب إمدادات الوقود الأحفوري.
وفي الأسبوع الماضي، نشر سلاح الحرس الثوري الإيراني مقطع فيديو تحذيريًا لأذربيجان، يظهر فيه أطفال إيرانيون يرتدون الزي العسكري وهم واقفون على الحدود بالإعلام الإيرانية.
واشتعلت الأجواء أكثر بعد حادث إطلاق نار في مقر سفارة أذربيجان في إيران الأسبوع الماضي، أدى إلى مقتل شخصين من موظفي السفارة، ما حدا بالرئيس علييف إلى غلق السفارة، واصفًا ما حدث بـ"الهجوم الإرهابي".
الأزمة الأذربيجانية- الأرمينية
يُعد الخلاف العميق بين أذربيجان وأرمينيا بسبب إقليم كاراباخ -ويظهر في المواجهات الحدودية المستمرة بين القوات العسكرية من كلا البلدين- عاملًا آخر يهدد بإشعال أزمة الطاقة في أوروبا، عبر تعريض أمن إمدادات الوقود الأحفوري لديها للخطر.
وقد يهُب الاتحاد الأوروبي للتوسط في حل الأزمة بين البلدين، لكن سيكون لزامًا على أوروبا أن تأخذ بمبدأ الحيطة، عبر البحث عن إمدادات وقود أحفوري بديلة أكثر أمانًا.
وفي هذا السيناريو تبقى الولايات المتحدة الأميركية وقطر والجزائر وأذربيحان والنرويج، ونيجيريا، وفي المستقبل، الغاز الطبيعي الموزمبيقي، أفضل بدائل إستراتيجية أمام أوروبا لتنويع مصادر الطاقة.
ومع إعادة الفتح في الصين، ستزيد المنافسة بالطبع، لترتفع معها على الأرجح أسعار النفط والغاز.
الطاقة المتجددة طوق النجاة
انتبه القادة الأوروبيون -على ما يبدو- إلى أهمية الطاقة المتجددة بوصفها طوق إنقاذ من أزمة الطاقة التي ما تزال تؤرقهم، ما دفع المفوضية الأوروبية -الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي- إلى اقتراح رفع الحصة المستهدفة من مصادر الطاقة المتجددة في الاستهلاك النهائي من 40% إلى 45% في نهاية العقد الجاري (2030).
وفي ضوء تلك الخطة الطموحة، سيبلغ إجمالي سعة الطاقة المتجددة المتاحة لتوليد الكهرباء 1236 غيغاواط، بدلًا من 1067 غيغاواط.
وهذا يُترجم عمليًا توفير استهلاك ما يصل إلى 9 مليارات متر مكعب من الغاز، بحلول عام 2027.
ولطالما اتخذ الاتحاد الأوروبي حزم إجراءات لتشجيع الاستثمار في الطاقة المتجددة، في إطار خطة أوسع للتخلص التدريجي من إمدادات الوقود الأحفوري الروسية، لا سيما عقب الحرب الأوكرانية.
وفي هذا الإطار، وفّر الاتحاد الأوروبي حزمة تمويلية بقيمة 225 مليار يورو، تُمنح في صورة قروض لمشروع الطاقة المتجددة، بل واقترحت المفوضية رفع تلك القيمة بواقع 20 مليار يورو.
كما منح الاتحاد الأوروبي الضوء الأخضر لاستحداث خطة لوضع حد أقصى لسعر الغاز بالجملة، في خطوة لطالما نُظر إليها على أنها مهمة لتفادي تقلب الأسعار.
موضوعات متعلقة..
- أزمة الطاقة في أوروبا لم تخرج من دائرة الخطر.. و2023 عام الاختبار (تقرير)
- وكالة الطاقة الدولية تحدد 5 عوامل لتجنب نقص الغاز في أوروبا خلال 2023
- أسعار الغاز في أوروبا تشهد تراجعًا قياسيًا.. هل ينتهي الشتاء دون أزمة؟
اقرأ أيضأ..
- مشروعات توتال في العراق تواجه شبح الانهيار.. وسحب موظفي صفقة الـ27 مليار دولار
- إيران تفشل في استكشاف 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز في حقل واحد
- رئيس مجموعة بيئة الإماراتية: نبحث التوسع بمشروعات الطاقة النظيفة في السعودية ومصر (حوار)