أنسيات الطاقةالتقاريرتقارير النفطرئيسيةنفط

الصين تلتزم شكليًا بالعقوبات الأميركية.. وهذا حجم واردتها النفطية من إيران (تقرير)

أحمد بدر

تثير استجابة الصين للعقوبات الأميركية تساؤلات حول حدود استقلالها الاقتصادي والسياسي، في ظل العلاقات المعقّدة بين واشنطن وبكين، وتزايد توتر أسواق الطاقة العالمية؛ لذلك يرى مراقبون أن بكين أصبحت حريصة على حماية شركاتها الكبرى من أي تبعات مالية أو قانونية.

يقول مستشار تحرير منصة الطاقة المتخصصة، خبير اقتصادات الطاقة الدكتور أنس الحجي، إن سياسة بكين تجاه العقوبات الأميركية باتت أكثر وضوحًا خلال السنوات الأخيرة؛ إذ تُظهر انضباطًا صارمًا في تعامل الشركات الكبرى مع التعليمات الحكومية.

وأوضح أن الشركات الصينية الكبرى التي تتداول أسهمها في الأسواق الأميركية والأوروبية وتحصل على تمويل غربي، تتجنّب أي نشاط يُعرّضها للعقوبات؛ لأن الحكومة تجبرها على الالتزام الكامل بها، وهو ما يجعل استيراد النفط الإيراني يتم عبر مسارات غير مباشرة.

وأشار إلى أن المسألة لا تتعلق بالامتثال السياسي فقط، بل بالهياكل المالية لهذه الشركات التي تعتمد على البنوك الغربية؛ إذ لا ترغب بكين في خسارة هذا التمويل الحيوي أو تعريض شركاتها الكبرى لمخاطر تجميد أصولها أو منعها من التعامل المالي الدولي.

جاءت تلك التصريحات خلال حلقة جديدة من برنامج "أنسيات الطاقة"، الذي يقدمه أنس الحجي -أسبوعيًا- عبر مساحات منصة "إكس" (تويتر سابقًا)، بعنوان: "النفط بين ترمب وبوتين ومودي وجين بينغ".

مصير النفط الإيراني إلى الصين

أوضح أنس الحجي أن سياسة بكين النفطية تعتمد على مبدأ "الالتزام المباشر" بالعقوبات، موضحًا أن شركاتها الكبرى لا تشتري النفط الإيراني بشكل مباشر، ورغم ذلك؛ فإن البيانات الرسمية تُظهر أن بكين لا تستورد أي نفط من إيران، في حين أن الواقع مختلف تمامًا.

وبيّن أن واردات بكين الفعلية من إيران تبلغ نحو 1.3 مليون برميل يوميًا، لكنها تُسجَّل في الوثائق على أنها نفط ماليزي، بعد أن تُنقل الشحنات من ناقلات إيرانية إلى أخرى في المياه الماليزية، لتجنب أي دليل رسمي على مخالفة العقوبات الأميركية.

وأضاف أن الناقلات التي تتابعها الأقمار الصناعية تظهر بوضوح هذا التحايل المنظم؛ إذ يُنقَل النفط الإيراني إلى سفن أخرى ثم تسجيله مصدرًا من ماليزيا، رغم أن حجم الكميات المسجلة يفوق إجمالي إنتاج ماليزيا النفطي؛ ما يجعل اللعبة واضحة للخبراء والمحللين.

النفط الإيراني
إحدى ناقلات النفط الإيراني - أرشيفية

وأكد أنس الحجي أن الصين تستعمل هذه الحيلة كي تحافظ على موقف رسمي يمكن الدفاع عنه أمام واشنطن؛ فإذا واجهها ترمب مثلًا بسؤال حول استيراد النفط الإيراني، تستطيع بكين الردّ بأن بياناتها الرسمية لا تُظهر أي واردات مباشرة من طهران.

وأشار إلى أن بكين تتبنّى هذه الإستراتيجية لتفادي الإدانة القانونية؛ إذ لا يمكن لأي جهة أميركية إثبات أن شركاتها الكبرى اشترت النفط الإيراني مباشرة، وهو ما يجعل موقفها القانوني سليمًا ظاهريًا رغم استمرار تدفق الإمدادات.

وأوضح أن هناك نوعين من الشركات لدى بكين؛ الأولى شركات كبرى مرتبطة بالغرب وتلتزم بالعقوبات، والثانية مصافٍ مستقلة لا علاقة لها بالبنوك الغربية أو الأسواق الدولية، وتتحمّل مسؤولية التعامل مع النفط الإيراني والالتفاف على القيود المفروضة.

وبيّن الحجي أن هذه المصافي المستقلة، التي تعمل داخل الدولة الآسيوية بعيدًا عن التأثير المالي الغربي، تمثل القناة الأساسية لاستمرار تدفق النفط الإيراني؛ إذ تُبرم صفقات بعيدة عن الأنظمة البنكية الغربية، ولا يمكن للحكومة الأميركية الضغط عليها فعليًا.

اللعبة الروسية والهندية في مواجهة العقوبات

انتقل أنس الحجي للحديث عن مقارنة مهمة بين سياسات الصين والهند، مؤكدًا أن الأخيرة تتعامل بمرونة أكبر في تطبيق العقوبات؛ إذ تتجاهل القيود الأوروبية لكنها تلتزم التزامًا تامًا بالعقوبات الأميركية خوفًا من تبعاتها الاقتصادية.

وأوضح أن العقوبات الغربية المفروضة على السفن التي تنقل النفط الروسي لم تؤثر في الإمدادات المتجهة إلى الهند؛ إذ تستمر السفن بالوصول إلى المواني الهندية بشكل شبه يومي. أما بالنسبة إلى بكين؛ فإن تعاملها مع روسيا أكثر حذرًا؛ لضمان عدم تعريض شركاتها الكبرى للمساءلة.

وأشار إلى أن الهند أوقفت في السابق وارداتها من النفط الإيراني والفنزويلي فور تشديد العقوبات الأميركية، لكن تجارها استغلوا انشغال واشنطن بالصراعات في الشرق الأوسط لاستيراد شحنات مؤجلة من النفط الإيراني عبر ناقلات كانت متوقفة قرب السواحل.

واردات الهند من النفط

وبيّن أنس الحجي أن الهند تطبق ما وصفه بـ"لعبة الكراسي الموسيقية" في تعاملها مع النفط الروسي؛ إذ تتبادل الشركات الأدوار لتفادي ذكر أسمائها في قوائم العقوبات، في حين يظل تدفق النفط الروسي مستقرًا، كما تعتمد بكين على منهج أكثر تحفظًا وإدارة دقيقة للمخاطر.

وأكد أن الولايات المتحدة إذا شددت العقوبات على شركتي روسنفط ولوك أويل الروسيتين؛ فإن الهند ستواصل استيراد النفط الروسي من شركات أخرى لا يشملها الحظر؛ ما يجعل تأثير العقوبات محدودًا جدًا، في حين تبقى الصين أكثر التزامًا بالمظهر القانوني للعقوبات.

وأضاف أن هذه التكتيكات تجعل من المستحيل عمليًا تتبّع كل حركة نفطية؛ لأن الشركات الروسية تُعيد تصدير النفط عبر وسطاء أو ناقلات تابعة لشركات أخرى؛ ما يُبقي صادرات موسكو عند مستويات مستقرة رغم كل الضغوط الأميركية.

وشدد على أن الصين والهند تمثلان نموذجين متباينين في التعامل مع العقوبات؛ فالأولى تلتزم شكليًا وتلتف عمليًا، أما الثانية فتُظهر مرونة تكتيكية وفق اللحظة السياسية؛ ما يجعل سوق النفط العالمية تعيش حالة "كراسي موسيقية" دائمة بلا خاسر واضح.

انعكاسات العقوبات على تجارة الطاقة العالمية

أوضح أنس الحجي أن التزام الصين بالعقوبات الأميركية بصورة شكلية خلق توازنًا دقيقًا في سوق النفط؛ إذ تظل بكين قادرة على تلبية احتياجاتها دون تحدي واشنطن علنًا، مع الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط وروسيا.

وبيّن أن الولايات المتحدة تدرك هذا النمط، لكنها تغضّ الطرف عنه أحيانًا؛ حفاظًا على استقرار السوق؛ لأن معاقبة بكين فعليًا قد ترفع الأسعار عالميًا وتؤثر في معدلات التضخم الأميركية، وهو ما يُظهر تعقيد المعادلة الجيوسياسية للطاقة.

وأشار إلى أن تجربة فنزويلا تُعد مثالًا على هذا النمط؛ إذ توقفت الصين والهند عن استيراد النفط الفنزويلي فور فرض التعرفة الجمركية الإضافية من إدارة ترمب، لكنها عادت لاحقًا بطرق غير مباشرة عبر شركات جديدة وناقلات مختلفة.

النفط الفنزويلي

ولفت أنس الحجي إلى أن هذه التجارب تؤكد أن العقوبات لا توقف تدفق النفط فعليًا، بل تغيّر طرق نقله وملكيته وأسماء المتعاملين به، في حين تبقى الصين اللاعب الأكثر براعة في التوفيق بين الالتزام الرسمي والمصلحة التجارية.

وأكد أن بعض المحللين بالغوا في تقدير أثر العقوبات على روسيا، متوقعين تراجع الصادرات بمقدار مليون برميل يوميًا، لكن الواقع أثبت العكس تمامًا؛ إذ بقيت الكميات مستقرة تقريبًا بفضل الترتيبات التي ترتبها بكين ونيودلهي.

وأضاف أن بيانات 2022 أظهرت فشل التوقعات الغربية التي تحدثت عن انهيار صادرات النفط الروسي؛ إذ لم ينخفض سوى نحو 200 ألف برميل يوميًا فقط؛ ما يبرهن على محدودية تأثير العقوبات عندما تتعاون قوى كبرى مثل الصين والهند.

واختتم الحجي بالتأكيد على أن لعبة المصالح بين بكين وواشنطن وموسكو ستستمر طالما بقي النفط أداة ضغط سياسية، وأن الصين ستواصل الالتزام الشكلي بالعقوبات الأميركية مع الحفاظ على تدفق النفط الإيراني والروسي بطرق غير مباشرة.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

المصدر:

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق