المقالاترئيسيةروسيا وأوكرانياسلايدر الرئيسيةغازمقالات الغازمقالات النفطنفط

الهند لا تتخلى عن النفط الروسي.. بل تعيد تنظيم سلسلة التوريد (مقال)

فيلينا تشاكاروفا* – ترجمة: نوار صبح

اقرأ في هذا المقال

  • مصافي التكرير في نيودلهي لا تقطع علاقاتها مع روسيا بل تعيد تصميم سلسلة التوريد.
  • تدفقات الوقود المكرر المصنوع من النفط الروسي تستمر إلى أسواق الاتحاد الأوروبي.
  • النفط الروسي يظل أرخص بكثير من البدائل الشرق أوسطية.
  • انخفاض حجم صادرات النفط الروسية إلى الهند سيكون على الأرجح مؤقتًا.

من الصعب أن تتخلّى الهند عن النفط الروسي، لكنها تعيد تنظيم سلسلة التوريد بما يخدم مصالحها؛ إذ يشهد قطاع الطاقة في البلاد أحد أهم تحولاته منذ عقود.

وفي ظل العقوبات الأميركية الثانوية المتزايدة، لا تتخلى نيودلهي عن موسكو، بل تعيد تشكيل هياكل التمويل، والشراكات التجارية التي تسمح بوصول الخام الروسي بأسعار مخفضة إلى ثالث أكبر مستهلك للنفط في العالم.

والنتيجة ليست انهيارًا للتجارة، بل إعادة هيكلة لسلسلة إمداد تتسم بالشفافية والمرونة المتزايدة؛ ما يعكس حوافز السوق القائمة وعزم الهند الجيوسياسي على الحفاظ على استقلالها الإستراتيجي.

ويُعد التحول في الأحجام كبيرًا ولكنه ليس حاسمًا؛ فقد استوردت الهند رقمًا قياسيًا بلغ 2.1 مليون برميل يوميًا من النفط الروسي في يونيو/حزيران 2025، وهو ما يمثل نحو 45% من إجمالي وارداتها، ويمثل أكبر إعادة توزيع لتدفقات تجارة النفط الخام العالمية منذ الحظر الأوروبي.

انخفاض شحنات النفط الروسية

بحلول ديسمبر/كانون الأول الجاري، انخفضت شحنات النفط الروسية إلى ما بين مليون و1.2 مليون برميل يوميًا مع انتهاء العقود التي كانت سارية قبل فرض العقوبات.

وتشير التوقعات لشهر يناير/كانون الثاني 2026 إلى انخفاض حاد إلى نحو 600 ألف برميل يوميًا، وهو أدنى مستوى منذ أوائل عام 2022، ولكنه لا يزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل الحرب، عندما كانت الشحنات الروسية تتراوح بين 250 ألفًا و350 ألف برميل يوميًا.

وحسبما حذرنا في أثناء تغطيتنا لهذا الموضوع، فإن هذا يُعدّ إعادة تقييم، وليس تراجعًا.

ناقلة نفط ترفع العلم الروسي في مضيق البوسفور بتركيا
ناقلة نفط ترفع العلم الروسي بمضيق البوسفور في تركيا - الصورة من رويترز

الصعوبات في نقل النفط الروسي

تكشف توجهات السوق الكامنة وراء هذا التحول عن تزايد صعوبات نقل النفط الروسي في ظل نظام العقوبات المشددة.

فقد استهدفت الولايات المتحدة شركات روسنفط ولوك أويل وسوفكومفلوت وعشرات الوسطاء، ما أجبر التجار والمصافي على إعادة النظر في هيكلية مشترياتهم.

ونتيجة لذلك، اتسع الفارق السعري على خام الأورال بشكل كبير. وتضاعف الفارق بين سعر خام الأورال وخام برنت بعد فرض العقوبات الجديدة؛ ما أدى إلى انخفاض سعر خام الأورال إلى نحو 25.80 دولارًا للبرميل، ودفع أسعاره الفورية إلى نحو 38.28 دولارًا للبرميل.

وبالنسبة لخام إسبو، فقد جرى تداوله بالقرب من 52.36 دولارًا للبرميل، وهو انخفاض كبير عن مستويات منتصف العام.

ورغم هذه التحركات السعرية، فقد زادت إيرادات الصادرات الروسية؛ إذ ارتفع مؤشر بلومبرغ لمتوسط ​​الإيرادات على مدى 4 أسابيع بنسبة 1% فقط على الرغم من الشحنات الفعلية القياسية.

وبلغ عدد ناقلات النفط المحملة في المواني الروسية 38 ناقلة خلال الأسبوع المنتهي 7 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وهو حجم غير مسبوق في حقبة ما بعد عام 2022.

وبالنظر إلى أن العديد منها غير قادر على التفريغ؛ ما يحولها إلى وحدات تخزين عائمة ويُسبّب تراكمًا كبيرًا للنفط الروسي غير المبيع في عرض البحر.

من جانبها، تستجيب الهند بمرونة تشغيلية بدلًا من الانحياز السياسي؛ فمصافي التكرير في نيودلهي لا تقطع علاقاتها مع روسيا، بل تعيد تصميم سلسلة التوريد.

خلال الشهرين الماضيين، سجلت المواني الهندية وصول موردين غير معروفين سابقًا، مثل (إيستمبلكس ستريم إف زد إي) Eastimplex Stream FZE و(غريويل هب إف زد إي) Grewale Hub FZE و(تينديل سوليوشنز إف زد إي) Tyndale Solutions FZE.

ويُعد جميع هؤلاء الموردين مسجلين في مناطق التجارة الحرة في الإمارات العربية المتحدة المعروفة بمتطلبات الإفصاح المحدودة.

ويشير بروزهم المفاجئ إلى ظهور جيل جديد من الوسطاء غير الخاضعين للعقوبات، القادرين على مناولة الشحنات الروسية خارج قنوات الامتثال الرسمية.

ويتوازى هذا التوجه مع تطور الخدمات اللوجستية غير الرسمية للغاز المسال في الصين؛ حيث تقوم ناقلات مثل (سي سي إتش غاز) المرتبطة بمنشآت الغاز المسال الروسية الخاضعة للعقوبات، بعمليات نقل من سفينة إلى أخرى قبالة سواحل ماليزيا، لتوصيل الشحنات إلى الصين رغم تصنيفها من قبل الولايات المتحدة.

وتعتمد مصافي التكرير الهندية بشكل متزايد نماذج مماثلة للنفط الخام.

قطاع التكرير في الهند

يشهد قطاع التكرير في الهند تباينًا ملحوظًا، إذ خفضت شركات التكرير المملوكة للدولة، مثل إنديان أويل كوربوريشن (Indian Oil Corporation) وشركة بهارات بتروليوم (BPCL) وشركة هندوستان بتروليوم (HPCL)، اعتمادها على النفط الروسي لتحقيق التوازن بين المتطلبات التجارية والاعتبارات الدبلوماسية.

وقد زادت هذه الشركات مشترياتها من أنواع النفط الشرق أوسطية، حتى بأسعار أعلى، للحفاظ على علاقات جيدة مع واشنطن.

في المقابل، تستفيد شركات التكرير الخاصة، ولا سيما ريلاينس إندستريز (Reliance Industries) ونايارا إنرجي (Nayara Energy)، من الخصومات الكبيرة وفروقات أسعار التكرير.

وتعتمد هذه الشركات بشكل كبير على عمليات النقل البحري وناقلات النفط ذات هياكل الملكية غير الشفافة؛ ما يمكّنها من الحفاظ على تدفقات النفط الروسي مع تجنب مخاطر العقوبات المباشرة.

وتسهم الشركات المذكورة أعلاه بشكل غير مباشر في استقرار الطاقة في أوروبا، حيث تستمر تدفقات الوقود المكرر المصنوع من النفط الروسي إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، حيث تبقى القيود المفروضة على المنتجات المكررة أقل صرامة من حظر النفط الخام.

وعلى الرغم من إعادة الهيكلة هذه؛ فإن الهند لا تستبدل موردين بديلين بروسيا؛ فقد زادت الواردات من الولايات المتحدة بشكل ملحوظ، مدعومةً بزيادة الإنتاج وتحسن اقتصاديات الشحن.

من جهة أخرى، يجري تقييم غايانا والبرازيل بشكل فعّال في إطار إستراتيجية الهند لتنويع مصادرها، على الرغم من أن العوائق اللوجستية ومحدودية المواني لا تزالان تحد من حجم الإنتاج.

وتستجيب مصافي التكرير للارتفاع الحاد في أسعار الشحن -بوصفه نتيجةً مباشرةً للعقوبات- بتعديل جداول الشراء والبحث الحثيث عن سفن غير مخصصة.

وحتى بعد احتساب أقساط التأمين، وتغيير مسارات الشحن، وارتفاع تكلفة الشحن، يظل النفط الروسي أرخص بكثير من البدائل الشرق أوسطية. لم يتغير المنطق الاقتصادي.

السياسة الخارجية الهندية

أصبحت السياسة الخارجية الهندية أكثر حزمًا وتوجهًا نحو المعاملات، وتواصل واشنطن الضغط على نيودلهي لخفض مشترياتها من النفط الروسي بشكل كبير -أو حتى إيقافها تمامًا-.

في المقابل، فإن تصعيد ترمب للتعرفات الجمركية في أغسطس/آب الماضي، الذي رفع الرسوم على البضائع الهندية إلى 50%، قد قلل من استعداد الهند لتلبية المطالب الأميركية دون مقابل إستراتيجي واضح.

ويُقلل فشل إبرام اتفاقية تجارية شاملة بين الولايات المتحدة والهند من حافز نيودلهي للتخلي طواعيةً عن النفط الروسي المخفّض.

فبالنسبة لنيودلهي، يجب أن تُقابل التنازلات بمنافع، وهو ما لا يحدث حاليًا.

بدورها، تبذل موسكو قصارى جهدها للحفاظ على أهم علاقاتها في مجال الطاقة خارج الصين.

وأسفرت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى نيودلهي، في ديسمبر/كانون الأول الجاري، عن توقيع نحو 30 اتفاقية ثنائية في مجالات الطاقة والأمن والخدمات اللوجستية والتمويل والتعاون النووي والإعلام. وأكد الجانبان مجددًا التزامهما بتسوية المعاملات بالعملة المحلية، التي تُمثل الآن نسبة استثنائية تبلغ 96% من التجارة الثنائية.

وقدّمت روسيا ضمانات بإمدادات وقود متواصلة، مؤكدةً اعتمادها على الهند بصفتها مصدرًا محوريًا لإيرادات العملات الصعبة. وقد أبرزت مظاهر استقبال بوتين -من تكريمات رسمية كاملة وبروتوكولات مطولة وتغطية إعلامية منسقة- نية الهند الحفاظ على علاقات إستراتيجية مستقرة مع روسيا رغم الضغوط الغربية.

ويتفق المشاركون في السوق عمومًا على أن انخفاض حجم صادرات النفط الروسية إلى الهند سيكون على الأرجح مؤقتًا.

ويشير الجمع بين الوسطاء الجدد، ونماذج الخدمات اللوجستية المتطورة، وتحسين قنوات تسوية الروبية مقابل الروبل، والميزة السعرية الهائلة للنفط الروسي، إلى انتعاش في التدفقات بعد الانخفاض الناجم عن العقوبات في أوائل عام 2026.

وحتى عند 600 ألف برميل يوميًا، ستظل روسيا ثاني أكبر مورد للهند؛ وهو وضع من غير المرجّح أن يتغير ما لم ينهَر الفارق الاقتصادي.

مصفاة نفط بمدينة غواهاتي في الهند
مصفاة نفط بمدينة غواهاتي في الهند - الصورة من وكالة الصحافة الفرنسية

"تراجع رويترز".. لماذا ترتفع واردات الهند من النفط الروسي مجددًا؟

بعد أيام قليلة من تقرير "رويترز" الواثق بأن الهند تستعد لخفض وارداتها من النفط الروسي أو حتى رفضها تمامًا تحت ضغط أميركي متزايد؛ اضطرت الوكالة إلى تصحيح روايتها.

وتُظهر بيانات جديدة من شركة كبلر (Kpler) أن واردات الهند من النفط الروسي لا تتراجع، بل تتسارع. ووفقًا لأحدث التوقعات، سترتفع الشحنات الروسية إلى الهند إلى 1.85 مليون برميل يوميًا في ديسمبر/كانون الأول الجاري، متجاوزةً قليلًا مستوى نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم البالغ 1.83 مليون برميل يوميًا، ومسجلةً أعلى مستوى لها في 6 أشهر.

وتُناقض هذه الزيادة التقارير السابقة، وتكشف عن العوامل الهيكلية العميقة التي لا تزال تُقيّد الهند بالنفط الروسي بأسعار مُخفضة، على الرغم من العقوبات والرسوم الجمركية والضغوط الدبلوماسية المكثفة من واشنطن.

بالمثل، فإن الرقم الرئيس -1.85 مليون برميل يوميًا- لا يُظهر سوى جزء من الحقيقة.

ويُمثل ديسمبر/كانون الأول الجاري الشهر الثالث على التوالي من ارتفاع الواردات؛ ما يضع الهند مرة أخرى بالقرب من ذروة الرقم القياسي المُسجل في يونيو/حزيران 2025 البالغ 2.10 مليون برميل يوميًا.

وتُظهر عودة الهند إلى هذه الكميات الكبيرة من النفط الخام، بالتزامن مع تشديد واشنطن للعقوبات، جاذبية النفط الروسي تجاريًا، والقصور المستمر في تطبيق العقوبات الغربية.

وقد تغيرت جغرافية هذه التدفقات، إذ تُفرغ غالبية واردات ديسمبر/كانون الأول الجاري في ميناء فادينار، الذي يخدم بشكل أساسي مصفاة شركة نايارا إنرجي.

ومن المتوقع أن تصل الشحنات إلى فادينار هذا الشهر إلى 658 ألف برميل يوميًا، أي أعلى بكثير من شحنات نوفمبر البالغة 561 ألف برميل يوميًا، وتفوق بكثير القدرة الإنتاجية الاسمية للمصفاة البالغة 405 آلاف برميل يوميًا.

وهذا يدل على أمرين: أولًا: أن شركة نايارا تستقبل كميات من النفط الخام تفوق قدرتها على التكرير الفوري، ما يُشير إلى استعمال قنوات التخزين وإعادة التصدير؛ ثانيًا: أن الميناء يُصبح مركزًا محوريًا لنظام الخدمات اللوجستية الجديد الذي يدعم تدفقات النفط الروسي إلى الهند.

وتجاوزت أحجام ميناء فادينار الآن متوسط ​​هذا العام بأكثر من 50%، ما يسلط الضوء على الدور المحوري للبنية التحتية بالحفاظ على استمرارية التجارة في ظل ضغوط العقوبات.

لكن هذا التوجه لا يظهر في ميناء سيكا، الذي يخدم مجمع جامناغار الضخم التابع لشركة ريلاينس إندستريز، الذي تبلغ طاقته الإنتاجية 1.24 مليون برميل يوميًا.

وخفضت ريلاينس بشكل حاد وارداتها من النفط الروسي إلى نحو 293 ألف برميل يوميًا في ديسمبر/كانون الأول الجاري، بانخفاض عن 552 ألف برميل يوميًا في نوفمبر/تشرين الثاني، وهو أقل بكثير من ذروة يونيو/حزيران المنصرم البالغة 826 ألف برميل يوميًا.

وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، أعلنت ريلاينس رسميًا أن مصفاة جامناغار ستتوقف عن استقبال النفط الروسي بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على شركتي لوك أويل (Lukoil) وروسنفط (Rosneft).

وبدأت المصفاة بالتحول إلى استعمال النفط الخام غير الروسي في الأول من ديسمبر/كانون الأول الجاري. ويؤكد هذا التغيير مدى حضور ريلاينس العالمي، ورغبتها في الحفاظ على وصولها غير المقيد إلى الأسواق الغربية، وحساسيتها لمخاطر العقوبات الثانوية؛ وهو وضع يختلف جوهريًا عن وضع شركة نايارا إنرجي.

من ناحية ثانية، حتى مع تراجع شركة ريلاينس، تتدخل شركات التكرير المملوكة للدولة في الهند.

وبحسب شركة كبلر، استحوذت الكيانات الحكومية على ما يقارب 904 آلاف برميل يوميًا من الواردات الروسية في ديسمبر/كانون الأول الجاري، وهو تحولٌ لافتٌ يُضعف الادّعاءات بأن الهند تنحاز لحملة الضغط التي تشنّها واشنطن.

وتعكس مشاركة الدولة حسابات نيودلهي الإستراتيجية؛ إذ تستطيع شركات التكرير الوطنية استيعاب المخاطر الجيوسياسية بسهولة أكبر من الشركات الخاصة، وإن قراراتها الشرائية مرتبطةٌ بشكل مباشر بالسياسة الحكومية لا بتقلبات السوق.

وتتناقض هذه البيانات مع رواية "رويترز" الأخيرة بأن الهند تستعد للتخلي عن النفط الروسي.

فبدلًا من الانخفاض، ارتفعت الواردات لـ3 أشهر متتالية، وتقترب الآن من مستويات تتوافق مع ذروة استهلاك الهند في زمن الحرب.

وينشأ هذا التناقض من اعتماد العديد من وسائل الإعلام الغربية على افتراضات سياسية مستقبلية بدلًا من الحقائق التجارية الناشئة.

مصفاة نفط تديرها شركة بهارات بتروليوم بمدينة مومباي في الهند
مصفاة نفط تديرها شركة بهارات بتروليوم بمدينة مومباي في الهند - الصورة من بلومبرغ

الهند خفضت مشترياتها مؤقتًا

خفّضت الهند مشترياتها مؤقتًا بعد أن فرضت إدارة ترمب رسومًا جمركية عقابية بنسبة 25% على مشتريات النفط الروسي؛ ما رفع إجمالي تعرض الهند للرسوم الجمركية إلى 50%، وبعد أن فرضت واشنطن عقوبات على شركتي لوك أويل وروسنفط في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ولم تُعير هذه الصدمات السياسية حسابات الطاقة الأساسية في الهند، بل دفعت إلى توقف مؤقت ريثما أعادت شركات التكرير تنظيم عملياتها اللوجستية، وأعادت التفاوض على الخصومات، وحوّلت عمليات الشراء بين القطاع الخاص والعام والوسطاء.

ويبدو أن نقطة التحول الحقيقية كانت زيارة الرئيس فلاديمير بوتين الرسمية إلى الهند، التي أعادت ضبط التوقعات داخل النظام الهندي، ودفعت شركات التكرير إلى إعادة تقييم المخاطر والتسعير والأولويات الإستراتيجية.

وأسفرت الزيارة عن نحو 30 اتفاقية ثنائية، وعززت حصول الهند على أسعار روسية تفضيلية، وأكدت مجددًا التزام موسكو بـ"إمدادات وقود متواصلة" رغم العقوبات.

وبعد أيام من الزيارة، أكّد المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف، أن الهند "تشتري موارد الطاقة حيثما يكون ذلك مربحًا" وستواصل القيام بذلك بصفتها دولة ذات سيادة.

وفسّر المحللون في موسكو ودلهي هذا على أنه تأكيد ضمني على أن العلاقة الثنائية في مجال الطاقة لا تزال متينة هيكليًا.

ويعكس الارتفاع المتجدد في الواردات هذا المنطق تحديدًا؛ إذ ترى شركات التكرير الهندية، خصوصًا تلك التي لديها انكشاف محدود على أسواق الائتمان والتصدير الغربية، أن النفط الروسي ذو فائدة كبيرة يصعب التخلي عنها.

وحتى في ظل علاوات الشحن المدفوعة بالعقوبات، لا يزال خام الأورال وخام إسبو يُباعان بخصم كبير مقارنةً بأنواع النفط الخام في الشرق الأوسط.

فجوات سعرية قياسية

تواجه روسيا فجوات سعرية قياسية تتراوح بين 25 و30 دولارًا أميركيًا دون سعر خام برنت، وتكافح لتصريف النفط الخام بسبب العقوبات؛ ما يحفزها بشدة على إبقاء الأسعار منخفضة والكميات مرتفعة.

في المقابل، لدى الهند حافز قوي لاقتناص هذه الفرصة.

لذا، فإن تحول نبرة "رويترز" ليس تصحيحًا للحقائق بقدر ما هو إقرار بالأسس الراسخة؛ فأمن الطاقة في الهند، واقتصادات التكرير، واستقلالها الجيوسياسي لا تزال تتفوق على الضغوط الأميركية.

وتؤكد البيانات ما كان المنطق التجاري يمليه بالفعل: قد تُعدّل الهند قنوات شرائها، أو تُبدّل بين المشترين من القطاعين الخاص والعام، أو تُقلّص وارداتها مؤقتًا في ظل صدمات العقوبات، لكنها لن تتخلى طواعيةً عن فرصة سوقية تُحقق لها مكاسب اقتصادية وإستراتيجية.

إزاء ذلك، فإن عودة الإنتاج إلى 1.85 مليون برميل يوميًا ليست حالة شاذة، بل هي عودة إلى الوضع الطبيعي.

عودة الخصومات.. مصافي التكرير الهندية تعود بهدوء إلى النفط الروسي

يُسلط تطور جديد في قطاع الطاقة الهندي الضوء مجددًا على متانة النفط الروسي بالسوق الهندية، حتى في ظل ضغوط العقوبات الأميركية المتزايدة.

ووفقًا لوكالة بلومبرغ، استأنفت 4 من أكبر 7 مصافي تكرير في الهند شراء أنواع غير خاضعة للعقوبات من النفط الروسي، مُعاكسة بذلك التراجع المؤقت الذي فسّرته وسائل الإعلام الغربية على أنه مؤشر على تقارب الهند مع واشنطن.

ويعود سبب هذا العودة إلى عامل محفز مألوف: الخصومات الكبيرة التي لا يمكن للهند تجاهلها اقتصاديًا.

واشترت شركة إنديان أويل المملوكة للدولة وشركة بهارات بتروليوم -وهما ركيزتان أساسيتان في قطاع التكرير الهندي- ما يقرب من 10 شحنات في الأيام الأخيرة، بما في ذلك كميات من خام الأورال، وفقًا لمصادر مطلعة على سلسلة التوريد.

وتسعى شركة هندوستان بتروليوم الآن إلى شراء شحنات لتحميلها في يناير/كانون الثاني المقبل، في حين واصلت شركة نايارا إنرجي، المملوكة جزئيًا لشركة روسنفط، عمليات الشراء دون انقطاع.

وتُشير تقديرات شركة كبلر إلى أن هذه المصافي الـ4 ستُسهم مجتمعةً بأكثر من 60% من واردات الهند من النفط الخام في عام 2025، ما يُؤكد تأثيرها الحاسم في رسم مسار سياسة الطاقة في البلاد.

والعامل المشترك الذي يُحرك هذا الطلب المُتجدد هو السعر.

ويُفيد تجار هنود بأن سعر النفط الروسي يُتداول حاليًا بين 40 و45 دولارًا للبرميل، وهو أقل بكثير من أسعار نفط الشرق الأوسط، ويُعد مُخفضًا بشكل ملحوظ حتى مُقارنةً بأدنى مستوياته خلال مدة العقوبات. عند هذا النطاق السعري، تضمن البراميل الروسية فعليًا هوامش ربح عالية في عمليات التكرير، ولا سيما للشركات التي تُشغل مصافي كبيرة ومعقدة مُصممة خصيصًا لمعالجة أنواع النفط ثقيل ومتوسط ​​الحموضة. المنطق الاقتصادي، وليس الجغرافيا السياسية، هو ما يُفسر هذا العودة المُفاجئة.

وتُعدّ هذه الخطوة لافتةً للنظر، ولا سيما في ظلّ الموقف البارز الذي اتخذته شركة ريلاينس إندستريز، التي كانت سابقًا أكبر مستورد منفرد للنفط الروسي.

فقد علّقت ريلاينس عمليات الشراء بالكامل، وأوقفت استلام النفط بموجب عقد التوريد طويل الأجل مع شركة روسنفط، الذي تبلغ قيمته نحو 500 ألف برميل يوميًا.

وتشير بيانات شركة كبلر إلى أن آخر شحنة من ريلاينس بموجب العقد من المقرر وصولها في 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري، دون وجود أي شحنات أخرى مُخطط لها.

من ناحيتهم، يحذر المحللون من احتمال وجود شحنات إضافية لا تزال في طريقها، لكن الرسالة واضحة: ريلاينس غير مستعدة للمخاطرة بتعرّضها لعقوبات ثانوية أو تعريض وصولها إلى الأسواق الغربية للخطر.

ويكشف التباين بين ريلاينس وبقية قطاع التكرير في الهند عن ديناميكية هيكلية بالغة الأهمية، إذ تعمل شركات التكرير المملوكة للدولة، والشركات المرتبطة جزئيًا بروسيا مثل نايارا، وفقًا لمعايير مخاطر مختلفة عن تلك التي تعمل بها التكتلات الخاصة المتكاملة عالميًا.

وتستطيع شركات إنديان أويل وهندوستان بتروليوم وبهارات بتروليوم ونايارا استيعاب المخاطر الجيوسياسية بسهولة أكبر، كما أنها أكثر توافقًا مع أهداف الحكومة المتعلقة بأمن الطاقة.

على النقيض من ذلك، فإن الاعتماد على روسيا مُعرَّض لأسواق رأس المال الغربية، ويعتمد على صادرات المنتجات العالمية، ومن ثم فهو أكثر عرضةً لإجراءات العقوبات.

ويسمح هذا التقسيم للهند بالحفاظ على مستويات عالية من استيراد النفط الروسي حتى عندما يُقلِّص أحد كبار المستوردين وارداته.

بالمثل، تُظهر صورة الواردات الأوسع نطاقًا بعض التعديل التنازلي.

فقد استوردت الهند أكثر من مليوني برميل يوميًا من النفط الروسي في ذروة يونيو/حزيران 2025. بحلول ديسمبر/كانون الأول الجاري، وعلى الرغم من تجدد عمليات الشراء من المصافي المملوكة للدولة، من المتوقع أن تنخفض الواردات إلى نحو 1.3 مليون برميل يوميًا، مع توقعات بمزيد من الانخفاض في يناير/كانون الثاني المقبل.

ويعكس هذا الوضع القيود المتعلقة بالعقوبات وتغير إستراتيجيات الشراء، ولكنه يُخفي مرونة الإمدادات الروسية ضمن مزيج الطاقة الهندي.

فحتى عند 1.3 مليون برميل يوميًا، تظل روسيا من أكبر موردي الهند بفارق كبير.

ويكشف هذا التطور عن حقيقة مهمة: لا تستطيع واشنطن التأثير في حسابات الطاقة الهندية إلا بشكل طفيف. لا يمكنها أن تتجاوز الميزة السعرية الأساسية التي يوفرها النفط الروسي المخفض، ولا يمكنها أن تفرض إستراتيجيات الشراء على الشركات ذات هياكل الملكية المتنوعة، والتعرضات الجيوسياسية المختلفة، والحوافز التجارية المتباينة.

وقد أعاد قطاع التكرير في الهند توزيع المخاطر فقط.

ويوضح الجدول التالي، من إعداد منصة الطاقة المتخصصة، أحدث البيانات والإحصاءات المتاحة بشأن تجارة النفط بين روسيا والهند:

النفط الروسي

التداعيات الجيوسياسية

تعكس إعادة هيكلة واردات الهند من النفط الروسي تحولًا أوسع نطاقًا في نظام الطاقة العالمي. تستطيع الولايات المتحدة رفع تكلفة معاملات الهند مع روسيا، لكنها لا تستطيع إجبارها على الامتثال دون تعريض شراكة المحيطين الهندي والهادئ، التي تُشكل أساس إستراتيجيتها طويلة الأمد ضد الصين، للخطر.

في الوقت نفسه، أصبحت روسيا تعتمد هيكليًا على وصول الهند إلى السوق؛ ما يمنح نيودلهي نفوذًا غير متكافئ في مفاوضات الدفاع والطاقة النووية والتكنولوجيا.

ويشير انتشار الوسطاء غير الشفافين وأساطيل النفط السرية إلى انقسام متزايد في أسواق النفط العالمية، حيث يتماشى أحد النظامين مع قوانين الامتثال الغربية، في حين يرتبط الآخر بشكل متزايد بمحور التنين والدب وشركائه العمليين، ويعمل عبر قنوات مالية ولوجستية بديلة.

وتقع الهند، حاليًا، في قلب هذه الأنظمة المتنافسة، وتشكل قدرتها على الموازنة مسار تدفقات النفط الروسي، وستشكل التوازن الإستراتيجي عبر أوراسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، والصراع الأوسع بين أميركا و"المحور الروسي الصيني" في المشهد الناشئ للحرب الباردة الثانية.

ويكشف الارتفاع المتجدد في واردات الهند من النفط الروسي عن ضعف هيكلية العقوبات الأميركية في نظام الطاقة متعدد الأقطاب.

وتشير نيودلهي إلى أنها لن تُخضِع أمنها الطاقي لتفضيلات واشنطن الجيوسياسية، ولا سيما في ظل سياسة أميركية قائمة على المصالح المتبادلة والرسوم الجمركية والتناقض الإستراتيجي.

ويؤكد ارتفاع مشتريات المصافي المملوكة للدولة استعداد القيادة الهندية لتحمل مسؤولية سياسية أكبر في الحفاظ على تدفقات النفط الروسي عندما يتراجع القطاع الخاص.

وبالنسبة لموسكو، فيؤكد هذا الانتعاش أن الهند لا تزال صمام أمان حيويًا للنفط الخام الخاضع للعقوبات، فهي ضرورية تجاريًا وجيوسياسيًا، في ظل سعي روسيا لتنويع مصادرها بعيدًا عن الأسواق الأوروبية.

وتكشف هذه المرحلة عن مدى سرعة تكيف الروايات الغربية مع الحقائق على أرض الواقع: فالهند لا تنأى بنفسها عن روسيا، بل تعيد ضبط إستراتيجيات الشراء للحفاظ على إمكان الوصول إلى النفط بأسعار مخفضة مع مواجهة الضغوط الأميركية.

وإذا بقيت الموازنة الاقتصادية مواتية، والعلاقة الجيوسياسية تضمن استقلالية إستراتيجية، فسيستمر تدفق النفط الروسي إلى الهند؛ ما يجعل محور الطاقة الروسي الهندي ركيزة أساسية في المشهد الصاعد للحرب الباردة الثانية.

وتؤكد عودة 4 شركات تكرير هندية كبرى إلى استيراد النفط الروسي محدودية إنفاذ العقوبات الأميركية، وعلى استمرار الحوافز الهيكلية التي تربط الهند بالطاقة الروسية.

وإذا تم تداول النفط الروسي بخصم كبير، وبقيت الهند أسرع مستهلك رئيس للنفط نموًا في العالم، فستواصل نيودلهي الموازنة بين مخاطر العقوبات والمزايا الاقتصادية.

ولا يعكس الانفصال بين شركة ريلاينس وشركات التكرير المملوكة للدولة تراجعًا في السياسة، بل تنويعًا للمخاطر السياسية والتجارية داخل منظومة التكرير الهندية.

ويُسبّب هذا الأمر معضلة لواشنطن؛ فممارسة المزيد من الضغط على الهند قد تُقوِّض شريكًا حيويًا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وفي الوقت نفسه، فإن التسامح مع مشتريات الهند يُضعف مصداقية العقوبات الأميركية المفروضة على موسكو.

بالنسبة لموسكو، يؤكد الطلب المتجدد أن الهند لا تزال منفذًا لا غنى عنه للنفط الخام الخاضع للعقوبات؛ ما يوفر لها الإيرادات والاستقرار الجيوسياسي.

وفي نهاية المطاف، يعزز هذا التطور الديناميكية المركزية لمشهد الحرب الباردة الثانية الناشئ: الهند لا تنحاز لأي طرف، بل تسعى إلى ترسيخ استقلالها الإستراتيجي، وبذلك تواصل إعادة تشكيل خريطة الطاقة العالمية.

فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.

*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق