رحلة المركز السعودي لكفاءة الطاقة.. تجربة رائدة عالميًا في الترشيد والاستدامة
سامر أبووردة

يمثّل المركز السعودي لكفاءة الطاقة نموذجًا فريدًا في إدارة استهلاك الطاقة وترشيده، إذ أسهم منذ تأسيسه في تحقيق وفورات ضخمة تتجاوز نصف مليون برميل نفط يوميًا حتى نهاية عام 2023.
لم تكن هذه الإنجازات محض مصادفة، بل جاءت نتيجة خطط إستراتيجية دقيقة وبرامج متعددة تهدف إلى تحسين كفاءة الطاقة في مختلف القطاعات، من المباني والصناعة إلى النقل والمنافع.
وعمل المركز السعودي لكفاءة الطاقة، منذ انطلاقه، على تطوير سياسات وبرامج تعزز من كفاءة استعمال الموارد، ما أدى إلى تحسين نمط الاستهلاك المجتمعي ورفع جودة المنتجات في السوق السعودية.
ولم يتوقف دور المركز عند هذا الحدّ، بل امتدّ ليشمل مبادرات تعليمية تهدف إلى دمج مفاهيم كفاءة الطاقة في المناهج الجامعية، ليصبح الوعي بالطاقة جزءًا من ثقافة المجتمع.
واليوم، وبعد مرور أكثر من عقد على إنشائه، أصبح المركز السعودي لكفاءة الطاقة مرجعًا عالميًا في هذا المجال، إذ يستفيد العديد من الدول من خبراته وتجربته الرائدة.
وفي هذا الإطار، تستعرض منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، كيف تمكَّن المركز من تحقيق هذه النجاحات، وما هي المبادرات التي أطلقها لضمان كفاءة الطاقة في مختلف القطاعات.
انطلاقة إستراتيجية نحو ترشيد الطاقة
في عام 2012، أُطلق البرنامج السعودي لكفاءة الطاقة بعد صدور قرار سامٍ يدعم إنشاء كيان متخصص يُعنى بتطوير سياسات ومعايير لترشيد الاستهلاك.
تشكَّل البرنامج من 12 فريق عمل بمشاركة أكثر من 30 جهة حكومية وشبه حكومية، إذ تولّت كل جهة الإشراف على مهام محددة وفقًا لاختصاصها، ما أسهم في تعزيز التنسيق والتكامل بين الجهات المختلفة، حسبما طالعته منصة الطاقة المتخصصة.
وبدأت الاجتماعات على مستوى القيادات والموظفين، واستمرت دون انقطاع حتى اليوم، إذ أدرك القائمون على البرنامج أن النجاح يتطلب المثابرة والعمل الجماعي.

حُلِّلَت بيانات استهلاك الطاقة في المملكة لمعرفة القطاعات الأكثر استهلاكًا، فتبيَّن أن قطاع الصناعة يتصدَّر بنسبة 44%، يليه قطاع المباني بنسبة 30%، ثم قطاع النقل بنسبة 20%، وبناءً على هذه البيانات، ركّز المركز جهوده على هذه القطاعات لتحقيق نتائج أسرع وأكبر.
تحسين كفاءة الطاقة في المباني
يستهلك قطاع المباني نحو 30% من إجمالي الطاقة الأولية في المملكة، ما يعادل 2.2 مليون برميل نفط مكافئ يوميًا.
ولأن أجهزة التكييف وحدها تمثّل أكثر من 60% من استهلاك الطاقة في المباني، أطلق المركز السعودي لكفاءة الطاقة مبادرات صارمة لضبط كفاءة الأجهزة الكهربائية، ومنع تصنيع أو استيراد أيّ أجهزة لا تتوافق مع الحدود الدنيا لكفاءة الطاقة.
ولم تقتصر الجهود على الأجهزة فقط، بل شملت أيضًا تطوير أنظمة العزل الحراري، وتوعية المستهلكين بأهمية استعمال تقنيات موفرة للطاقة، مثل النوافذ المزدوجة والإضاءة الموفرة للطاقة، ما أدى إلى تقليل استهلاك الكهرباء بشكل ملحوظ.

إجراءات تنظيمية لتعزيز كفاءة الطاقة
لم يقتصر عمل المركز السعودي لكفاءة الطاقة على توعية المستهلكين، بل شمل أيضًا تطوير مجموعة من الآليات التنظيمية، من أبرزها:
- وضع لوائح لترخيص مقدّمي خدمات كفاءة الطاقة ومدققي الطاقة المستقلين.
- إعداد الدليل الوطني للقياس والتحقق لضمان الامتثال للمعايير.
- إطلاق منصات إلكترونية لدعم مشروعات كفاءة الطاقة في القطاعات المختلفة.
- تأسيس الشركة الوطنية لخدمات كفاءة الطاقة "ترشيد"، التي تعدّ اليوم من أنجح شركات صندوق الاستثمارات العامة.
كفاءة الطاقة في قطاع النقل
يمثّل قطاع النقل البري 20% من استهلاك الطاقة الأولية في المملكة، أي ما يعادل مليون برميل نفط مكافئ يوميًا، لذا، كان من الضروري وضع سياسات جديدة لضبط استهلاك الوقود في المركبات.
وفي هذا الإطار، أطلق المركز السعودي لكفاءة الطاقة معيار "Saudi CAFE"، وهو الأول من نوعه في المنطقة، لضمان تحسين كفاءة استهلاك الوقود في السيارات الجديدة والمستعملة.
كما نُفّذت حملات توعوية لتشجيع المواطنين على استعمال المركبات ذات الكفاءة العالية، والاعتماد على النقل الجماعي، وتبنّي حلول النقل المستدام، مثل السيارات الكهربائية والهجينة، ما أسهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
كفاءة الطاقة في القطاع الصناعي
يعدّ القطاع الصناعي الأكثر استهلاكًا للطاقة في المملكة بنسبة 44%، أي ما يعادل 1.45 مليون برميل نفط مكافئ يوميًا، وتُشكّل الصناعات الكبرى مثل البتروكيماويات، والحديد، والأسمنت، والألومنيوم نحو 85% من إجمالي الطاقة المستهلكة في هذا القطاع.
وبهدف تحسين كفاءة استهلاك الطاقة في المصانع، أطلق المركز السعودي لكفاءة الطاقة مبادرات تتضمن:
- إلزام المصانع بتطبيق تقنيات حديثة تُقلِّل الهدر في الطاقة.
- تقديم حوافز مالية للشركات التي تحقق معدلات كفاءة مرتفعة.
- دعم الأبحاث والتطوير في مجالات الطاقة المتجددة وتقنيات إعادة التدوير الحراري.
وعلى ذلك، أسهمت هذه الإجراءات في خفض استهلاك الوقود في المصانع الكبرى، ما انعكس إيجابًا على البيئة، وخفّض من الانبعاثات الكربونية.
دور قطاع المنافع في ترشيد الطاقة
يستهلك قطاع المنافع، الذي يشمل محطات توليد الكهرباء وإنتاج المياه، نحو 38% من الطاقة الأولية في المملكة، ما يعادل 1.9 مليون برميل نفط مكافئ يوميًا.
ونتيجة لذلك، أدرك المركز السعودي لكفاءة الطاقة أهمية هذا القطاع، فعمل على وضع إطار تنظيمي يحدد معايير لكفاءة الطاقة في المحطات، ومنح الشركات المشغلة مهلة 5 سنوات لتحقيق هذه الأهداف.
وشملت المبادرات تطوير محطات توليد الكهرباء بالاعتماد على تقنيات عالية الكفاءة، مثل التوربينات الغازية المتقدمة، وتحسين كفاءة محطات تحلية المياه باستعمال أنظمة موفرة للطاقة، ما أدى إلى تقليل الاستهلاك بشكل كبير.
كفاءة الطاقة في رؤية السعودية 2030
لم يعد دور المركز السعودي لكفاءة الطاقة مقتصرًا على تطبيق المعايير محليًا، بل أصبح نموذجًا يُحتذى به عالميًا، إذ بدأ في تصدير خبراته إلى دول أخرى، من خلال اتفاقيات تعاون وتبادل للمعرفة.
وتتماشى جهود المركز مع رؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى تحقيق أعلى مستويات كفاءة الطاقة وتقليل الانبعاثات الكربونية، من خلال الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتحفيز الابتكارات في مجال ترشيد الاستهلاك.

ويُعدّ ما حققه المركز السعودي لكفاءة الطاقة، خلال العقد الماضي، إنجازًا استثنائيًا، يبرهن على أن التخطيط السليم والالتزام بالمعايير يمكن أن يسهم في تحقيق وفورات ضخمة، وتحقيق الاستدامة على المدى البعيد.
وتشكّل هذه التجربة الفريدة نموذجًا ملهمًا لدول العالم الساعية إلى تحسين كفاءة استعمال مواردها الطاقية.
موضوعات متعلقة..
- وادي الظهران.. نموذج سعودي يدعم الابتكار التقني
- مشروع بيشة.. 6 معلومات عن أكبر محطة تخزين كهرباء في الشرق الأوسط وأفريقيا
اقرأ أيضًا..
- أنس الحجي: سياسات ترمب تجاه كندا متناقضة.. وهذا أثرها في أسواق النفط
- طاقة الرياح البحرية العائمة في الصين تحقق إنجازًا هو الأول من نوعه
- مشروع لإنتاج الهيدروجين الأخضر في منصة نفط بحرية
- صادرات نفط كردستان العراق.. تركيا تعلن موقفها من تشغيل خط الأنابيب
المصادر..
- كيف تحوّل المركز السعودي لكفاءة الطاقة إلى أنموذج تحتذي به الدول؟ من العدد الثالث لنشرة "طاقة".
- إنجازات المركز السعودي لكفاءة الطاقة من الموقع الرسمي للمركز.