فرص المعادن الأرضية النادرة في أفريقيا.. كيف تحمي القارة مواردها؟ (حوار)
أجرى الحوار - مي مجدي

تُمثّل المعادن الأرضية النادرة في أفريقيا بوابة محتملة لتعزيز الاقتصادات، وسط توقعات بأن تتحول عدّة دول -وفي مقدّمتها جنوب أفريقيا ومالاوي وتنزانيا وأنغولا- إلى مراكز إنتاج رئيسة، مع بدء الإنتاج التجاري بحلول 2027.
والعناصر الأرضية النادرة عبارة عن مجموعة من 17 عنصرًا تشكّل العمود الفقري لصناعات التقنيات النظيفة، بداية من توربينات الرياح والسيارات الكهربائية إلى الإلكترونيات، ووصفها بالندرة يرجع إلى صعوبة استخراجها وتعقيد عملية فصلها.
وفي هذا السياق، أجرت وحدة أبحاث الطاقة حوارًا مع رئيس شركة ستورمكرو كابيتال للاستشارات الصناعية (مقرّها تورنتو)، جون هيكاوي، الذي يمتلك خبرة تزيد على 20 عامًا في القطاع، ليكشف لنا عن الفرص والتحديات التي تواجه المعادن الأرضية النادرة في أفريقيا.
وأشار هيكاوي إلى أن القارة السمراء تمتلك بعض أعلى خامات المعادن النادرة جودة في العالم، لكن نجاحها يعتمد على مجموعة من الركائز، أبرزها بناء سلاسل توريد محلية قادرة على تحويل الخام إلى منتجات عالية القيمة.
وأكد هيكاوي أن الطريق نحو الاستفادة الحقيقية من الإمكانات يبدأ بالأساسيات: من الإنتاج، ثم تطوير الصناعة تدريجيًا.
وإلى نص الحوار..
بدايةً.. كيف تقيّمون إمكانات أفريقيا لتصبح مورّدًا عالميًا رئيسًا للمعادن الأرضية النادرة؟
تقريبًا، كل دولة تخبّئ في باطنها بعض رواسب المعادن الأرضية النادرة، وأفريقيا ليست استثناء، فهي قارة شاسعة تزخر بمعادن أخرى ثمينة، ومن الطبيعي أن تحتوي -أيضًا- على مخزون جيد من المعادن الأرضية النادرة.
ومثال واضح على ذلك: منجم ستينكامبسكرال (Steenkampskraal) في جنوب أفريقيا، فهو من أعلى الرواسب جودة على مستوى العالم، إلى جانب مشروع أمباسيندافا (Ampasindava) في مدغشقر، لكن التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد النوع المناسب من الرواسب.
برأيكم، ما الدول الأفريقية الأكثر جاهزية لجذب الاستثمارات في هذا القطاع؟ ولماذا؟
أستطيع القول، إن عوامل الجذب في القارة السمراء هي ذاتها في أيّ مكان آخر حول العالم.
فالشركات التي تستثمر مبالغ كبيرة في البنية التحتية تبحث عن الاستقرار، وضمان ملكيتها للمشروع لمدة طويلة، فضلًا عن توفير بيئة آمنة للعمل، دون مخاطر مفاجئة من الرسوم الجمركية أو خفض للأرباح، أو الاستيلاء الحكومي على المناجم.
بمعنى: أن الدول التي توفر الظروف التي تضمن حماية استثمارات الشركات وأرباحها، هي بالطبع الأكثر جاذبية.

ما التحديات الجوهرية التي قد تعوق نمو قطاع المعادن الأرضية النادرة في أفريقيا؟
تبقى المخاطر الرئيسة الكبرى المتعلقة بالتطوير مشابهة لما يحدث في أوروبا أو أميركا الجنوبية، حتى بافتراض تحديد مشروع مناسب، وأبرزها مدى استعداد المستثمرين لتمويل المشروع.
وحاليًا، يبدو أن قطاع المعادن الأرضية النادرة يعيش سباقًا؛ نتيجة قرار الإدارة الأميركية -الذي أراه متهورًا- التلويح بقطع العلاقات مع كبار مورّدي القطاع، وهم الشركات الصينية المملوكة للدولة.
وتلوح في الأفق مشكلة أخرى، تتمثل في بروز تقنيات منافسة ناشئة لمغناطيسات المعادن الأرضية النادرة.
فالمغناطيس المستعمل عادةً في محركات السيارات الكهربائية وفي توربينات الرياح ذات الدفع المباشر يتكون من الحديد والنيوديميوم -عنصر أرضي نادر- والبورون، مع إضافة الديسبروسيوم -عنصر أرضي نادر- لزيادة تحمُّله الحرارة، ويُشار إلى هذا النوع باسم مغناطيس "NdFeB".
غير أن الأبحاث الجارية اليوم تعمل لتطوير نوعين جديدين على الأقل من المغناطيسات، وقد يغيّران معادلة الطلب على مغناطيس "NdFeB"، وإن كان نجاح هذه الجهود غير مؤكد حتى الآن.
وهناك -أيضًا- توجُّه نحو ابتكار محركات جديدة للسيارات الكهربائية تعتمد على قدر أقل من مغناطيسات "NdFeB"، وربما تستغني عنها كلّيًا، ويعني ذلك لسوق المعادن الأرضية النادرة في أفريقيا وغيرها، تراجع الطلب على النيوديميوم والديسبروسيوم.
إلى أيّ مدى يمكن لأفريقيا الحدّ من الاعتماد على المعالجة في الخارج وتطوير سلاسل قيمة محلّية؟
تستهل رحلة المعادن الأرضية النادرة من باطن الأرض بعملية استخلاص المعادن من الخام، قبل أن تتجمع في هيئة مركز كيميائي، ثم تبدأ مرحلة فصل العناصر واحدًا تلو الآخر عبر الاستخلاص بالمذيبات، قبل إعادة تحويلها إلى أكاسيد نقية، وبعضها قابل للتسويق مباشرةً، في حين يخضع بعضها الآخر لعمليات كهروكيميائية لإنتاج المعادن النادرة.
بعد ذلك، يمكن دمج معدن أرضي نادر، مثل النيوديميوم، مع الحديد والفيربورون، لتكوين سبائك مغناطيسية، ثم تحويلها إلى كتلة مغناطيسية لتصبح حجر الأساس في المحركات الحديثة.
وما يلزم لتحقيق لذلك هو 3 عناصر: المعرفة والمال والوقت، فالمعرفة متوفرة اليوم خارج الصين ولم تعد عائقًا، والمال يمكن تأمينه فور تحديد الرواسب المناسبة، أمّا الوقت فمرهون بمدى اهتمام مالك المشروع والدعم الحكومي.
وتكمن الحكمة هنا في "المشي قبل الركض أو الطيران"، أي من الضروري على الدول الأفريقية أولًا تعلُّم استخراج المعادن لإنتاج مركز معدني موثوق، ثم إثبات القدرة على تحويله إلى مركز كيميائي، قبل المغامرة بإنفاق المال في صناعة المغناطيسات الجيدة.

كيف يمكن لأفريقيا حماية مواردها من المعادن الأرضية النادرة، مع الاستمرار في جذب الاستثمارات؟
التعدين بطبيعته مكلف ويستغرق وقتًا طويلًا، ويحتاج إلى الكثير من الدراسات لتحديد ما إذا كان المنجم المحتمل مجديًا اقتصاديًا.
ويشمل ذلك الحفر لتقدير حجم الرواسب، والعمل الميكانيكي على الخام لتحديد الطريقة الأمثل لطحنه قبل الاستخلاص، فضلًا عن التجارب الكيميائية لتحديد أفضل الظروف لاستخلاص المعادن.
ثم يأتي الدور على الدراسات البيئية لمعرفة كيفية التخلص من المخلّفات بأمان وبتكلفة معقولة، وهناك مناجم كبيرة ممولة من الصين متوقفة عن التطوير بسبب رفض المجتمع المحلي لطريقة التخلص من المخلّفات.
والاستثمار في التعدين محفوف بالمخاطر، ولا أحد يغامر إلّا إذا كانت العوائد مضمونة.
ولا يمكن نقل أيّ رواسب معدنية من نيجيريا -على سبيل المثال- إلى دولة أخرى، فإذا كان المنجم سيوفر 200 وظيفة، فمن الطبيعي أن يشغّل السكان المحليون النسبة الأكبر بعد تلقّي التدريب اللازم.
وبالنسبة للمعادن الأرضية النادرة، لا يتعلق النقص الحقيقي في الصناعات التحويلية بالمعرفة التقنية، بل بالكوادر المدرّبة، ودون هذه الكوادر أو بنية تحتية مناسبة، فلن يكون أمام شركات التعدين سوى تصدير خليط المُركّز الكيميائي لمعالجته في مكان آخر، إذ لا يمكن تسويقه إلّا بعد معالجته وتحويله إلى منتجات ذات قيمة.
وعند جذب الاستثمار الأجنبي، يجب الانتباه إلى مصدر التمويل وقدرة المستثمر على المعالجة النهائية.
باختصار، يوفر الاستثمار الأجنبي وظائف محلية ويعزز النمو الاقتصادي، وأفضل طريقة لتجاوز مجرد استخراج المعادن من الأرض وتوفير وظائف تقنية ذات قيمة أعلى هي تدريب الكوادر للمعالجة النهائية للمعادن، وهذا يتطلب تنسيقًا وتخطيطًا جيدًا كما حدث في أماكن أخرى.
كيف تؤثّر المنافسة بين الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتدفُّق الاستثمارات في أفريقيا؟
مستوى المنافسة يبدو متغيرًا يوميًا، ويُستدلّ على ذلك من قلة التفاصيل حول الاتفاق بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الصيني شي جين بينغ خلال اجتماعهما في كوريا الجنوبية.
وإذا توافرت الاستثمارات من الصين أو أميركا أو الاتحاد الأوروبي لبناء مشروعات في أفريقيا، فالقرار المتعلق باختيار حزمة الاستثمار المناسبة يجب أن يستند إلى حجم عمليات المعالجة وعدد الوظائف التقنية.
وربما تكون عمليات الاستخراج خطوة أولى لبناء اقتصاد قائم على الموارد، لكن الاقتصاد الحديث القائم على المعرفة والمهارة هو الهدف النهائي، ويجب على أفريقيا المطالبة بأن تكون وظائف هذه العمليات من نصيب سكانها، مع تخطيط التدريب والجدول الزمني المطلوب.
ولتحقيق التنمية الاقتصادية من قطاع المعادن الأرضية النادرة، يجب على الحكومات تمويل وتسريع تطوير المناجم الاقتصادية بدلًا من السعي وراء أفضل المناجم في العالم.
والبداية تكون ببيع المنتج الأساس، مثل تركيز المعادن الخام، لأيّ مشترٍ، بالتوازي، يجب تدريب الكوادر المحلية وتطوير التقنيات والمصانع لتحويل الخام إلى منتجات عالية القيمة محليًا.
وبعد بناء هذه المصانع، يمكن للحكومة توجيه جزء من الإنتاج للسوق المحلية، مع تكرار العملية تدريجيًا لتطوير سلسلة معالجة كاملة.
والأهم هو مراقبة الطلب على المنتجات التي تعاني من نقص المعروض؛ لأن بناء مناجم أو مصانع لمعالجة منتجات متوفرة ليس إستراتيجية ناجحة.

ما السيناريوهات المتوقعة بشأن المعادن الأرضية النادرة عالية الطلب، مثل النيوديميوم والبراسيوديميوم؟
يجب توخّي الحذر عند النظر إلى المعادن "عالية الطلب"؛ كونها هدفًا للتعدين.
لننظر إلى سوق السيارات الكهربائية العالمية، فإذا افترضنا أن جميع السيارات الخفيفة ومتوسطة الحجم أصبحت كهربائية تعمل بالبطاريات، فإن الطلب على النيوديميوم ليس خارج السيطرة.
فخلال العام الماضي، بلغ الإنتاج العالمي من أكسيد النيوديميوم نحو 63 ألف طن، ويمكن مضاعفة الإنتاج بغضّ النظر عن صناعة السيارات الكهربائية.
ويمكن لمنجم بايان أوبو (Bayan Obo) الصيني وحده تلبية الجزء الأكبر من هذا الطلب المتزايد، إذا ما توافرت سوق حقيقية، فالطلب موجود، وإمكان توفيره ليس لغزًا محيرًا.
إلى جانب ذلك، تُمثّل إضافة الديسبروسيوم للمغناطيسات ضرورة، وإلّا فإنها ستفقد فاعليتها عند ارتفاع حرارة محرك السيارة الكهربائية، وربما تتعرض للتلف.
غير أن التحديث يكمن في أن الديسبروسيوم عنصر أرضي نادر ثقيل، والعناصر الثقيلة أندر بطبيعتها من الخفيفة مثل النيوديميوم.
والعام الماضي، بلغ الإنتاج العالمي من أكسيد الديسبروسيوم قرابة 2800 طن؛ لذا نحتاج لمضاعفة هذا الإنتاج.
والسبب في سهولة إنتاج المعادن الأرضية النادرة الخفيفة نسبيًا يعود إلى وفرة المناجم التي تحتوي على نسبة عالية من هذه المعادن مقارنة بالثقيلة، لكن الاعتماد على هذه المناجم لتوفير كامل حاجتنا من الديسبروسيوم الثقيل سيؤدي إلى الإفراط في إنتاج النيوديميوم؛ ما قد يخفض الأسعار ويؤدي إلى إفلاس شركات التعدين.
لذلك، تحتاج الصناعة إلى مناجم تحتوي على معادن ثقيلة، مثل رواسب الطين الأيوني في جنوب الصين، وأيضًا في تشيلي والبرازيل ومدغشقر.
ومن وجهة نظري، يمثّل الديسبروسيوم والمعادن الأرضية النادرة الثقيلة هدفًا متوسط المدى للصناعة.
موضوعات متعلقة..
- مشروعات المعادن الأرضية النادرة في أفريقيا.. طفرة متوقعة بقيادة 4 دول
- قيود تصدير المعادن الحيوية في الصين لا تخدم السوق (تقرير)
- صناعة الرقائق الإلكترونية تنتظر اضطرابات من قيود الصين على المعادن النادرة (تقرير)
اقرأ أيضًا..
- السيارات الكهربائية والهجينة تشكل 45% من المبيعات العالمية.. وهذه أسباب تفوق الصين
- استثمارات الطاقة المتجددة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتجاوز 21 مليار دولار
- صناعة توربينات الغاز.. زخم عربي تقوده السعودية والجزائر (تقرير)





