الذكاء الاصطناعي.. أداة جديدة للحفاظ على التنوع البيولوجي (مقال)
د. هبة محمد إمام

يبرز دور الذكاء الاصطناعي في حين تتزايد التحديات البيئية على مستوى العالم، مما يجعل الحفاظ على التنوع البيولوجي من الأولويات الملحّة لضمان توازن الأنظمة الإيكولوجية واستدامة الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.
ويواجه التنوع البيولوجي خطر الانقراض الجماعي نتيجة لتغير المناخ، وفقدان المواطن الطبيعية، والتلوث، والصيد الجائر، وغيرها من التحديات.
في هذا السياق، يعدّ الذكاء الاصطناعي أداة قوية قادرة على تقديم حلول مبتكرة وفعّالة لمراقبة تغيرات النظام البيئي، والتنبؤ بالتهديدات المحتملة، وتحسين إدارة الموارد الطبيعية.
ونستعرض في هذا المقال دور الذكاء الاصطناعي في صون التنوع البيولوجي، وأهم التقنيات المستعملة، وتطبيقاتها العملية، إلى جانب التحديات والمعوقات التي تعترض طريق تبنّيه.
التنوع البيولوجي وتحدياته
يشمل التنوع البيولوجي التنوع الجيني داخل الأنواع، وهذا التنوع هو أساس العمليات الإيكولوجية التي تعتمد عليها الطبيعة من تنقية المياه وتلقيح النباتات إلى استقرار المناخ وتدوير العناصر الغذائية.
إلّا أن التنوع البيولوجي يواجه تراجعًا متزايدًا، فقد انقرض العديد من الأنواع خلال العقود الماضية، وتراجع عدد آخر إلى مستويات خطيرة. تشمل الأسباب الرئيسة:
- تدمير المواطن الطبيعية: توسيع الأنشطة الزراعية والتوسع العمراني يؤدي إلى تدمير الغابات والأراضي الرطبة.
- التلوث: انتشار الملوثات الكيميائية والميكروبية تؤثّر بصحة النظم البيئية.
- التغير المناخي: يغيّر من مواطن الأنواع وأنماط هطول الأمطار ودرجات الحرارة.
- الصيد الجائر والتجارة غير المشروعة: تقود إلى انهيار أعداد الأنواع البرية والبحرية.
إن تعقيد هذه التحديات يتطلب حلولًا شاملة تعتمد على جمع كميات ضخمة من البيانات وتحليلها بسرعة ودقة، وهنا يبرز دور الذكاء الاصطناعي.
دور الذكاء الاصطناعي في الحفاظ على التنوع البيولوجي
يقدّم الذكاء الاصطناعي مجموعة من الأدوات والتقنيات التي تساعد في:
- جمع البيانات الضخمة من أقمار صناعية، وكاميرات مراقبة، وأجهزة استشعار أرضية وبحرية.
- معالجة الصور والفيديو لاستخلاص معلومات حول وجود وتوزيع الأنواع.
- تحليل البيانات واكتشاف الأنماط والاتجاهات التي تشير إلى تدهور المواطن أو تهديد الأنواع.
- التنبؤ بالمستقبل البيئي عبر نماذج تعلُّم الآلة والتعلم العميق، مما يمكّن صانعي السياسات من اتخاذ قرارات مبنية على الدلائل.
- إدارة التدخلات مثل إعادة تأهيل المواطن الطبيعية أو مكافحة الصيد الجائر بفعالية أكبر.
من خلال هذه القدرات، يمكن للذكاء الاصطناعي الإسهام في مراقبة البيئة بشكل كامل (حول الساعة وطوال أيام السنة)، وتقليل الأخطاء البشرية، وتقليل التكاليف التشغيلية.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي
المراقبة والرصد البيئي:
يعتمد العديد من المشروعات الحديثة على طائرات بدون طيار (درونز) مزوّدة بكاميرات عالية الدقة وحساسات متعددة الأطياف.
تستعمل خوارزميات الرؤية الحاسوبية لاكتشاف وتتبع الحيوانات البرية، وقياس معدل الغطاء النباتي، ورصد التلوث.
على سبيل المثال، تستطيع هذه الطائرات تحديد نوعية النباتات الصحية في الغابات، وكشف البؤر الساخنة للحرائق، ورصد سلوكيات بين الأنواع مختلفة.
التنبؤ والتخطيط:
تعتمد نماذج التعلم الآلي على قواعد بيانات ضخمة تتضمن معلومات مناخية، وجغرافية، وإيكولوجية.
باستعمال الخوارزميات، يمكن التنبؤ بتحركات الجماعات للحيوانات استجابة للتغير المناخي أو ضغط الصيد الجائر.
هذه النماذج تساعد المتخصصين وضع خطط لإقامة محميات جديدة أو تعديل الحدود الحالية للمحميات.
إدارة الأنواع المهددة:
من خلال تحليل البيانات الوراثية والبيئية، يساهم الذكاء الاصطناعي في تحديد التوزيع الجغرافي للأنواع المهددة، وتقدير حجمها، وفهم مستويات التهجين بينها وبين أنواع أخرى.
تُستعمَل هذه المعلومات لوضع إستراتيجيات للتربية في الأسر (Captive Breeding) أو التبادل الوراثي بين المجموعات المختلفة بهدف زيادة التنوع الجيني وتقليل مخاطر الانقراض.
مكافحة الصيد الجائر:
يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل أنماط البيانات الواردة من أجهزة تحديد المواقع (GPS)، وأجهزة تتبع المركبات، وشبكات المراقبة الصوتية لتحديد نشاط الصيادين الجائرين.
كما تستطيع خوارزميات تعلم الآلة التنبؤ بالمناطق الأكثر عرضة للصيد الجائر وفقًا للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، مما يمكّن السلطات من تعزيز الدوريات ورفع الجاهزية في هذه النقاط.
الزراعة المستدامة:
تساعد تقنيات الزراعة الدقيقة المدعومة بالذكاء الاصطناعي المزارعين على تحسين استعمال المبيدات والأسمدة، من خلال تحليل صور الأقمار الصناعية وبيانات الطقس والرطوبة.
هذا يحدّ من تلوث التربة والمياه المجاورة ويقلل الحاجة إلى التوسع في أراضي جديدة، ما يسهم في الحدّ من تدمير المواطن الطبيعية.
النمذجة البيئية:
يستعمل الباحثون نماذج المحاكاة الحاسوبية المدعومة بالذكاء الاصطناعي لدراسة تأثير التغيرات المختلفة كالفيضانات، والجفاف، وزيادة درجات الحرارة على النظام الإيكولوجي بكامله.
توفر هذه النماذج رؤى حول كيفية تفاعل العناصر البيئية المختلفة مع بعضها، مما يسهّل تطوير سياسات بيئية شاملة.
التفاعل مع المجتمعات المحلية:
من خلال منصات الذكاء الاصطناعي التي تستقبل إسهامات الجمهور ، يمكن للسكان المحلّيين تسجيل ملحوظاتهم حول التنوع البيولوجي باستعمال تطبيقات الهواتف الذكية.
تعالج خوارزميات التعرف على الصور التسجيلات المصورة للأنواع، وتزوّد الباحثين ببيانات مكثفة من مناطق صعبة الوصول.
كذلك تستعمل أدوات المحاكاة لنشر الوعي حول أهمية التنوع البيولوجي وتشجيع السلوكات المستدامة.

تقنيات الذكاء الاصطناعي المستعمَلة
التعلم الآلي والتعلم العميق:
يُستعمل التعلم الآلي لبناء نماذج قادرة على التنبؤ والتصنيف بناءً على البيانات التاريخية.
أمّا التعلم العميق Deep Learning، فيعتمد على شبكات عصبية متعددة الطبقات لمعالجة كميات ضخمة من الصور والبيانات غير المهيكلة، مثل تحليل الصور الجوية لكشف نوعية الغطاء النباتي أو التعرف على أصوات الطيور.
تعلم التعزيز:
يُسخَّر تعلُّم التعزيز (Reinforcement Learning) في التحكم الديناميكي للطائرات دون طيار والروبوتات البرية، بحيث تتعلم هذه الأنظمة أفضل مسار ومسار لرصد المواطن، مع مراعاة استهلاك الطاقة وأمان المعدّات.
معالجة الصور والرؤية الحاسوبية:
تمكن هذه التقنية من تحليل صور الأقمار الصناعية، وصور الدرونز، وكاميرات الفخ للاستدلال على وجود وتوزيع الأنواع، وكشف التغيرات في الغطاء النباتي ومستويات التلوث.
خوارزميات مثل YOLO وMask R-CNN تُستعمَل للتعرف الفوري على العناصر البيئية.
الشبكات العصبية:
تُستعمَل الشبكات العصبية التلافيفية (Convolutional Neural Networks - CNN) أساسًا في تحليل الصور، بينما تُستعمَل الشبكات العصبية المتكررة (Recurrent Neural Networks - RNN) ونماذج Transformer في تحليل البيانات التسلسلية، بصفتها قراءات أجهزة الاستشعار البيئية على مدى الزمن.
إنترنت الأشياء والبيانات الضخمة:
تربط أجهزة الاستشعار الموزعة في المناطق البرية والبحرية شبكات إنترنت الأشياء، وترسل معلومات حول الحرارة، والرطوبة، وتركيز الملوثات، والأصوات الحيوانية إلى خوادم معالجة مركزية.
وتعتمد هذه البنية التحتية على تقنيات البيانات الضخمة (Big Data) لتخزينها وتحليلها في الوقت الحقيقي.
فوائد التوظيف الذكي للتكنولوجيا:
- جمع بيانات دقيقة وفورية يدعم اتخاذ القرارات البيئية الصائبة.
- تقليل التكاليف التشغيلية مقارنة بالأساليب التقليدية.
- تعزيز قدرة المجتمعات المحلية على المشاركة وحماية مواردها.
- توقُّع الأزمات البيئية مبكرًا والاستجابة السريعة.
- دعم البحث العلمي ببيانات ضخمة وتحليلات متقدمة.
التحديات والمعوقات
أولًا: تعاني هذه الجهود من ندرة البيانات المهيكلة وتفاوت جودتها بين المناطق، مما يؤثّر سلبًا في دقة التحليلات والنتائج.
بالإضافة إلى ذلك، تظل التكلفة الأولية المرتفعة لتجهيز بنى تحتية مناسبة عائقًا كبيرًا أمام التنفيذ الفعال.
كما أن نقص الكوادر المتخصصة في هذا المجال يزيد من تعقيد الأمور، حيث يصعب العثور على خبراء قادرين على إدارة هذه التقنيات الحديثة.
علاوة على ذلك، تقف مقاومة أصحاب المصالح التقليدية للتكنولوجيا الجديدة عائقًا أمام تبنّي الابتكارات اللازمة.
وأخيرًا، تعتمد النتائج المستخلصة من هذه النماذج على مصداقيتها وضبط معاييرها، مما يتطلب جهودًا مستمرة لضمان الجودة والموثوقية.

لمواجهة التحديدات يمكن اتّباع التالي:
لمواجهة التحديات ينبغي تحسين جمع البيانات من خلال تطوير منصات لجمع البيانات المهيكلة، مع التركيز على جودة البيانات وتوحيدها، بالإضافة إلى استعمال تقنيات الاستشعار عن بُعد والكاميرات الذكية.
كما يمكن تقليل التكاليف عبر البحث عن شراكات مع مؤسسات خاصة وحكومية، واستعمال حلول برمجية مفتوحة المصدر.
من الضروري أيضًا تدريب الكوادر المحلية من خلال تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية، والتعاون مع الجامعات لتطوير برامج دراسات متخصصة.
ولتوعية أصحاب المصالح، يمكن تنفيذ حملات توعية تبرز فوائد التكنولوجيا الجديدة، وإشراكهم في مشروعات تجريبية لإظهار النتائج.
أخيرًا، يجب ضمان مصداقية النماذج من خلال استعمال أساليب تقييم دقيقة لضبط معاييرها وتحديثها دوريًا، استنادًا إلى البيانات الجديدة.
بتطبيق هذه الإستراتيجيات، يمكن تعزيز فعالية استعمال الذكاء الاصطناعي في الحفاظ على التنوع البيولوجي وتجاوز المعوقات الحالية.
الاعتبارات الأخلاقية والقانونية
- ضمان الخصوصية عند استعمال الكاميرات وأجهزة التعقب.
- مراعاة حقوق المجتمعات الأصلية في البيانات التي تُجمع على أراضيها.
- توحيد الأطر التشريعية الدولية لتنظيم استعمال الطائرات دون طيار والذكاء الاصطناعي في المجالات البيئية.
- وضع معايير شفافة لتقييم دقة نماذج التنبؤ وتحديد المسؤوليات في حال وجود أخطاء.
يمكن تعزيز جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي من خلال عدّة خطوات إستراتيجية:
أولًا، ينبغي تعزيز التعاون بين الحكومات والمؤسسات الأكاديمية والشركات التقنية لتطوير حلول مفتوحة المصدر.
كما يجب دعم المبادرات التعليمية لبناء قدرات محلية في مجالي الذكاء الاصطناعي والعلوم البيئية.
بالإضافة إلى ذلك، يُعدّ إنشاء منصات دولية لتبادل البيانات البيئية وتوحيد تنسيقاتها خطوة ضرورية لتحسين فعالية التحليلات.
من المهم أيضًا دمج الذكاء الاصطناعي في السياسات الوطنية لحماية البيئة وتخصيص ميزانيات خاصة للبحث والتطوير.
وأخيرًا، يجب تشجيع الاستثمارات في مشروعات الزراعة البيضاء (Agroforestry) وأنظمة الرصد الذكي المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما يعزز من قدرة المجتمعات على التكيف مع التغيرات البيئية.
ويمثّل الذكاء الاصطناعي نقطة تحول في جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي، فهو يوفّر وسائل رصد مستمرة وتحليلات تنبؤية تساعد في مواجهة التحديات البيئية المعقّدة.
مع ذلك، يتطلب الاستفادة الكاملة من هذه التقنية تجاوز العقبات الفنية والمالية والأخلاقية، وتكامل الجهود بين القطاعات الحكومية والأكاديمية والمجتمعية.
عبر تبنّي نهج شامل ومستدام، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون شريكًا فعالًا في ضمان مستقبل أكثر أمانًا وتوازنًا لكوكبنا وللأجيال القادمة.
* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية
موضوعات متعلقة..
- الطلب على الكهرباء من مراكز البيانات قد يتضاعف.. والذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين
- الأردن يستعين بـ"الذكاء الاصطناعي" لمواجهة آثار تغير المناخ
- إعادة تدوير الألواح الشمسية بالذكاء الاصطناعي.. ثورة في الصناعة
اقرأ أيضًا..
- تحول الطاقة العادل في أفريقيا.. ضرورة بيئية وعدالة اجتماعية (مقال)
- إنتاج أوبك+ النفطي في يوليو يرتفع 335 ألف برميل يوميًا بقيادة دولتين عربيتين
- اكتشاف نفط محتمل باحتياطيات تصل إلى 75 مليون برميل