المقالاترئيسيةسلايدر الرئيسيةغازمقالات الغازمقالات النفطنفط

إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا.. قصة 1.22 مليار دولار تجنيها موسكو (مقال)

فيلينا تشاكاروفا* – ترجمة: نوار صبح

اقرأ في هذا المقال

  • أوروبا لا تزال مُرتبطة بالطاقة الروسية أكثر مما يُقر به خطابها.
  • المجر وسلوفاكيا تُواصلان استيراد النفط الخام عبر خط أنابيب دروجبا بموجب إعفاءات رسمية.
  • مزيج الكهرباء في أوروبا يتجاوز نسبة 45% من الطاقة النظيفة في كثير من الأيام.
  • الهيدروكربونات الروسية لا تزال تتدفق عبر سلاسل التوريد العالمية.

يبدو أن تدفقات إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، مباشرة أو عبر طرف ثالث، تخضع لاعتبارات "الضرورات تبيح المحظورات" و"الغاية تبرر الوسيلة"، على ما يحاول الخطاب السياسي الأوروبي إظهاره.

في هذا الإطار، تُحب أوروبا التحدث بلغة الاستغناء عن موسكو، فقد حظرت النفط الروسي المنقول بحرًا، وتعهدت بإنهاء نقل الغاز عبر الأنابيب بحلول عام 2027، وتُعلن عمليات إعادة تغويز قياسية للغاز المسال وبناء الطاقات المتجددة.

وتُشير التدفقات التجارية إلى قصة أكثر غموضًا: فمن خلال الإعفاءات، والعقود القديمة، والمشتريات غير المباشرة، والتأمين البحري، لا تزال القارة مُرتبطة بإمدادات الطاقة الروسية أكثر مما يُقر به خطابها.

ويُعد هذا التناقض ليس مجرد هامش أخلاقي، بل هو سمة متأصلة لنظام الطاقة لما بعد عام 2022، الذي يُحافظ على إيرادات روسيا، ويُعقّد الدبلوماسية عبر الأطلسي، ويُعيد صياغة لعبة النفوذ بين موسكو ومشتريها.

تعامل أوروبا مع أوكرانيا وروسيا

تُموّل الحكومات الأوروبية أوكرانيا بالمال والأسلحة والتدريب، وحسبما تُشير صحيفة التايمز، لا يزال العديد من هذه الحكومات نفسها تُحوّل ما يقارب مليار جنيه إسترليني (1.22 مليار دولار) شهريًا إلى روسيا للحصول على الطاقة، وهو مبلغٌ تجاوز في العديد من العواصم دعمها التراكمي لكييف.

ويُعد الواقع الاقتصادي وراء هذه الأحداث أكثر تعقيدًا؛ فقد انخفضت مشتريات الاتحاد الأوروبي المباشرة من إمدادات الطاقة الروسية، مثل النفط والغاز والفحم، بنحو 90% عن مستويات ما قبل الغزو، لكن التدفقات المتبقية -خصوصًا الغاز- لا تزال عالقة.

بدورهما، تُواصل المجر وسلوفاكيا استيراد النفط الخام عبر خط أنابيب دروجبا بموجب إعفاءات رسمية. واستوردت فرنسا وبلجيكا وإسبانيا ودول أخرى كمياتٍ كبيرة من الغاز المسال الروسي أو غاز الأنابيب بموجب عقود مُلزمة تتطلب حظرًا على مستوى الاتحاد الأوروبي لرفعه دون اللجوء إلى التقاضي.

خط أنابيب النفط دروجبا بين المجر وروسيا
خط أنابيب النفط دروجبا بين المجر وروسيا - الصورة من رويترز

ولا تزال المملكة المتحدة، التي أوقفت الواردات المباشرة مُبكرًا، تتلقى منتجاتٍ مُكررة -خصوصًا وقود الطائرات- تُعالَج في الهند أو تركيا من النفط الخام الروسي، وهو طريقٌ غير مباشر لم يُغلق بالكامل بعد.

وقد عززت مؤشرات الأسعار هذا الثبات؛ حيث يشير المحللون إلى أن النفط الروسي المُسلّم إلى أوروبا الوسطى كان في بعض الأحيان أرخص بكثير من البدائل عبر خط أدريا الكرواتي، وهو فرق يُفسر استمرار تدفقات خطوط الأنابيب رغم الظروف السياسية المعاكسة.

وخلال الوقت نفسه، في تجارة الغاز المسال، يعني نفوذ مالكي السفن وشركات التأمين ومزوّدي الخدمات الأوروبيين أنه حتى عندما لا تكون الشحنات مُوجّهة إلى محطات الاتحاد الأوروبي؛ فإن البنية التحتية للشركات الأوروبية ما تزال تدعم آلية تصدير إمدادات الطاقة الروسية.

ومنذ مطلع عام 2022، نُقلت حصة كبيرة من شحنات الغاز المسال الروسي على ناقلات مملوكة أو مؤمّنة من لندن ومراكز أوروبية أخرى، ما يُذكّر بأن هيكل العقوبات يتوافق مع صرامة شبكاتها البحرية.

طمس أصول النفط

تزداد الصورة غموضًا -وأكثر أهمية من الناحية الجيوسياسية- بمجرد تحويل المكونات؛ حيث تُطمس عمليات التكرير أصول النفط.

ويمكن لبرميل من خام الأورال المُحمّل في محطة بريمورسك الروسية أن يُصبح وقودًا للطائرات في مصفاة جامناغار الهندية، ويصل إلى سلسلة توريد مطار هيثرو بصفته منتجًا "غير روسي" في العديد من الدول.

من ناحية ثانية، فإن انسحاب ألمانيا من مشروع غاز نورد ستريم لا يزال يعرضها لخطر الشحنات القادمة عبر فرنسا، التي قد تحتوي على محتوى روسي بكميات مختلطة.

ومن شأن كل طبقة معاملات إضافية أن تُضعف إمكان التتبع، وتُقلل فاعلية العقوبات، وتُوفر إيرادات للوسطاء الذين يسعون إلى استغلال ثغرات السياسات.

وبالنسبة لموسكو، فإن هذه التعاملات ليست مدة رخاء عام 2021، ولكنها توازن عملي.

وقد حافظت الخصومات المقدمة للمشترين الآسيويين، وصعود أسطول الشحن الموازي، والتمويل التجاري المبتكر على أحجام الصادرات حتى مع انخفاض الأسعار وتراجع المشترين الغربيين؛ حيث أصبحت مصافي التكرير الهندية، على وجه الخصوص، محورية.

ورغم ضجيج الرسوم الجمركية والضغوط الأميركية، لا يزال سلوكها الشرائي محكومًا بحسابات هامش الربح: فإذا بيعت البراميل الروسية بخصم، وتوافرت تكاليف الشحن والتأمين، سيستمر الشراء.

وتتقاطع هذه الحسابات مع الإستراتيجية الصناعية للهند؛ إذ يعتمد طموح نيودلهي في إزاحة أجزاء من قاعدة التصنيع الصينية على توفير طاقة بأسعار معقولة للقطاعات كثيفة استهلاك الطاقة والحرارة؛ ومن ثَم فإن الهيدروكربونات الرخيصة ليست انغماسًا تكتيكيًا، بل مدخلًا إستراتيجيًا.

وطالما ظل هذا الوضع قائمًا، سيتعين التفاوض على أجندة التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والهند حول متطلبات الطاقة الهندية، وليس ضدها.

خزانات الغاز في ميناء هامبورغ بألمانيا
خزانات الغاز بميناء هامبورغ في ألمانيا - الصورة من إنرجي مونيتور

تخزين الغاز في أوروبا

موقف أوروبا يتطور ولكنه محدود، حيث يوفر تخزين الغاز بنسبة تزيد على 90% هامشًا ماليًا لم يكن موجودًا في عام 2022.

وقد أدت عقود الغاز المسال الجديدة، والتدفقات النرويجية، وإعادة التغويز في شبه الجزيرة الأيبيرية، وترقيات الشبكات، إلى خفض القيمة القسرية لغاز خطوط الأنابيب الروسي.

ويمكن للاتحاد الأوروبي، على نحو معقول، أن يخفض الكمية المتبقية تدريجيًا بحلول عام 2027 إذا كان الطقس طبيعيًا، واستمر انخفاض الطلب في الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة، واستمرت مصادر الطاقة المتجددة والشبكات في التوسع.

ولكن "الخفض التدريجي" لا يعني توقف الواردات، فالمدة الانتقالية هي التي تتحكم في التطورات الجيوسياسية: فكل مسار لدرجات الحرارة في الشتاء.

إزاء ذلك؛ فإن كل توقف لمصفاة في روسيا بسبب تأخيرات الصيانة أو ضربات الطائرات المسيرة، وكل اجتماع لتحالف أوبك+ يُحدث فرقًا في التوازنات العالمية، يصبح اختبارًا لمرونة النظام ومصدرًا للدخل للجهات الفاعلة التي تتمتع بالقدرة الكافية على المراجحة بين التقلبات.

أزمة الوقود في روسيا

بالنسبة لإمدادات الطاقة الروسية، تُعَد الهشاشة المحلية الوجه الآخر للمرونة الخارجية.

فقد كشفت أزمة الوقود في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي -التي شملت تقنين الوقود في المحطات المستقلة، وأسعار الجملة القياسية، وقيود التصدير الطارئة- عن كيف حوّلت العقوبات المفروضة على المعدات والبرمجيات الصيانة الروتينية للمصافي إلى نقطة ضعف إستراتيجية.

ولا يزال بإمكان موسكو إعادة توجيه النفط الخام إلى آسيا، لكنها لا تستطيع بسهولة توفير قطع الغيار أو حماية جميع المصافي من الطائرات المسيرة بعيدة المدى.

وستتحمل الدولة فاتورة أكبر لـ"مثبطات" المصافي، ومقايضات الواردات عبر بيلاروسيا وقازاخستان، وتسريع الدفاعات حول العقد الحيوية، مراهنة على أرباح العملات الأجنبية لتحقيق الاستقرار المحلي.

ويُعد هذا الإنفاق معقولًا في ظل أسعار النفط في منتصف ستينيات الدولارات، لكنه يُضيّق الحيز المالي ويُعقّد دبلوماسية تحالف أوبك+: فكل تعهد بزيادة الإنتاج من أجل حماية التحالف يُخاطر بالاصطدام بضرورة الحفاظ على إمدادات المضخات الروسية محليًا.

ويُمثل التعديل المقترح لآلية تخفيض دعم الوقود في روسيا -برفع حدّ الدعم للبنزين من 10% إلى 20% والديزل من 20% إلى 30%- تحوّلًا كبيرًا في نهج الدولة في موازنة قدرة المستهلك على تحمل التكاليف مع إيرادات شركات النفط.

ومن خلال تخفيف هذا الحدّ، تسمح الحكومة لمصافي التكرير ببيع الوقود بأسعار أعلى في السوق المحلية قبل تعليق مدفوعات تخفيض الدعم، ما يُخفّف الضغط على القطاع في ظلّ العقوبات، وتعطل المصافي، وارتفاع تكاليف المعدات والخدمات اللوجستية.

وتُعد الأسعار الإرشادية لبنزين 92 أوكتان والديزل مُحدّدة على مسار تصاعدي، لتصل إلى 66,100 روبل/طن (696 دولارًا للطن) و62,600 روبل/طن (696 دولارًا للطن) على التوالي بحلول عام 2028؛ ما سيُرسّخ إطار الدعم عند مستوى أساسي مستقبلي أعلى تكلفة.

بالمثل، يُدمج وقود الطائرات في عملية إعادة التقييم الشاملة هذه: من المتوقع أن يرتفع سعره الإرشادي تحت تأثير المثبط من 64,700 روبل/طن في عام 2025 إلى 72,800 روبل (766 دولارًا للطن) في عام 2028، ما يُعزز دعم شركات الطيران الروسية ويُقلل من تقلبات تكاليف الطيران.

الأهم من ذلك، أن تمديد مُعامل "السفينة والشحنة والسعر والمخاطر" (في إس بي آر) VSPR إلى المدة 2027-2028 يُرسّخ الاعتراف بخصم الأورال-برنت؛ ما يُخفّض التزامات الدولة من خلال مواءمة التقديرات المحلية مع واقع الصادرات الروسية الفعلي.

وبالنسبة للموازنة الفيدرالية، يُترجم هذا إلى تدفقات متوقعة من الضرائب، متوقعة أن تبلغ 204 مليارات روبل في عام 2025، وأن ترتفع إلى 239 مليار روبل (2.52 مليار دولار) في عام 2028.

من الناحية الجيوسياسية، يعكس هذا الإصلاح سعي موسكو للحفاظ على استقرار أسعار الوقود المحلية مع ترشيد الموارد المالية الشحيحة في ظل ظروف الحرب: وهو حل وسط مدروس بين منع ردود فعل المستهلكين، وضمان مرونة قطاعي الطيران والزراعة، والحفاظ على صناعة النفط في ظل العقوبات.

رغم ذلك، يُبرز هذا التعديل هشاشة روسيا الهيكلية؛ فحاجتها إلى إعادة هيكلة صيغ الدعم لمواجهة تقلص هوامش الربح ومحدودية الوصول إلى الأسواق العالمية تكشف عن هشاشة اقتصادها السياسي القائم على الطاقة.

منشأة لتخزين الغاز الطبيعي في بلدة ريهدن بألمانيا
منشأة لتخزين الغاز الطبيعي ببلدة ريهدن في ألمانيا - الصورة من رويترز

دور واشنطن

الزاوية عبر الأطلسية محفوفة بالمخاطر بالقدر نفسه. إن سعي واشنطن نحو تدابير ثانوية منسقة -رسوم جمركية، وسقوف تأمينية صارمة، وقوانين أكثر صرامة بشأن منشأ المنتجات- يواجه قيودًا قانونية وإرهاقًا سياسيًا في أوروبا.

ويفضل العديد من أعضاء الاتحاد الأوروبي أن تتحمل بروكسل مسؤولية أي خرق للعقد؛ وفي غياب ذلك، تعتمد العواصم الوطنية على حجج "الحتمية التجارية" لتبرير استمرار التدفقات.

من جهة ثانية، يعكس تسامح المملكة المتحدة مع ثغرات المنتجات المكررة حذرًا أوروبيًا أوسع: فإغلاق المرحلة الأخيرة من عملية الإنفاذ قد يرفع التكاليف في قطاعي الطيران والخدمات اللوجستية، خلال الوقت الذي تكافح فيه الحكومات التضخم والركود الصناعي.

عمليًا، استقر الغرب على إستراتيجية التسريب المُدار، وهي إستراتيجية مقيدة بما يكفي لخفض صافي الأرباح الروسية وتعقيد لوجستياتها، ومتساهلة بما يكفي لتجنب صدمة أسعار من شأنها أن تضر بالناخبين والنمو.

إن كل هذا يُعزز مفارقة تُفيد الكرملين؛ إذ لا يمكن لأوروبا أن تدّعي بصدق وجود ستار حديدي للطاقة، ولا أن تعترف بسهولة بأن ازدهارها لا يزال يعتمد، ولو بشكل هامشي، على إمدادات الطاقة الروسية.

ويُتيح هذا الغموض لموسكو نقاطَ نقاش دبلوماسية في دول الجنوب العالمي، ونفوذًا في التعاملات الثنائية مع دول الاتحاد الأوروبي المُستثناة، ومصدرًا ثابتًا للإيرادات لإعادة تدويرها في اقتصاد الحرب.

ويمنح روسيا الوقت الكافي لتوطيد علاقاتها في مجال الطاقة مع تركيا بوصفها مركزًا، ودمج مبيعات الغاز المسال في محافظ الاستثمار الآسيوية، وتسويق عروضها النووية في المناطق التي يغيب فيها التمويل الغربي.

وكلما طال اعتماد الغرب على سلاسل مالية غير مُحكمة؛ تعلمت روسيا العمل من خلال الثغرات التنظيمية العالمية.

تقليل إيرادات الوقود الأحفوري

تسهم الإضافات العالمية القياسية للطاقة الشمسية والاستثمار الثابت بشبكات الطاقة والتخزين في تضييق القيمة الزمنية لإيرادات الوقود الأحفوري.

ويتجاوز مزيج الكهرباء في أوروبا نسبة 45% من الطاقة النظيفة في كثير من الأيام، وقد أدّى انخفاض الطلب الصناعي إلى تراجع هيكلي في استهلاك الغاز في القطاعات الرئيسة.

وفي حال انخفض سعر خام برنت إلى منتصف الـ60 دولارًا أميركيًا واستمرت الخصومات؛ فإنّ الاحتياطي المالي لروسيا سيظلّ في حالة جيدة ولكنه أقلّ مرونة.

والسؤال الإستراتيجي لدى موسكو هو ما إذا كان بإمكانها تحويل المرحلة الحالية المليئة بالثغرات إلى حصة سوقية مستدامة في آسيا والشرق الأوسط قبل أن يتغير نمط الطلب.

والسؤال الإستراتيجي لدى أوروبا هو ما إذا كان بإمكانها إتمام مهمة التنويع دون التسبب في ارتفاع حاد بالأسعار أو رد فعل عنيف تجاه تراجع التصنيع.

رغم ذلك، فلا يزال الخطاب العام لأوروبا حول الاستقلال وسلوك الطاقة الخاص غير متزامنين، وروسيا هي المستفيدة من هذه الفجوة.

وكثيرًا ما استمرت الإعفاءات، وظلّ تتبُّع المنشأ ضعيفًا، وظلّت الخدمات البحرية غربية، ستحتفظ موسكو بإيرادات تصدير مجزية ونفوذ دبلوماسي على الرغم من العقوبات.

ويعد التوازن هشًا - شتاء بارد، كارثة في مصفاة، أو خطوة خاطئة من تحالف أوبك+ قد تُقلب الموازين. ولتغييره، ستحتاج أوروبا إلى مواءمة سياساتها مع المشتريات: سد ثغرات المنتجات المكررة، وتوحيد قواعد المنشأ، وتشديد العقوبات البحرية، وتسريع بناء شبكات الكهرباء على نطاق واسع، ما يُخفض الطلب على الغاز بشكل دائم.

وإلا، سيظل هذا الشريان الخفي ينبض، ومعه، ستزداد أهمية روسيا الجيوسياسية بفضل حسابات الطاقة الأوروبية.

مفارقة إمدادات الطاقة الروسية

تقع مفارقة إمدادات الطاقة الروسية في صميم النظام الجيوسياسي المعاصر.

ظاهريًا، تُفرض عقوبات على موسكو، وتُستبعد من الأسواق الأوروبية، وتُوصف بأنها شريك غير موثوق. أما عمليًا، فما تزال الهيدروكربونات الروسية تتدفق عبر سلاسل التوريد العالمية، غالبًا بشكل غير مرئي، مُحافظةً على آلتها الحربية وثقلها الجيوسياسي.

وتحمل الفجوة بين الخطاب والواقع تداعيات عميقة على مسار السياسة العالمية:

أولًا: يُقوّض وهم الاستقلال الأوروبي مصداقية السرديات الإستراتيجية للاتحاد الأوروبي.

ويُعلن القادة تخليًا تامًا عن موسكو بينما تستمر اقتصاداتهم في امتصاص الوقود الروسي، مباشرةً بموجب الإعفاءات، وبشكل غير مباشر من خلال مصافي التكرير في آسيا، أو هيكليًا عبر الشحن والتأمين الأوروبيين.

يُضعف هذا الكيل بمكيالين السلطة الأخلاقية لأوروبا في الخارج، خصوصًا في دول الجنوب العالمي، حيث تستغل موسكو التناقض الغربي بوصفه دليلًا على النفاق.

وبالنسبة لروسيا، تُمثل كل شحنة مُقنّعة أو مُعاد بيعها إيرادات، وتُعد دليلًا على هشاشة العقوبات وإمكان انقسام الإرادة السياسية للغرب.

ثانيًا: تُعيد مرونة روسيا في مجال الطاقة تشكيل سياسات التحالف؛ حيث يسمح تنسيق تحالف أوبك+ لموسكو بالبقاء لاعبًا مؤثرًا في أسواق النفط على الرغم من القيود التقنية والعقوبات.

وقد تضاءل نفوذ روسيا في مجال الغاز على أوروبا، لكن التكامل الإستراتيجي مع بيلاروسيا، وتعميق العلاقات مع تركيا، وتدفقات النفط مُخفّضة السعر إلى الهند والصين، تُنشئ شبكات جديدة من التبعية.

على صعيد آخر، تُعزز كل علاقة ادّعاء موسكو بأنها ليست معزولة، بل أُعيد تموضعها ضمن نظام طاقة متعدد الأقطاب.

وهذا يُعزز محور الصين-روسيا "الدب التنين" مع الصين، ويمنح روسيا نفوذًا تفاوضيًا في المنتديات الإقليمية مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومجموعة البريكس+.

ثالثًا: يُؤدي استمرار الطاقة الروسية في الاقتصادات الغربية إلى تصدعات عبر الأطلسي.

بدورها، تدفع واشنطن نحو تطبيق أكثر صرامة، وعقوبات ثانوية، وتصعيد الرسوم الجمركية، في حين تُقيّم بروكسل التدابير لتجنب التضخم، وصدمات العرض، وردود الفعل السلبية المحلية.

ويُؤجج هذا التباين الخلافات السياسية داخل حلف الناتو ومجموعة الدول الـ7؛ ما يسمح لموسكو باستغلال هذه الانقسامات.

ويُبرز تساهل المملكة المتحدة مع ثغرات المنتجات المُكررة، واعتماد العديد من دول الاتحاد الأوروبي على العقود القديمة، أن تطبيق القوانين غير متكافئ حتى بين الحلفاء، وأن التكاليف السياسية موزعة بشكل غير متكافئ.

رابعًا: ينتقل محور أمن الطاقة من أوروبا إلى آسيا. وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يُسرّع تنويع مصادره وتبني تقنيات الطاقة المتجددة؛ فإنه يُشكّل الطلب المتزايد على الكهرباء في آسيا والزيادات المتقطعة في إنتاج الفحم شبكة أمان طويلة الأجل للهيدروكربونات الروسية.

ويُبرز رفض الهند الإستراتيجي التخلي عن النفط مُخفّض السعر كيف يُمكن لضرورات الطاقة أن تطغى على الضغوط الدبلوماسية الغربية.

وما لم تُصدر السلطات الهندية أمرًا مباشرًا أو يحدث تحوّل جذري في اقتصاد التجارة، سيظل النفط الروسي مصدرًا رئيسًا لإمدادات الطاقة إلى الهند.

بالنسبة لروسيا، يُتيح هذا التحول شرقًا كسب الوقت والإيرادات والعمق الإستراتيجي.

أما بالنسبة للغرب، فيُشير إلى أن هيكل العقوبات لا يُمكن أن ينجح دون تعاون من الاقتصادات الناشئة، وهو تعاون من غير المُرجّح أن يتحقق.

خامسًا، تحمل نقاط ضعف موسكو المحلية الآن عواقب خارجية؛ فضربات الطائرات المُسيّرة على المصافي، واختناقات الصيانة، ونقص الوقود، تُحوّل المشكلات الروتينية إلى بؤر توتر جيوسياسية.

ويُجبر كل اضطراب الكرملين على التنازل بين إيرادات التصدير والاستقرار الداخلي، وهي قرارات تنعكس سلبًا على مفاوضات تحالف أوبك+، والتخطيط المالي، والتزامات السياسة الخارجية.

بهذا المعنى، لا تقتصر ساحة المعركة على أوكرانيا، بل تشمل حقول النفط والمصافي وخطوط الأنابيب التي تُغذي الدولة الروسية.

إضافة إلى ذلك، لا يزال بإمكان روسيا استخلاص النفوذ الجيوسياسي من الهيدروكربونات، لكن كل عام من التأخير في التنويع يُضيّق خياراتها المستقبلية.

وإذا فشلت موسكو في ترسيخ موطئ قدم راسخ في أسواق آسيا والشرق الأوسط قبل أن يستقر الطلب، فإن قوتها في مجال الطاقة ستتضاءل أسرع من طموحاتها الجيوسياسية.

خلاصة القول، يضمن تشابك الطاقة الروسية مع أوروبا والأسواق العالمية بقاء موسكو لاعبًا مؤثرًا في الجانب الجيوسياسي للعرض والطلب.

وإن عجز أوروبا عن قطع علاقاتها في مجال الطاقة بشكل كامل يُقوّض استقلالها الإستراتيجي، كما أن تشتت إنفاذ الغرب يُمزّق الوحدة عبر الأطلسي، كما أن إقبال آسيا على الهيدروكربونات الرخيصة يُغذّي اقتصاد الحرب الروسي.

في الوقت نفسه، تكشف الهشاشة المحلية وتحول الطاقة العالمي المتسارع عن حدود هيكلية لنفوذ موسكو.

ولم تعد قوة روسيا في مجال الطاقة مطلقة؛ بل أصبحت مشروطة، ومتنازعًا عليها، ومرتبطة بالزمن بشكل متزايد.

وتُعد الدلالة الجيوسياسية واضحة: ستبقى روسيا ذات أهمية، لكن قدرتها على فرض نفوذها من خلال الطاقة ستتآكل باطراد ما لم تتمكن من مأسسة أسواقها الجديدة قبل أن يكتسب تخلي العالم عن الهيدروكربونات زخمًا حتميًا.

فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.

*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق