بعد تراجع الأسعار بسبب كورونا.. من يحتاج إلى تأسيس "أوبك للغاز"؟
سؤال يطرحه مركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن
حازم العمدة
- قطر غير مستعدة للتنازل عن أرض لمنافسيها في سوق الغاز
- تجربة كورونا تؤكد أن عقبات تشكيل مظلة فاعلة لا تزال قائمة
- السماح بانخفاض أسعار الغاز يهدف إلى إخافة المنافسين الجدد والصغار وصرفهم بعيدا عن السوق
- سوق الغاز أثبتت مرونة في التعامل مع أزمة كورونا
من يحتاج إلى إنشاء (أوبك للغاز)، على غرار منظّمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)، التي تبذل جهودًا ضخمة ومضنية لإعادة التوازن لأسواق النفط، في ظلّ جائحة فيروس كورونا المستجدّ؟
قد يبدو هذا السؤال ساذجًا بالنسبة للكثيرين الذين يرون أن هناك إجابة قاطعة ووحيدة، هي "نعم"، لاسيّما مع نجاح أعضاء أوبك وتحالف "أوبك+" في الاتّفاق على كلمة سواء (اتّفاق) لانتشال أسواق النفط من المستنقع السحيق الذي انزلقت إليه جراء فيروس كورونا، الذي سدّد طعنات قويّة للأسواق والصناعة بأسرها.
بيد أن الباحث البارز في برنامج أمن الطاقة وتغيُّر المناخ، بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، نيكوس تسافوس، يرى أن السؤال جادّ للغاية، في ضوء طبيعة أسواق الغاز وآليّاتها وواقع أزماتها التي قد تختلف عن النفط.
وحتّى لا نقفز على النتائج مباشرة دون تحليلها في سياق واحدةٍ من أعنف الأزمات التي تخيّم على الصناعة بأسرها، تفسح منصّة "الطاقة" المجال لعرض رؤية "تسافوس"، التي قد تجد تأييدًا أو رفضًا على حدّ سواء.
وإلى نصّ المقال..
جاءت جائحة (كوفيد-19) لتمثّل اختبارًا لأسواق الغاز الطبيعي كما لو لم تكن هناك أزمة يشهدها القطاع من قبل، تراجعت مؤشّرات الأسعار الرئيسة التي تحكم صناعة الغاز في أميركا الشمالية وأوروبّا وآسيا إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات طويلة.. أنهت مرافق التخزين موسم الصيف بالكامل وهي ممتلئة، وتعاني تخمة كبيرة.. لو جمعت هذه اللحظة الفارقة المنتجين الرئيسيّين في العالم معًا، لتنسيق خفض الإنتاج، لاختلفت الأمور.
الحقيقة أن أيّ تعديل أو تكيُّف مع هذه الأزمة لا يجري بشكل عشوائي دون إشراف وموقف موحّد، كانت عملية الاستجابة مؤلمة وغير عادية في بعض النواحي، فبعض المنتجين يخفضون الكثير من إنتاجهم وصادراتهم وبعضهم الآخر يرفض السير في هذا الاتّجاه.
انخفضت الأسعار كثيرًا، وظلّت على هذه الحال، لكن المتابع لأسواق الغاز سيدرك أن النظام كان مرنًا، ولم ينهر.
تُظهر تجربة كورونا أن العقبات التي تحول دون تكوين منظّمة على غرار أوبك لا تزال قائمة، وأن قطر، على وجه الخصوص، غير مستعدّة للتنازل عن أيّ أرض لمنافسيها في سوق الغاز.
كيف تكيّفت أسواق الغاز مع كوفيد-19؟
تتراجع أسعار الغاز منذ أواخر عام 2018، وأجبرتها جائحة كورونا على الانخفاض أكثر هذا الصيف.. في الولايات المتّحدة، هَوَت أسعار مركز هنري- وهو مؤشّر دولي بارز للأسعار- إلى نقطة لم نشهدها منذ منتصف التسعينات، ووفق مؤشّر هولندا الذي يعدّ محدّدًا لأسعار الغاز في أوروبّا، كانت الأسعار أقلّ بنسبة 60% من المستوى المنخفض السابق.
ونادرًا ما جرى تداول مؤشّر اليابان وكوريا- وهو معيار بارز لأسعار الغاز، لاسيّما في آسيا- بأقلّ من 4 دولارات لكلّ مليون وحدة حراريّة بريطانيّة، قبل عام 2020، لكن هذا العام، أمضى أكثر من شهرين بالقرب من 2 دولارًا لكلّ مليون وحدة حراريّة بريطانيّة.
في الأوقات العاديّة، قد تؤدّي الأسعار المنخفضة إلى استجابة تحمل طابعًا إيجابيًا، حيث تستخدم محطّات الطاقة أو المصانع المزيد من الغاز، لكن الانكماش الاقتصادي والشلل الذي فرضه كورونا وضع حدًّا لهذه العملية، كان العرض، وليس الطلب، هو الذي يحقّق توازن السوق في الغالب.
قادت الولايات المتّحدة وروسيا الأسواق في خفض الصادرات، وتراجعت صادرات الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتّحدة بنسبة 67%، في يوليو/تمّوز، مقارنةً بـ يناير/كانون الثاني، وهبطت صادرات خطوط الأنابيب الروسيّة بنسبة 17%، خلال النصف الأوّل من العام.
خفض المصدّرون الآخرون الإمدادات بنسبة أقلّ.. تراجعت صادرات كندا بنسبة 10% (حتّى نهاية يوليو/تمّوز)، وتراجعت صادرات النرويج بنسبة 5% (حتّى نهاية أغسطس/آب).
وفي أستراليا، هبطت الصادرات على أساس شهري، لكنها ارتفعت على أساس سنوي (ولا تزال المشروعات الجديدة في تصاعد).
أمّا قطر -أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال- فقد واصلت الإنتاج بكامل طاقتها. لقد كان تعديلًا غير متكافئ، مدفوعًا بالظروف وليس حجم السوق.
دروس التعامل مع الأزمة
نجحت عملية التنظيم والضبط، لكن الأسعار ظلّت منخفضة لعدّة أشهر، حتّى قلّص المنتجون الصادرات. في مرحلة ما، تقاربت أسعار المؤشّرات الرئيسة الـ3، ما أدّى إلى القضاء على المراجحة (هو أسلوب في المتاجرة يعتمد على الاستفادة من فروق الأسعار لنفس السلعة، من خلال تداولها في أماكن مختلفة) بين الأسواق الاستهلاكية الثلاث الكبرى في العالم.
بالكاد، غطّى المنتجون تكاليفهم النقديّة، خلال الصيف، وظلّت بعض الأسعار، خاصّةً في آسيا، التي لا تزال مرتبطة بالنفط أعلى من الأسعار الفورية، ما يدعم الصادرات.
ساعدت آليّة التخزين أيضًا في التعامل مع الأزمة، حيث استوردت الشركات الغاز إلى أوروبّا لتخزينه، على أمل تحقيق ربح من بيعه لاحقًا. ولولا التخزين الزائد في أوروبّا ، لكانت عملية التكيّف أكثر إيلامًا.
جاءت المرونة في التعامل مع الأزمة من مصادر مختلفة، وتميل عقود الغاز الأميركي المسال إلى السماح للمشترين بعدم رفع الشحنات إذا لم يرغبوا في ذلك (في معظم العقود طويلة الأجل، يفضّل المشترون دفع غرامة مقابل إلغاء الشحنات، لأن هذه الغرامة ستكون بسيطة مقارنةً بحجم الخسائر مع انهيار أسعار الغاز.
في الولايات المتّحدة، يجري تقسيم مدفوعات الغاز عادةً بين مكوّن ثابت، يُدفع، بغضّ النظر عن أيّ شيء، ومكوّن مرن يُدفع فقط عند إنتاج الغاز وتصديره. ويعدّ ذلك عامل جذب للغاز الأميركي المسال- ما أتاح للمشترين المرونة في التعامل مع سوق متغيّرة. كان الانخفاض في صادرات الولايات المتّحدة من الغاز الطبيعي المسال ميزة وليست خطأ، فقد عملت السوق على النحو المتوقّع في ضوء الأزمة الراهنة
استجابت روسيا أيضًا لقوى السوق: فقد قلّصت صادرات الغاز عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبّا، بالرغم من أن الخفض عكسَ أيضًا حقيقة أن صادرات 2019 كانت مرتفعة بشكل مصطنع، في الوقت الذي استعدّت فيه موسكو لخفض محتمل للإمدادات عبر أوكرانيا (وخزّنت روسيا غازًا إضافيًا كحائط صدّ إذا تعطّل العبور).
رغم كلّ الحديث عن احتكار روسيا لصادرات الغاز إلى أوروبّا، فإنها لم تكن قادرة على رفع الأسعار كثيرًا. وتنازلت عن حصّتها في السوق للغاز الطبيعي المسال في البداية، لكن مع انخفاض تدفّقات الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتّحدة، تحسّن وضعها النسبي.
من الصعب النظر إلى عام 2020، والاعتقاد بأن روسيا لديها الكثير من القوّة للحفاظ على ارتفاع الأسعار بشكل مصطنع في أوروبّا.
- 89 مليار دولار ديون في 9 أشهر.. ماذا يحدث لشركات النفط والغاز الأميركية؟
-
بعد 5 سنوات.. مشروعات الغاز الإسرائيلية “لا تغني ولا تسمن من جوع”
-
على أيّ برّ ترسو صناعة الغاز المسال بعد كورونا؟
لم تعتمد قطر أبدًا على آليّة رفع وخفض الإنتاج.. إنّها تفضّل إنتاج أكبر قدر ممكن من الغاز، ومحاولة الحصول على أفضل سعر لبيع الغاز. اتّبع نهجها التسويقي في عام 2020 هذه الفلسفة، لكن لا يزال هناك شيء رائع في هذا الإطار، وهو محاولة ضبط سوق الغاز دون قيام أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم بتقليص الإنتاج.
كانت الإشارة واضحة: يمكن لقطر أن تتفوّق على الجميع، ولن تضحّي بكمّيات كبيرة لدعم الأسعار.
الواقع أن ضغوط السوق قابلة للتحمّل أيضًا، حيث يجمع نظام الغاز بين الصلابة والمرونة. من ناحية، هناك خطوط أنابيب تنتقل من النقطة أ إلى النقطة ب، والغاز الذي يُباع بموجب عقود مدّتها 20 أو 25 عامًا.
لكن، من ناحية أخرى، هناك غاز طبيعي مسال وشبكات خطوط أنابيب عميقة قادرة على تحويل الغاز نحو الأماكن التي تحتاجه.
في كلّ أزمة، سيكون هناك نزاع، يتمثّل في إعادة التفاوض على العقود، وذهاب الأطراف إلى التحكيم. التعامل مع كوفيد-19 كان جيّدًا ضمن النطاق المعقول، ولم ينهَر النظام.
دروس للمستقبل
لم تكن أسواق الغاز مواتية على الإطلاق لتشكيل منظّمة على غرار أوبك.. تخلق العقود طويلة الأجل حوافز للإنتاج المستقرّ، فضلًا عن أن أسعار الغاز ارتبطت تاريخيًا بالنفط، ما أضعف الصلة بين الإنتاج والأسعار.
وتعني مرونة الطلب، أن أيّ ارتفاع مستمرّ في الأسعار قد يدفع المستهلكين إلى التحوّل إلى أنواع الوقود الأخرى، أضف إلى ذلك الطبيعة المشتّتة لأسواق الغاز، وبروز اقتصادات السوق بمثابة منتجين رئيسيّين، ولم يكن هناك أبدًا عوامل التقاء تشجع على التنسيق، أو الخروج بكيان مثل أوبك.
كانت جائحة كورونا هي الأزمة المثالية التي تجمع المنتجين حولها، ومع ذلك لم تكن هناك، في أيّ لحظة خلال هذه الأزمة، محاولة جادّة للتنسيق بين المنتجين.
ومن هذا المنطلق، تجدر الإشارة بشكل خاصّ إلى إحجام قطر عن لعب دور كبير في هذا الاتّجاه، قد يكون سلوكها بسبب القصور الذاتي الي يتمثّل في عدم القيام بشيء ما، لأنّه لم يجرِ القيام به من قبل.
- أوّل منظّمة دولية في شرق المتوسّط.. الغاز أصبح له أب شرعي
-
منتدى غاز شرق المتوسّط يضع “تأثير كورونا” على رأس أولويّاته
وهناك أهداف إستراتيجية للسماح بانخفاض الأسعار من قبل منتج كبير، مثل قطر، إنّها ليست مجرّد إيذاء المنافسين، بل إخافتهم وصرفهم بعيدًا. يسارع المنتجون في العالم إلى بناء الشريحة التالية، وربّما النهائية، من إمدادات الغاز والغاز المسال الجديدة.
وعند القيام بذلك، يحتاج هؤلاء إلى إقناع المستثمرين والمموّلين بأن مشروعاتهم ستجني الكثير من الأموال، بيد أن هذه المهمّة تكون أكثر صعوبة عندما لا تكون هناك أرضية ذات مغزى لأسعار الغاز، وعندما لا يتدخّل أحد لمنع الأسعار من الانهيار.. هذا ما قالته قطر للعالم، وفي مثل هذه السوق، يمكن لعدد قليل فقط من المنتجين البقاء، أوّلهم الدوحة.