أزمة قطاع الطاقة الروسي.. هل تنجح محاولات التكيف مع تقلبات الأسواق والعقوبات؟ (مقال)
فيلينا تشاكاروفا - ترجمة: نوار صبح

يسعى قطاع الطاقة الروسي إلى التكيف مع تقلّبات أسواق الطاقة وموجات العقوبات الهادفة إلى الضغط على موازنة البلاد وإيقاف الحرب في أوكرانيا.
وبدءًا من منتصف عام 2025، يشهد نظام الطاقة العالمي مواءمة جذرية تتسم بتشديد اللوائح التنظيمية، والمعاملات السرية، وسياسة حافة الهاوية الجيو-اقتصادية المعقّدة.
وسط هذا التحول، يكمن قطاع الطاقة الروسي، الذي كان في السابق حجر الزاوية في النظام الهيدروكربوني العالمي، وأصبح الآن ساحة صراع بين الدبلوماسية، والاقتصاد الموازي، والتهرب من العقوبات.
وقد وضع التصعيد المزدوج -تهديد واشنطن بفرض عقوبات ثانوية، ومراجعة بروكسل (الاتحاد الأوروبي) غير المسبوقة لسقف سعر النفط الروسي- موسكو في مأزق، ولكنه حفّز آلية استجابة معقّدة تمتد عبر أوراسيا، وأفريقيا، والجنوب العالمي.
الولايات المتحدة تُهدد بعقوبات ثانوية.. دبلوماسية اقتصادية عالية المخاطر
في 19 يوليو/تموز 2025، أعلن وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، أن واشنطن ستبدأ محادثات مع بكين لإنهاء مشتريات الصين من الطاقة الروسية، مُشيرًا إلى توافق بايدن-ترمب على مواجهة تدفقات الإيرادات الروسية من خلال أدوات اقتصادية عقابية.
ويتمثّل التهديد غير المسبوق في فرض رسوم جمركية بنسبة 100% أو عقوبات ثانوية على الشركات التي تواصل التعامل مع قطاع الطاقة الروسي.
وتُشير هذه الخطوة إلى تحول من الضغط غير الرسمي إلى الإكراه الاقتصادي الرسمي، بهدف الحد من قدرة روسيا على تمويل حملتها العسكرية في أوكرانيا.
وتُعد المخاطر هائلة، ففي عام 2024، استوردت الصين أكثر من 107 ملايين طن من النفط الروسي -أي ما يُقارب 17% من إجمالي وارداتها النفطية- بتخفيضات كبيرة تصل إلى 30%.
وما تزال أسعار مزيجَي خامَي إسبو والأورال الروسيَّيْن تقل عن المؤشرات العالمية، ما يوفّر لبكين مليارات الدولارات من نفقات الطاقة.
في المقابل، فإن الضغط الأميركي يضع بكين في مأزق دبلوماسي: إما التخلي عن الطاقة الرخيصة وإما المخاطرة بحرب رسوم جمركية في وقت يشهد فيه نموًا متواضعًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% وهشاشة محلية متزايدة.
بدورها، تواجه الهند، التي استوردت 63.7 مليون طن من النفط الروسي في عام 2024 (ارتفاعًا من 33 مليون طن في عام 2023)، معضلة مماثلة.
وقد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أكبر شركة تكرير خاصة في الهند، نايارا إنرجي (Nayara Energy) -المملوكة بنسبة 49.13% لشركة روسنفط (Rosneft)- بموجب حزمة العقوبات الـ18، ما يزيد من مخاطر التعاون الهندي الروسي في مجال الطاقة.
في غضون ذلك، أصبحت البرازيل، رغم أنها ليست مستوردًا رئيسًا للنفط الروسي، قناةً لنقل الديزل وزيت الوقود الروسيين اللذَيْن أُعيدت تسميتهما عبر مصافٍ تابعة لجهات خارجية، ما يُبرز دورها في النظام الموازي المتطور.
حزمة عقوبات الاتحاد الأوروبي الـ18
في 19 يوليو/تموز 2025، نشر الاتحاد الأوروبي حزمة عقوباته الـ18 في الجريدة الرسمية، ودخلت حيز التنفيذ فورًا، وتُعد هذه الحزمة الأكثر تعقيدًا وشمولًا حتى الآن ضد قطاع الطاقة الروسي.
ويخفّض بندها الرئيس سقف سعر النفط الروسي المنقول بحرًا من 60 دولارًا أميركيًا إلى 47.6 دولارًا أميركيًا للبرميل، وهو خفض بنسبة 20.6% مصمم ليتماشى مع صيغة جديدة: يجب أن يظل سقف السعر أقل بنسبة 15% من متوسط سعر خام الأورال على مدار 22 أسبوعًا.
وتتضمّن الآلية الجديدة -التي تُطبّق بدءًا من 3 سبتمبر/أيلول 2025- مراجعات تلقائية كل 6 أشهر، وتعديلات طارئة محتملة إذا تجاوزت تقلبات السوق 5%.
وترى المفوضية الأوروبية أن هذا سيؤدي إلى تآكل ميزانية موسكو بما يصل إلى 19 مليار دولار سنويًا، بناءً على حجم صادرات عام 2024 البالغ 4.8 مليون برميل يوميًا.
بالإضافة إلى ذلك، تحظر العقوبات استيراد المنتجات البترولية المُنتَجة من النفط الروسي في دول ثالثة، بدءًا من 21 يناير/كانون الثاني 2026.

ويستهدف هذا دولًا مثل تركيا والهند والإمارات العربية المتحدة، التي أصبحت مراكز لتكرير النفط الروسي مُخفَّض السعر وتحويله إلى ديزل وبنزين ووقود طائرات للأسواق الأوروبية.
وتُستثنى من ذلك الدول التي تفرض حظرًا تامًا على الطاقة الروسية، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، وكذلك الدول المُصدِّرة للنفط.
من ناحية ثانية، تشمل الحزمة عقوبات على 105 سفن إضافية يُشتبه في انتمائها إلى "أسطول الظل" الروسي، ليصل إجمالي عدد السفن إلى 444.
وترفع هذه السفن أعلام دول غير معروفة مثل بالاو وجزر القمر وساو تومي وبرينسيبي، وتستعمل أساليب مثل النقل من سفينة إلى أخرى، وتزييف بيانات التتبع، وتزوير الوثائق.
يُذكر أن 3 ناقلات غاز مُسال تديرها شركة "إم أوه إل" (MOL) اليابانية رُفعت من قائمة العقوبات بعد ضمانات بعدم استعمالها في صادرات يامال أو مشروع الغاز المُسال-2 في القطب الشمالي.
وهذا ما يُسلّط الضوء على التنازل الإستراتيجي الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي بشأن الغاز المُسال في ظل توقعات شحّ الإمدادات الشتوية.
وفُرضت عقوبات على شركة فولغوترانس (Volgotrans)، وهي شركة روسية رئيسة لتشغيل ناقلات الغاز، ومجموعة "2 ريفرز غروب" (2Rivers Group)، المعروفة سابقًا باسم كورال إنرجي، والمُتهمة بإدارة جزء كبير من أسطول الظل الروسي.
وشملت العقوبات شركة ياكوتسك فيول آند إنرجي كومبني (YATEK)، التي تُخطط لمد خط أنابيب للغاز المُسال بطول 1358 كيلومترًا إلى بحر أوخوتسك بدعم صيني.
إلى جانب ذلك، تحظر العقوبات الآن أي نشاط مُتعلق بخطَي نورد ستريم 1 و2، رغم حالة السكون التي لحقت بخط نورد ستريم بعد تخريبه عام 2022.
اكتشاف النفط في بولندا
في خطوة جريئة لتعزيز سيادة بولندا في مجال الطاقة، أعلنت بولندا اكتشاف أكبر مكامنها الهيدروكربونية على الإطلاق في بحر البلطيق: 22 مليون طن من النفط و5 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي.
ورغم الأهمية الجيوسياسية لهذا الاكتشاف لأوروبا الوسطى والشرقية، فإن تأثيره الاقتصادي الكلي في الأسواق العالمية سيكون محدودًا.
رغم ذلك، فإن توقيت إعلان وارسو -في ظل تشديد قوانين الاتحاد الأوروبي وتزايد الاستياء من تكاليف الطاقة- يُضيف زخمًا للنقاشات داخل الاتحاد الأوروبي حول الاكتفاء الذاتي.
من جهتها، أعربت ألمانيا عن مخاوف بيئية بشأن الحفر البحري، لكن الهدف الأوسع للاتحاد الأوروبي -الاستقلال التام في مجال الطاقة عن روسيا بحلول عام 2027- يجعل المقاومة غير محتملة.
وقد ربطت الحكومة البولندية الاكتشاف بطموحات مبادرة البحار الـ3 في مجال البنية التحتية، ومن المتوقع أن تسعى للحصول على تمويل من الاتحاد الأوروبي لتسريع عمليات الاستخراج.
مفارقة غازبروم
على الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية تسخر من تراجع القيمة السوقية لشركة غازبروم الروسية (Gazprom)، مُشبّهةً إياها بشركات تصنيع الألعاب الصينية، تواصل الشركة توسيع حجم صادراتها.
وقد رفعت محكمة لاهاي مؤخرًا الحجز على أصول غازبروم الأوروبية عقب دعوى قضائية أوكرانية، مؤكدةً بذلك مبدأ الحصانة السيادية.
في غضون ذلك، يُشير الأداء الفعلي للشركة إلى قصة مختلفة؛ فقد زوّدت غازبروم الاتحاد الأوروبي بـ54.45 مليار متر مكعب في الأشهر الـ5 الأولى من عام 2025، بزيادة قدرها 21% على أساس سنوي. وتحتل غازبروم، حاليًا، المرتبة الثانية بعد النرويج في واردات الغاز من الاتحاد الأوروبي.

وفقًا لمكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات)، ارتفعت حصة روسيا في سوق الغاز في الاتحاد الأوروبي من 14.2% في عام 2023 إلى 18.3% في عام 2025.
وقد دفع الاتحاد الأوروبي 2.55 مليار يورو (3 مليارات دولار) مقابل الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار 2025 وحدها.
وتشهد واردات أوروبا من الغاز المسال من روسيا ازدهارًا ملحوظًا، إذ سُلمت 11.4 مليار متر مكعب في النصف الأول من عام 2025، بزيادة قدرها 27.5% في يونيو/حزيران الماضي.
(يورو = 1.18 دولارًا أميركيًا)
ووفقًا لبيانات مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف (CREA)، دفع الاتحاد الأوروبي 21.9 مليار يورو لروسيا مقابل الغاز والنفط في عام 2024.
وهذا يزيد بمقدار 3.2 مليار يورو عن إجمالي مساعدات الاتحاد لأوكرانيا (18.7 مليار يورو)، وفقًا لمعهد كيل للاقتصاد العالمي (IfW Kiel).
وقد استحوذت فرنسا والمجر وإسبانيا وسلوفاكيا على أكثر من 50% من هذه الواردات.
وعلى الرغم من خطاب بروكسل، فإن الخطة التفصيلية المنقحة تسمح الآن بتصنيف المشتريات على أنها "أسرار صناعية"، ما يُنهي فعليًا التزامات الإبلاغ العام.
شبكات الظل والوسطاء والمناطق الرمادية القانونية
لا تزال خطة الاتحاد الأوروبي للتخلص من سيطرة قطاع الطاقة الروسي بحلول عام 2027 هدفًا رسميًا، لكن البنية التجارية الفعلية تروي قصة مختلفة.
فقد أنشأ كبار المستوردين كيانات وهمية ومكاتب تمثيلية في الإمارات العربية المتحدة وتركيا وآسيا الوسطى للتوسط في مشتريات الوقود الروسي.
ويحصل هؤلاء الوسطاء على هامش ربح يتراوح بين 20% و30%، في حين تغض الحكومات الوطنية الطرف بموجب بنود "الضرورة الإستراتيجية".
وتتضمّن الوثيقة المرفقة بحزمة العقوبات الـ18 ملحقًا يسمح بـ"استثناءات مؤقتة" للدول غير القادرة على تنويع مصادر دخلها بصورة كاملة.
من ناحيتها، تظل المجر وسلوفاكيا معفيتين من قيود خطوط الأنابيب، وستستمر واردات جمهورية التشيك في ظل البنية التحتية القديمة لاتفاقية "تي إيه إل+" (+TAL).
ووافقت بروكسل بهدوء على "تعليق الإفصاح العلني" عن الواردات روسية المصدر ما لم تُصرّح بذلك حكومات الدول الأعضاء، وهو اعترافٌ بواقع الطاقة المتشرذم في الاتحاد.
في يوليو/حزيران 2025، من المتوقع أن تنخفض إيرادات روسيا من النفط والغاز بنسبة 37% على أساس سنوي، لتصل إلى 680 مليار روبل (8 مليارات و840 مليون دولار)، وفقًا لحسابات رويترز المستندة إلى أحجام الصادرات وأسعار السلع الأساسية وسعر صرف الروبل.
(روبل روسي = 0.013 دولارًا أميركيًا)
ورغم أن هذا يمثّل زيادة بنسبة 37% عن إيرادات يونيو/حزيران الماضي، البالغة 528 مليار روبل، فإن هذا الارتفاع يُعزى بصورة كبيرة إلى دفع ضريبة الدخل الإضافية الفصلية (NDD) على إنتاج الهيدروكربونات، دفعةً واحدة.
ولولا هذه الزيادة المؤقتة، لظلت ديناميكيات الإيرادات سلبيةً تمامًا. في يونيو/حزيران الماضي، انخفضت صادرات روسيا من النفط والمنتجات النفطية بمقدار 100 ألف برميل يوميًا، لتصل إلى 7.23 مليون برميل يوميًا.
وانخفض إجمالي إيرادات الطاقة إلى 494.8 مليار روبل، وهو أدنى إجمالي شهري منذ يناير/كانون الثاني 2023.

حرب الطاقة التي يشنها الغرب على روسيا
تُشير حرب الطاقة التي يشنها الغرب على روسيا على جبهتَيْن، والتي تقودها ضغوط أميركية على المشترين وتصعيد تنظيمي من الاتحاد الأوروبي؛ إلى مرحلة متصاعدة من المواجهة الجيو-اقتصادية.
وتُعدّ النتائج المرجوة بعيدة كل البعد عن أن تكون مضمونة؛ فقد حدّت أساليب روسيا التكيفية -بالاستفادة من المبيعات المخفضة، والخدمات اللوجستية الموازية المعقدة، والتحالفات الجيوسياسية الجديدة- من الأضرار المالية.
ووسّعت موسكو حصتها السوقية في كل من صادرات خطوط الأنابيب والغاز المسال إلى أوروبا، في حين عزّزت تبعياتها في الصين والهند ودول الجنوب العالمي.
في هذه الأثناء، تتعرض وحدة الغرب لضغوط: ففي حين تُشرّع بروكسل، ترتجل الدول الأعضاء؛ وفي حين تُهدّد واشنطن، تنحرف بكين ونيودلهي.
ولا تتمثّل النتيجة طويلة المدى في عزلة روسيا، بل تجزئة أسواق الطاقة العالمية إلى فئات خاضعة للعقوبات، وشبه قانونية، وأخرى موازية تمامًا.
وسيؤدي هذا إلى إضعاف الشفافية، وزيادة تكاليف الامتثال، وتعميق الانقسام المنهجي في التجارة العالمية. وتُعد التداعيات الجيوسياسية عميقة: عالمٌ أصبح فيه الوصول إلى الطاقة محكومًا بالأسواق أو التحالفات، وبشبكات النفوذ والتهرب والضرورة الإستراتيجية.
لذلك، ينهار النظام القائم على القوانين -إن لم يكن قد انهار- تحت وطأة تناقضاته، حيث أصبحت الطاقة التي كانت في يوم من الأيام أداةً للقوة الروسية، نقطة ضعفها وأداة نفوذها الأكثر مرونة.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- قطاع الطاقة الروسي يواجه تحديات عقوبات الغرب وشراكة غير متكافئة مع الشرق (مقال)
- قطاع الطاقة الروسي يترقب تحولات جذرية في ظل تقلب أسعار النفط (مقال)
- أثر تقلب أسعار النفط في قطاع الطاقة الروسي.. ضربة للسياسات والإيرادات (مقال)
اقرأ أيضًا..
- أكبر مصفاة نفط في أفريقيا تخطط لرفع إنتاجها إلى 700 ألف برميل يوميًا
- نتائج أعمال إيني في الربع الثاني 2025 تهبط بالأرباح 18%
- صناعة الهيدروجين الأوروبية بنهاية النصف الأول 2025.. انتكاسات جديدة