الذكاء الاصطناعي والطاقة.. معادلة القوة وصراع مصر مع المستقبل (مقال)

اليوم يقف العالم أمام تحول جديد، إذ بات الذكاء الاصطناعي المورد الإستراتيجي الأهم، ليس لكونه يرفع كفاءة الإنتاج أو يخلق فرصًا اقتصادية جديدة فحسب، بل لأنه يعيد رسم خريطة المنافسة بين الدول، ويحدد من سيتصدّر قيادة الاقتصاد العالمي ومن سيظل أسير موقع التابع.
ففي أوقات سابقة، كان معيار التقدم يقاس بما تملكه الدول من موارد طبيعية أو قدرات إنتاجية، فكانت الدول الغنية بالمعادن والطاقة في صدارة المشهد العالمي، ثم انتقل مركز الثقل إلى تلك التي استطاعت بناء مصانع ضخمة تشكّل عصب الاقتصاد الصناعي، قبل أن تصبح مفاتيح المستقبل مرهونة بامتلاك التكنولوجيا المتقدمة وبناء شراكاتها الإستراتيجية.
ويتقاطع في المشهد اليوم مساران رئيسان يرسمان معالم القوة في القرن الـ21: الذكاء الاصطناعي بصفته "العقل الجديد" للاقتصاد والسياسة والأمن، والطاقة بوصفها الوقود الذي يغذّي هذه الثورة الرقمية.
هذا الترابط لم يعد نظرية أكاديمية أو تصور للمستقبل، بل حقيقة أكدها كبار روّاد التكنولوجيا في جلسات استماع رسمية بالكونغرس الأميركي خلال أبريل/نيسان 2025.
في شهادته، أشار مؤسس شركة "سكيل إيه آي" (Scale AI) ألكسندر وانغ إلى أن الذكاء الاصطناعي يقوم على 3 ركائز، هي القدرة الحاسوبية، والخوارزميات، والبيانات، لكنه حذّر من أن كل هذه العناصر تحتاج إلى بيئة طاقة مستقرة وقادرة على تغذية مراكز البيانات العملاقة.
وقدّم الرئيس التنفيذي السابق لجوجل، إريك شميت، رؤية أكثر وضوحًا، مضمونها أن الذكاء الاصطناعي لا يعيش دون كهرباء، ومراكز البيانات المقبلة قد تحتاج إلى طاقة تفوق قدرة محطات كاملة، ما يجعل الطاقة "كعب أخيل" الثورة الاصطناعية، أي نقطة ضعها.
من ناحيتنا، هذه المعادلة العالمية تضع الدولة المصرية أمام سؤال صعب: هل تستطيع الدولة، وهي تواجه تحديات مالية وهيكلية عميقة في قطاع الطاقة، أن تدخل سباق الذكاء الاصطناعي؟ أم ستظل متفرجة على خطوط السباق؟
الذكاء الاصطناعي.. أداة هيمنة لا مجرد تقنية
في حديثه أمام الكونغرس، شبّه وانغ البيانات بـ"النفط والغاز والطاقة الشمسية والرياح مجتمعين"، فهي المادة الخام التي يتغذى عليها الذكاء الاصطناعي، في حين توفر الطاقة القدرة الحاسوبية اللازمة لتحويل هذه البيانات إلى خوارزميات قادرة على التفكير واتخاذ القرار.
ويضيف وانغ أن الصين تبنّت منذ سنوات خطة شاملة تجعل من الذكاء الاصطناعي رافعة للسلطة، تستثمر في مراكز بيانات، وتبني مصانع شرائح محلية، وتفتح أبواب البيانات الحكومية للتدريب، والنتيجة أن بكين لم تكتفِ بتطوير خوارزميات، بل ضمنت أن الطاقة لن تكون عائقًا أمام طموحاتها.
أمّا شميت، فقد رسم صورة أوضح لحجم التحدي، بحديثه أن مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي قد تصل قدرتها الاستهلاكية إلى 10 غيغاواط للمرفق الواحد، أي ما يعادل إنتاج محطة كهرباء عملاقة، وهو ما يعني أن سباق الذكاء الاصطناعي لن يُحسم فقط في مختبرات البرمجة، بل على خطوط نقل الكهرباء، ومحطات التوليد، وشبكات التوزيع.
الطاقة شرطًا للابتكار
مع هذا، فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد مستهلك شره للطاقة، بل يمكن أن يكون أيضًا أداة لإدارة هذه الطاقة بذكاء، إذ أشار شميت إلى أن الذكاء الاصطناعي قادر على تحسين أداء الشبكات، والتنبؤ بالأعطال، والتصدي للهجمات السيبرانية التي تستهدف البنية التحتية، -وأيضا في الاستكشافات-، لكن الشرط الأول لنجاح هذا الدور أن تكون هناك طاقة وفيرة ورخيصة.
الصين -على سبيل المثال- لم تترك هذه الحلقة مفرغة، فهي تقود العالم في إنتاج الألواح الشمسية والبطاريات، وتستثمر في الطاقة النووية والاندماج، وتبني شبكات حديثة قادرة على دمج مصادر متعددة بكفاءة، بمعنى أن الذكاء الاصطناعي والطاقة عندها يسيران كجناحين في خطة واحدة.
مصر.. قوة كهربائية مُكبّلة
إذا انتقلنا إلى مصر، نجد صورة مزدوجة، فمن ناحية، لا تعاني البلاد من انقطاعات كهرباء واسعة، بل تمتلك فائضًا في بعض الأوقات، بفضل توسعات محطات الغاز والدورة المركبة في العقد الأخير، لكن من الناحية الأخرى، هذا الفائض ليس مستدامًا اقتصاديًا.

فالاعتماد شبه الكامل على الغاز الطبيعي يجعل إنتاج الكهرباء مكلفًا للغاية، خاصة مع ارتفاع أسعار الغاز عالميًا، وفي حين إن الدعم الحكومي يخفف الضغط عن المستهلك، فإنه يُثقل كاهل المالية العامة، والنتيجة أن تكلفة الطاقة في مصر تظل بعيدة عن مستوى التنافس المطلوب لتشغيل مراكز بيانات ضخمة أو لجذب استثمارات الذكاء الاصطناعي.
إضافة إلى ذلك، لم تستثمر مصر بعد بالقدر الكافي في الشبكات الذكية أو في أنظمة تخزين الكهرباء طويلة الأمد، ما يجعلها غير جاهزة للتعامل مع الأحمال المتقلبة والاحتياجات الديناميكية لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي.
معضلة التكلفة والفرصة الضائعة
فإذا كان العالم يتحرك نحو بناء مراكز بيانات قادرة على استهلاك 5 إلى 10 غيغاواط من الكهرباء، فإن مصر بالكاد تناقش كيفية توفير الغاز لمحطاتها القائمة دون أن تنهار موازنتها، وهذا الفارق يوضّح أن التحدي ليس في توليد الكهرباء بقدر ما هو في هيكلة التكلفة والاستثمار.
بشكل أوضح، كل مشروع استثماري عالمي في الذكاء الاصطناعي يبحث عن ثلاثية:
- - كهرباء مستقرة.
- - منخفضة التكلفة.
- - قابلة للتوسع.
وهذه الثلاثية لا تتوافر في مصر حاليًا، وحتى مع الحديث عن التوسع في الطاقة المتجددة، تظل نسبة مساهمة الشمس والرياح محدودة مقارنة بالدول المنافسة، بينما لم يدخل الاستثمار في التخزين أو الشبكات مرحلة جادة.
انعكاسات على الطموح التكنولوجي
هذا الوضع يطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن لمصر أن تتحدث عن دخول عصر الذكاء الاصطناعي إذا لم تحلّ معضلة الطاقة؟
فعلى الصعيد الاقتصادي، تعني تكلفة الكهرباء المرتفعة أن أيّ شركة تقنية ستفضّل الاستثمار في بيئة أقل تكلفة للطاقة، مثل الخليج أو أوروبا الشرقية، كذلك على المستوى الإستراتيجي، يعني غياب الاستثمارات في الشبكات الحديثة أن أيّ مشروع وطني في الذكاء الاصطناعي سيظل محدودًا في حجمه وقدرته على المنافسة.
أمّا من الناحية الاجتماعية، فاستمرار استنزاف الغاز في إنتاج الكهرباء يضع ضغطًا على الموازنة، يقلل من القدرة على تمويل التعليم والبحث العلمي، وهما ركيزتان أساسيتان لأيّ طموح في الذكاء الاصطناعي.
الطريق إلى الأمام.. دروس من وانغ وشميت
من خلال شهادتي ألكسندر وانغ وإريك شميت يمكن استخلاص 3 توصيات جوهرية لمصر في مسعاها لدخول سباق الذكاء الاصطناعي:
- أولاها تتعلق بضرورة إعادة هيكلة قطاع الطاقة، فالمطلوب ليس زيادة الإنتاج بقدر ما هو إعادة توزيع التكاليف وفتح المجال أمام استثمارات في مصادر أرخص وأكثر استدامة مثل الطاقة الشمسية والنووية، بما يضمن استقرارًا طويل الأمد في تزويد الكهرباء.
- التوصية الثانية فهي بناء شبكة كهربائية ذكية، إذ إن الذكاء الاصطناعي لا يحتاج فقط إلى كهرباء متدفقة، بل إلى شبكة قادرة على التكيف مع الأحمال العالية والمتغيرة، وتوفير بيئة مرنة تدعم تشغيل مراكز البيانات العملاقة دون انقطاع أو اهتزاز.
- التوصية الثالثة لتؤكد أهمية ربط الاستراتيجية الوطنية للطاقة بالذكاء الاصطناعي نفسه، بحيث لا يُنظر إليه بصفته قطاعًا منفصلًا، بل جزءًا أصيلًا من تخطيط الطاقة؛ فهو من ناحية أداة لرفع كفاءة الإنتاج والتوزيع، ومن ناحية أخرى مستفيد رئيس من وفرة الطاقة ورخص تكلفتها.
وأضيف إلى هذه التوصيات مسألة لا تقلّ أهمية، وهي تأهيل العنصر البشري، فامتلاك كهرباء مستقرة أو شبكات حديثة لن يكون كافيًا إذا لم تتوافر كوادر قادرة على تصميم الخوارزميات، وإدارة مراكز البيانات، وتطوير التطبيقات التي تستجيب للاحتياجات الوطنية.
فالذكاء الاصطناعي في جوهره ليس مجرد تقنيات جامدة، بل انعكاس مباشر لكفاءة العقول التي تقوم بتطويره وتشغيله، الأمر الذي يجعل الاستثمار في التعليم والبحث العلمي والتدريب المتخصص ركيزة لا غنى عنها في أيّ استراتيجية وطنية جادّة.
مصر أمام اختبار الإرادة
ختامًا، أظهرت شهادتا وانغ وشميت أن المستقبل سيُحسم عند نقطة التقاء الذكاء الاصطناعي بالطاقة، وإذا كانت الولايات المتحدة والصين تتنافسان على من يقود هذا التلاقي، فإن مصر ما زالت تعاني من فجوات في التمويل والتخطيط تجعلها بعيدة عن السباق.
التحدي إذن ليس تكنولوجيًا بحتًا، بل سياسيًا واقتصاديًا، فإذا أرادت مصر أن تدخل عالم الذكاء الاصطناعي من موقع لاعب لا متفرج، فعليها أن تبدأ أولًا بإصلاح منظومة الطاقة على أسس واقعية ومستدامة، ومن دون ذلك، ستظل القاهرة تملك كهرباء تكفي لإنارة المنازل والمصانع، لكنها لن تكفي لإشعال محركات المستقبل.
*الدكتور محمد فؤاد، خبير اقتصادي ونائب سابق في البرلمان المصري.
*هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
نرشّح لكم سلسلة مقالات الكاتب حول قطاع الطاقة المصري:
- اقتصاديات الطاقة في مصر وأسعار الكهرباء.. 5 حلول للخروج من المأزق (مقال)
- أزمة إدارة موارد الطاقة في مصر.. هل "الكهرباء" السبب؟ (مقال)
- معضلة الغاز في مصر.. قراءة في بيانات الحكومة (مقال)
- معضلة الغاز في مصر.. تحديات الصيف وفرص الإنقاذ (مقال 2)
- معضلة الغاز في مصر.. هل يلوح تخفيف الأحمال في الأفق؟ (مقال -3)