مقالات منوعةالمقالاترئيسيةمنوعات

البيئة في غزة.. كيف دمرت حرب الـ471 يومًا سبل العيش بالقطاع؟ (مقال)

د.منال سخري

تمثّل البيئة في غزة الحروب نموذجًا واضحًا للأثر البيئي المدمِّر للحروب، التي لا تُعدّ مجرد صراعات سياسية أو عسكرية، بل تحمل في طيّاتها كوارث بيئية تدوم آثارها لعقود.

وتسببت الأعمال العدائية التي تشنّها إسرائيل في تدمير واسع النطاق للبنية التحتية والبيئة، مما ألقى بظلاله على صحة السكان وأمنهم البيئي.

وشكّل القطاع الزراعي في غزة ركيزة أساسية للاقتصاد المحلّي، إلّا أن القطاع عانى من انعدام الأمن الغذائي لسنوات.

وانعكس ذلك على فقدان سبل العيش، وتآكل الهوية الثقافية المرتبطة بالأرض، لا سيما فيما يتعلق بزراعة أشجار الزيتون، التي لا تمثّل فقط مصدرًا غذائيًا، بل تحمل رمزية ثقافية عميقة، وأدت هذه التحديات إلى خسائر اقتصادية كبيرة.

الزراعة في غزة

من إجمالي مساحة قطاع غزة البالغ 36.41 ألف هكتار، يُستعمَل 42% (أي 15.053 ألف هكتار) للزراعة، وأسفر النزاع المستمر في عن أضرار كبيرة في القطاع الزراعي (الأراضي الزراعية، والبيوت البلاستيكية، والبنية التحتية الزراعية، والآبار الزراعية، والألواح الشمسية وغيرها.

وكانت الزراعة تشكّل نحو 10% من اقتصاد غزة، إذ اعتمد أكثر من 560 ألف شخص بشكل كامل أو جزئي على الزراعة، والرعي، أو الصيد، مصدرًا رئيسًا لكسب العيش.

وفي عام 2022، بلغت قيمة صادرات غزة من المنتجات الزراعية والبحرية 67.3 مليون دولار، شملت أساسًا المحاصيل الطازجة مثل الفراولة، والطماطم، والخيار، والباذنجان، والفلفل الحلو، والأسماك الطازجة.

أزمات البيئة في غزة

في دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNEP) بين عامي 2019 و2020، وُثِّقَت أدلة واضحة على تدهور البيئة في غزة، استنادًا إلى مراجعة شاملة للبيانات الرسمية، وتقارير المنظمات الدولية، والأبحاث العلمية المحكمة.

كما شمل التحليل مشاورات مع الجهات المعنية، إلى جانب زيارات ميدانية لأكثر من 40 موقعًا، مما كشف مجموعة من النتائج الرئيسة التي تعكس حجم الأزمة البيئية في المنطقة:

أزمة المياه العذبة: تفاقمت بسبب الإفراط في استخراج المياه من الخزان الساحلي لمواكبة الطلب المتزايد، مما أدى إلى تدهور جودة المياه نتيجة لاستعمال المبيدات الزراعية وتسرب مياه الصرف الصحي.

ووصلت مستويات النترات في المياه إلى 6 أضعاف الحدّ الذي توصي به منظمة الصحة العالمية (WHO)، إضافة إلى ارتفاع معدلات الكلوريد، مما يشكّل مخاطر صحية خاصة على الأطفال والنساء الحوامل.

أثار الدمار الذي خلقته الحرب في غزة
أثار الدمار الذي خلّفته الحرب في غزة - أرشيفية

تلوث البيئة البحرية: بسبب تدفُّق مياه الصرف الصحي غير المعالجة أو المعالجة جزئيًا إلى البحر، مما أدى إلى تدهور النظم البيئية البحرية، وتأثيره بصحة السكان، إضافة إلى عرقلة عمليات تحلية المياه.

تلوث التربة: نتيجة تصريف مياه الصرف الصحي الخام في الوديان والأراضي الزراعية، بالإضافة إلى تراكم النفايات الصلبة في مكبات عشوائية، كثير منها يقع بالقرب من التجمعات السكانية والمناطق الزراعية.

التلوث الصناعي: الناجم عن عمليات غير منظمة لمعالجة النفايات الإلكترونية وتفكيك المركبات، ما أدى إلى ارتفاع حالات التسمم بالرصاص بين الأطفال.

حال البيئة في غزة بعد471 يومًا من الحرب

كشفت أحدث التقييمات الجغرافية التي أجرتها منظمة الأغذية والزراعة (FAO) ومركز الأمم المتحدة للصور الفضائية (UNOSAT) بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2024 دمارًا واسعًا طال الأراضي الزراعية في غزة.

وتضرَّر، أو دُمِّر، 75% من الأراضي الزراعية، بما في ذلك بساتين الزيتون، بينما أصبح أكثر من ثلثي الآبار الزراعية (1531 بئرًا) غير صالح للعمل، مما أدى إلى شلّ عمليات الري.

كما تكبَّد قطاع الثروة الحيوانية خسائر بلغت 96%، مع توقُّف شبه كامل لإنتاج الحليب، في حين لم ينجُ سوى 1% من الدواجن، ووصل قطاع الصيد إلى حافة الانهيار، ما فاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي.

تداعيات الحرب على البيئة في غزة

يؤدي دمار البيئة في غزة إلى مخاطر صحية مباشرة، إذ يؤثّر التلوث وتدهور التربة بالإنتاج الغذائي والأمن الغذائي.
وتشير التقديرات إلى أن الأراضي الزراعية في غزة قد تكون ملوثة بالمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية المرتبطة بالذخائر العسكرية.

ويمكن رصد تداعيات الحرب على أوضاع البيئة في غزة وفق ما سبق توثيقه في نزاعات سابقة، في التالي:

1- تدمير النظم البيئية

الحروب في غزة لم تقتصر على البشر والبنية التحتية، بل امتدت لتدمّر النظم البيئية، إذ تعرضت الغابات القليلة والبساتين الزراعية للقصف، مما أدى إلى فقدان موائل للعديد من الكائنات الحية، كما أن تدمير السواحل بسبب القصف أدى إلى اضطراب النظام البيئي البحري، مهددًا التنوع البيولوجي في المنطقة.

2- تلوث التربة والمياه

أدى القصف المكثف واستعمال الذخائر الثقيلة إلى تلوث التربة بمواد سامّة ومعادن ثقيلة، مثل الرصاص والزئبق، كما أنّ تسرُّب الوقود من المنشآت المستهدفة زادَ من تدهور خصوبة التربة، مما أثّر مباشرةً بالزراعة، التي تُعدّ مصدر رزق رئيسًا لكثير من سكان القطاع.

أثار الدمار الذي خلقته الحرب في غزة
أثار الدمار الذي خلّفته الحرب في غزة - أرشيفية

كما يُتوقع أن يؤدي التدمير الميكانيكي للأراضي، واقتلاع الأشجار، ومرور المركبات العسكرية الثقيلة، إلى تدهور الطبقة السطحية للتربة، مما يجعلها غير صالحة للزراعة دون عمليات استصلاح مكثفة، وهي عمليات غير متاحة حاليًا في غزة.
إضافةً إلى ذلك، يُنذر فقدان الغطاء النباتي بتسارع التصحر وتآكل التربة، خاصة مع هطول الأمطار.

أمّا المياه، فقد كانت من أبرز ضحايا الحرب البيئية، إذ أدى تدمير شبكات الصرف الصحي (50% من الشبكات دمرت) والبنية التحتية للمياه إلى تلوث المياه الجوفية، وهي المصدر الرئيس للشرب في غزة.

ووفقًا لتقارير محلية ودولية، أصبحت نسبة كبيرة من المياه غير صالحة للاستعمال البشري بسبب تسرب المواد الكيميائية والبكتيريا الضارة.

3- تراكم الحطام والأنقاض

بعد انتهاء كل جولة من الصراع، تترك الحرب خلفها كميات هائلة من الركام والأنقاض، وهذه المواد تحتوي غالبًا على ملوثات خطيرة مثل الأسبستوس والمعادن الثقيلة التي تؤثّر سلبًا بالبيئة وصحة الإنسان عند إعادة استعمالها أو التخلص منها عشوائيًا.

4- تلوث الهواء

خلال الحرب، يؤدي القصف والانفجارات إلى تصاعد كميات كبيرة من الغبار والمواد السامّة في الهواء، وأظهرت الدراسات ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية بين سكان غزة، خاصة الأطفال وكبار السن، نتيجة استنشاق هذه الملوثات.

حلول مستدامة من أجل البيئة في غزة

رغم حجم الدمار، هناك جهود محلية ودولية تسعى لتقليل الأثر البيئي وإعادة إعمار غزة بشكل مستدام، من بين الحلول المطروحة -بالرغم من أن كل الحلول ستحتاج إلى الدعم-:

  1. إعادة تدوير الأنقاض: تحويل الركام إلى مواد بناء قابلة للاستعمال.
  2. ترميم التربة: استعمال تقنيات الزراعة المستدامة لإعادة تأهيل الأراضي.
  3. تنقية المياه: إنشاء محطات لتحلية المياه ومعالجتها لتلبية احتياجات السكان.
  4. التعاون الدولي: إشراك المنظمات البيئية في وضع خطط طويلة الأمد لإعادة بناء النظم البيئية المتضررة.

الحرب على غزة لم تترك آثارًا إنسانية فحسب، بل امتدّت لتشمل البيئة، مهددةً صحة السكان وأمنهم الغذائي والمائي.

ومع ذلك، فإن الاستثمار في حلول مستدامة يمكن أن يحوّل الكارثة إلى فرصة لإعادة البناء بشكل يعزز التوازن بين الإنسان والطبيعة، ويتطلب ذلك تضافر الجهود المحلية والدولية لإعادة الحياة إلى بيئة أنهكتها الحروب.

* د.منال سخري - خبيرة في السياسات البيئية والتنمية المستدامة.

* هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق