"أسئلة وجودية" تبزغ في الصناعة النفطية
الخبراء يناقشون "المسلّمات".. والتوقّعات عسيرة في زمن غير تقليدي
"في زمن يشهد حدثًا غير تقليدي، تحوّلت أروقة صناعة النفط وخبرائه من بناء التوقّعات على أرقام ومعطيات، إلى ما يشبه التناظر الفلسفي في ساحات أثينا القديمة، مع غياب نقاط استناد قويّة، تسمح ببناء التوقّعات، ومتغيّرات أكثر تعقيدًا من القدرة على احتسابها في المعادلات، من أجل الخروج بنتائج واضحة.
ويبدو ذلك جليًّا في كلّ أروقة الاقتصاد العالمي، من مسؤولي مؤسّسات دولية، ومصارف استثمارية، وخبراء ومراقبين، فبين ساعة وأخرى، نرى تغيّرًا كبيرًا في توقّعات تلك الجهات، لتعيد قراءة الأحداث صعودًا وهبوطًا، مع كلّ متغيّر يشهده العالم، وبالطبع، فعالم النفط في قلب هذه الأحداث.
والحقيقة أن النماذج الرياضية النفطية مصمّمة لأسواق في الحالة العاديّة، وليس لحالات نادرة، تنهار فيها الأسواق، ومن ثمّ فإن النماذج الرياضية لتوقّعات الطلب والعرض والأسعار وغيرها، لاتعمل في الأوضاع التي مررنا بها، الأمر الذي يفسّر التخبّط في التوقّعات من جهة، والتوقّعات المتضادّة من جهة أخرى... إلّا أن الأمور أفضل إذا نظرنا إلى المدى الطويل، ولكن المشكلات الأساسية لاتزال باقية.
ولأن الإنتاج والاستهلاك والاستثمار هي أعمدة الصناعة النفطية، فإن كلّ مؤثّر في أيٍّ منها، يكون له -بالتبعيّة- أثر في النظرة النهائية على مستقبل وتوزان السوق. ولذلك نرى تباينًا واختلافًا كبيرًا بين الخبراء خلال الأيام الماضية، ليتخطّى هذا التباين التوقّعات، إلى مراجعة بعض الثوابت، مثل سؤال طُرح مؤخّرًا، وشهد خلافًا واسعًا حول ذروة الاستهلاك العالمي.
وفي هذا الإطار، لا يستبعد مدير وكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول، أن يعود مستوى الطلب العالمي على النفط، ليس لسابق عهده فقط عند نحو 100 مليون برميل يوميًا، بل يرى احتمالية تجاوز مستويات الطلب قبل أزمة كورونا، وذلك على الرغم من إشارة كثير من الخبراء والمراقبين والضالعين في عالم النفط إلى تخوّفهم من أن تكون جائحة كورونا قد تركت آثارًا هيكلية طويلة المدى على الصناعة، ونمط الاستهلاك العالمي.
والأسبوع الماضي، قالت شركة استشارات الطاقة النرويجية "دي.إن.في جي.إل"، إن الطلب العالمي على النفط ربّما كانت ذروته في 2019، إذ سيكون لجائحة كوفيد-19 أثر دائم عليه، متوقّعةً أن استهلاك الطاقة العالمي سينخفض 8% في عام 2050، عمّا كان متوقّعًا من قبل، بسبب تأثير الجائحة.
وقالت شركة الاستشارات -التي مقرّها النرويج، والتي تقدّم المشورة لكلّ من شركات البترول والطاقة المتجدّدة، بشأن إدارة المخاطر والتكنولوجيا-، إن "التغيّرات السلوكية الدائمة، فيما يخصّ عادات السفر والانتقال والعمل، ستقلّص أيضًا استخدام الطاقة، وتقلّل الطلب على الوقود الأحفوري من قطاع النقل إلى إنتاج الحديد والصلب".
لكن عند سؤاله عمّا إذا كان يعتقد أن العالم تجاوز -بالفعل- ذروة الطلب على النفط، قال بيرول: "إذا عاد الطلب على النفط إلى 100 مليون برميل في اليوم، فلن أفاجأ. وفي ظلّ انتعاش قويّ، فلن أفاجأ إذا ذهب أعلى من ذلك"، بحسب تقرير "إس آند بي غلوبال بلاتس".
ومع عودة الاقتصاد العالمي ببطء إلى النشاط، تكاثرت الدعوات السياسية والبيئيّة إلى تبنّي سياسات أكثر ملاءمة للمناخ، لتسريع الانتقال بعيدًا عن الوقود الأحفوري... لكن بيرول كان متشكّكًا في أن التغييرات السلوكية المأمولة وطويلة الأمد، مثل العمل عن بعد، وقلّة التنقّل، سيكون لها تأثير كبير في الطلب على النفط مستقبلًا. وأوضح أن "بعضهم يقول، إن الطلب على النفط ينخفض، لأنّنا نغيّر أنماط حياتنا. لست متأكّدًا. فالعمل عن بعد لن يؤدّي إلى انخفاض الطلب على النفط، سنحتاج إلى السياسات الصحيحة".
وفي تقريرها عن الأسواق، في يونيو الماضي، أفادت وكالة الطاقة الدولية، أن الطلب على النفط سيسجّل ارتفاعًا تاريخيًا، العام المقبل، بعد تراجعه تحت تأثير انتشار فيروس كورونا المستجدّ، لكن هذا الانتعاش ستحدّه الأزمة الحادّة التي تشهدها حركة الملاحة الجوّية. وتوقّعت الوكالة أن الانتعاش المقدّر في 2021، يضع الطلب على النفط عند مستوى 97.4 مليون برميل في اليوم، أي أقلّ بنحو 2.4 مليون برميل عن مستويات 2019.
ومن جانبها، تتوقّع وحدة تحليلات "إس آند بي غلوبال بلاتس" حاليًا، أن يقلّ الطلب العالمي على النفط بنحو 3 ملايين برميل يوميًا، حتّى عام 2040، عن توقّعات ما قبل الوباء، مع خسائر فادحة خاصّة لوقود الطائرات والوقود البحري. وبدلًا من تسريع ذروة الطلب على النفط، تعتقد غلوبال بلاتس أنّها ستتأخّر حتّى عام 2041، ويرجع ذلك في الغالب إلى المرونة المتوقّعة للطلب على البتروكيماويات، على المدى الطويل.
وإلى جانب الاختلاف في الرؤية والتقييمات، تبرز أيضًا مشكلة أن كبار رجالات الصناعة أنفسهم، لا يوجد لديهم يقين بأيّ تطوّر قد يحدث في المستقبل القريب. وبينما كان تعبير "لست متأكّدًا" شديد الوضوح في تعليقات بيرول، فإن برنارد لوني -الرئيس التنفيذي لشركة "بي بي"- قال في شهر مايو /أيار الماضي، لصحيفة "فاينانشال تايمز": "لا أعتقد أنّنا نعرف كيف ستكون الأمور.. لا أعرف بكلّ تأكيد... هل وصل العالم إلى ذروة النفط؟ لا يمكنني استبعاد ذلك"، معبّرًا بجدّيّة فائقة عن أغلب أقرانه في السوق.
ولطالما أثار مبدأ "ذروة النفط" تكهّنات عدّة. وتركّز في الغالب على ذروة الإنتاج مع توقّع الخبراء بأن تصل الأسعار إلى مستويات قصوى، مع نفاد النفط القابل للاستخراج. لكن في الأشهر الأخيرة، راج مبدأ ذروة الطلب، بعدما شكّل تفشّي فيروس كورونا المستجدّ ضربة للطلب على الوقود في قطاع النقل، تلته ضربة قاضية أخرى ناجمة عن الانتقال إلى مصادر الوقود الصديقة للبيئة.
وأفاد الأستاذ في كلّية إدارة الأعمال في جامعة ووريك، مايكل برادشو، إن المجموعات المدافعة عن البيئة، كانت في الأساس تضغط لمنع تحوّل اتّفاقيات باريس إلى ضحيّة أخرى للوباء، مشدّدين على الحاجة لاتّفاق جديد صديق للبيئة. وقال في تصريحات للصحفيّين: "إذا نجحوا، فقد لا يعود الطلب على النفط قطّ إلى الذروة التي شهدناها قبل كوفيد-19"، بحسب وكالة "فرانس برس".
وأضاف برادشو، إن قطاع النقل قد لا يتعافى بشكل كامل إطلاقًا... "بعد الوباء، قد يكون لدينا موقف مختلف تجاه السفر جوًّا أو الذهاب بأنفسنا إلى العمل"... بينما يشير خبراء آخرون إلى أن نقطة التحوّل لم تصل بعد، وقد لا تصل قبل فترة طويلة.
بدوره، رأى معزّ عجمي -من شركة الاستشارات وتدقيق الحسابات "أرنست ويونغ"- أن فكرة تراجع مفاجئ ونهائي للطلب على النفط، هي مجرّد "خيال علمي". ويتوقّع تعافي الطلب بشكل بطيء، إذا تسبّب فيروس كورونا المستجدّ بإضعاف الاقتصاد العالمي.
ويرجّح أن يتسبّب هذا الضعف بإبطاء عملية الانتقال إلى مصادر الوقود الصديقة للبيئة. وقال: إن "مواجهة الوقود الأحفوري، الذي لا يزال يشكّل اليوم نحو 80 بالمئة من الاستهلاك العالمي الأساس، لمنافسة حقيقية (من مصادر أخرى للطاقة) ستستغرق وقتًا".
في الأثناء ذاتها، قد تواجه صناعة النفط تحدّيات تتعلّق بالتمويل. وتشير المحلّلة لدى منظّمة "أويل تشينج إنترناشونال"، برونوين تاكر، إلى أن القطاع يواجه حاليًا ضغوطًا من المستثمرين. ورأت أنّه بعد "موجة كبيرة من القيود على الفحم، وبعض القيود على النفط والغاز، تبدو مخاطر الاستثمار في النفط والغاز حاليًا ملحوظة أكثر".