حرق الغاز في المكسيك يهدر مليارات الدولارات ويختبر مصداقية "بيمكس"
عمرو عز الدين
تختبر مشكلة حرق الغاز في المكسيك مصداقية شركة النفط الحكومية (بيمكس) التي تعهدت للمرة الثانية بتخصيص استثمارات كبيرة لمعالجة هذه الأزمة على المديين المتوسط والطويل، إلى جانب إهدار مليارات الدولارات التي كانت ستستفيد بها موازنة الدولة بدلًا من عمليات الحرق.
تهدف خطة بيمكس إلى تحسين البنية التحتية لحقول النفط والغاز ومحطات المعالجة باستثمارات في حدود 2 مليار دولار، وهو ثاني تعهّد تقطعه الشركة على نفسها منذ عام 2016، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
ويترقب أنصار البيئة والمناخ وفاء الشركة المكسيكية الحكومية بعهدها في مكافحة حرق الغاز هذه المرة، وسط مخاوف من تكرار التنصل للخطة في منتصف الطريق، كما حدث لخطة 2016، وفقًا لتقرير نشرته وكالة رويترز.
لم تكشف الشركة تفاصيل حول رقم التعهد الاستثماري الجديد ومدة إنفاقه وكيفية ذلك، كما لم تعلن بعد عن مصادر هذه الأموال، وما إذا كانت ستأتي من خزانتها أم من خزانة الدولة، أم خليطًا من قروض محلية ودولية، ما يعزز مخاوف المراقبين حول جدّية الخطة.
التنصل من خطة 2016
في أواخر عام 2016، وقّعت بيمكس اتفاقًا مع هيئة الاستثمار الحكومية، لمعالجة مشكلة حرق الغاز في المكسيك، والزائد عن الحدّ، بحقول النفط والغاز الرئيسة في البلاد.
بلغ حجم برنامج معالجة حرق الغاز حينها 3 مليارات دولار، وكان الهدف منه تجنّب تراكم الغرامات الباهظة المفروضة على الشركة من هيئات السلامة البيئة في البلاد، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وبعد مرور 5 سنوات حدث التخلي عن هذه الخطة التي لم تحظَ بدعاية كبيرة، وفقًا لمصادر تحدثت إلى وكالة رويترز، ما يعني استمرار تفاقم المشكلات البيئية في منطقة حقول كو مالوب زاب البحرية الواقعة بخليج المكسيك.
تشير هذه الانتكاسة النفطية في المكسيك إلى إخفاق الجهود الرامية لكبح جماح عملاق النفط "بيمكس" فيما يتعلق بتلويث البيئة عبر ترك البنية التحتية لحقول النفط والغاز دون إصلاح يعالج كثافة عمليات احتراق غاز الميثان والغازات الحارقة.
كما تشير الانتكاسة إلى مدى نفوذ الشركة الحكومية ودرجة تأثيرها الكبيرة في توجهات أعلى الدوائر الحكومية والرقابية المشكلة لهرم السلطة في البلد الواقع على حدود الولايات المتحدة الأميركية.
3 دول تفرض عقوبات صارمة
اتجهت عدّة دول نامية لضخ استثمارات كبيرة في مجال تطوير البنية التحتية لحقول النفط والغاز، لضمان خفض انبعاثاتها وآثارها الملوثة للبيئة .
كما تفرض دول، مثل كولومبيا، وقازاخستان، ونيجيريا، عقوبات صارمة على الشركات العاملة في مجالات الطاقة على عكس المكسيك التي تبدو متساهلة إلى أبعد الحدود مع "بيمكس".
يفسر بعض الخبراء تراجع بيمكس عن خطة معالجة الحرق في الأساس بسبب انخفاض أسعار الغاز، ما جعل مسؤولي الشركة يعزفون عن إكمالها لأسباب اقتصادية، مع توجيه الموارد المالية إلى أولويات زيادة إنتاج النفط.
اتخذ مسؤولو الشركة هذا القرار استنادًا إلى التكلفة الاقتصادية بغضّ النظر عن التكلفة البيئية والغرامات المحتمل فرضها من الجهات المنظمة والرقابية في المكسيك.
الغرامات لا تكفي للردع
تقول المسؤولة السابقة في وزارة الطاقة المكسيكية روزانتي باريوس، إن الغرامات لا تمثّل رادعًا كافيًا لدفع شركة حكومية إلى تغيير خططها وطريقة عملها بسهولة.
تتمثل المشكلة الأساسية لعمليات شركات الطاقة في حجم الانبعاثات الصادرة عن حرق غاز الميثان المصاحب لحرق الغاز في المكسيك، والذي يتّهمه علماء المناخ بالتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري بصورة رئيسة.
ويشدد علماء المناخ على أهمية تطوير البنية التحتية لحقول النفط والغاز ومحطات المعالجة عبر إدخال تقنيات تلتقط غاز الميثان وتعالجه بدلًا من حرقه مع مكونات الغاز الأخرى.
ويطالب العلماء شركات النفط بالتوقف عن ممارسة عمليات حرق الغاز بطريقة اعتيادية لتوليد الكهرباء، والصبر على عمليات التقاط غاز الميثان والغازات الحارقة بدلًا من حرقها، كما هي الحال بحقول النفط في سيبيريا.
كما يشددون على ضرورة التأكد من حرق شعلات المحطات والمصانع بصورة نظيفة استنادًا إلى حقائق علمية تشير إلى أن غاز الميثان يتسرب من المشاعل سيئة الاحتراق ومن خطوط الأنابيب والآبار ومراكز معالجة الغاز.
وتتهرب الشركات تاريخيًا من تقنيات التقاط الميثان ومعالجته لارتفاع تكلفته مقارنةً برخص عمليات التخلص منه خلال حرق الغاز المصاحب، إلا أن تزايد المخاوف بشأن المناخ قد شكّل ضغوطًا هائلة على الشركات والدول في الوقت الحالي.
ثاني أكبر مصدر لانبعاثات الغاز
تتعرض المكسيك- ثاني أكبر مصدر للانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز في العالم- لضغوط متزايدة من الولايات المتحدة الأميركية، لإلزامها ببذل خطوات جادة في خفض حرق الغاز وانبعاثات الميثان، وسط توقعات بأن تزداد المشكلة سوءًا مع تقدّم الحقول في العمر.
وترفض بيمكس -التي تنتج 40% من إجمالي النفط في المكسيك- التقارير التي تشكّك في جهودها لخفض الانبعاثات، وتقول، إنها تبذل جهودًا كبيرة لخفض حرق النفايات وغيرها.
وتوقفت خطة الشركة في نهاية ولاية سلف الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادوا، ولم تُستَأنَف منذ تولّيه السلطة نهاية 2018، رغم تزايد المخاوف البيئية.
وتبنّى الرئيس لوبيز اتجاهًا شديد المعاكسة لأنصار البيئة والمناخ، إذ تعهَّد خلال مدة رئاسته بمساعدة بيمكس لزيادة إنتاجها من النفط بعد عقد من الانخفاض، حتى لو أدى ذلك إلى ارتفاع الانبعاثات.
اضطر لوبيز هذا العام الجاري (2022) إلى إعلان خطة مستقبلية لشركة بيمكس، تستهدف تحسين البنية التحتية وتزويدها بالتقنيات اللازمة لخفض انبعاثات الغازات الحارقة والميثان بضغط من الحملات المناخية المتزايدة.
التزام بتصفير الحرق في 2023
وقّعت المكسيك تعهدًا مدعومًا من البنك الدولي بخفض حرق الغاز الروتيني إلى الصفر بحلول عام 2030، ويشاركها في هذا التوقيع 33 دولة و51 شركة حول العالم.
وعلى الرغم من توقيع المكسيك على هذه الاتفاقية، فإن معدلات الحرق في حقول النفط والغاز بها سجلت مستويات قياسية خلال عام 2021، وفقًا لتحليل أجرته مجموعة مراقبة الأرض التابعة لمدرسة كولورادو للمناجم على صور أقمار صناعية ملتقطة لحقول المكسيك.
وتشير النتائج الأولية للتحليل إلى انخفاض الاحتراق بصورة طفيفة خلال الـ7 أشهر الأولى من عام 2022 (حتى يوليو/تموز)، لكنها ما تزال بالقرب من المستويات القياسية المسجلة خلال العام الماضي.
وتتفق هذه النتائج مع دراسة سابقة لمجموعة بحثية في المكسيك رصدت ارتفاع معدلات حرق الغاز من 5.8 مليار مكعب في 2020، إلى 6.5 مليار مكعب في 2021، بنسبة زيادة تتجاوز 12%.
وقالت مجموعة المكسيك التي حلّلت صورًا التقطتها الأقمار الصناعية : "إن ذروة عمليات حرق الغاز في المكسيك كانت في مطلع عام 2021، لكنها ظلت مرتفعة حتى نهاية العام، لتتجاوز معدلات 2020، التي حققت مستويات قياسية أيضًا".
كما أظهرت نتائج الدراسة ارتفاعًا في عدد المواقع التي شهدت عمليات حرق الغاز، من 170 موقعًا في 2020 إلى 181 في 2021، وفقًا لما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وتعني هذه الدراسات أن جهود المكسيك في التصدي للأزمة لا تُذكر مقارنةً بحجم المخاطر البيئة الناجمة عن عمليات احتراق الغاز بالحقول النفطية.
يزداد الأمر سوءًا في منطقة حقول "كو مالوب زاب" التي تُصنَّف بكونها أهم أصل نفطي في المكسيك رغم مرور 50 سنة على اكتشافها.
بيانات حرق الغاز في المكسيك
لا تنشر بيمكس بيانات عن حرق الغاز المصاحب في حقوق النفط الـ3 المكونة لمنطقة كو مالوب زاب، لكن بعض التقارير الصادرة عن الجهات المنظمة تفيد بارتفاع معدلات الحرق بصورة كبيرة منذ عام 2018، وفقًا لوكالة رويترز.
وتقول الهيئة التنظيمية للنفط والغاز في المكسيك، إن بيمكس أهدرت 37.7% من الغاز من خلال الحرق أو تنفيس الآبار والأنابيب من حقل كو فقط (أحد الحقول الثلاثة).
وتنص القوانين المنظمة لصناعة النفط والغاز في المكسيك على أن حدّ الهدر في احراق الغاز لا يجوز أن يتخطى حاجز 2%، إلّا أن بعض العلماء قد رصدوا معدلات أعلى في حقول المكسيك.
رصد علماء من جامعة البوليتكنيك الإسبانية -ومقرّها فالنسيا- انبعاثات ضخمة من غاز الميثان في جزء من البنية التحتية بمنطقة حقول كو مالوب زاب، خلال شهري ديسمبر/كانون الأول (2021)، وأغسطس/آب (2022).
بيمكس تطعن على الغرامة
أظهرت وثيقة مخالفة -اطّلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة- تعرُّض بيمكس لغرامة حديثة؛ بسبب تجاوز معدل الحرق في عام 2021، لكن الشركة طعنت على القرار، أمًلا في إلغائه.
وتخطط بيمكس لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي إلى 4.19 مليار قدم مكعبة يوميًا عام 2021، و5.25 مليار قدم مكعبة يوميًا في 2022، لكن أداءها ما يزال بعيدًا عن هذه المستويات.
وأعلنت بيمكس في عام 2021، اكتشاف حقل نفط باحتياطي مليار برميل في ولاية تاباسكو جنوب خليج المكسيك، إلى جانب حقل كويسكي المكتشف نهاية عام 2020، باحتوائه على 900 مليون برميل، ما يدعم قدرة الشركة الحكومية على تعزيز إنتاج النفط والغاز الطبيعي.
ويسيطر الغاز الطبيعي على أكثر من 60% من توليد الطاقة الكهربائية في البلاد، تليها الطاقة المتجددة بنحو 11.8% من الإجمالي.
خفض الانبعاثات بنسبة 22%
أقرّت المكسيك في عام 2012 قانونًا بشأن تغيّر المناخ ينص على زيادة الكهرباء النظفية في مزيج الكهرباء بالبلاد إلى 35% بحلول عام 2024، على أن يرتفع إلى 43% بحلول عام (2030).
وتخطط الدولة لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 22% بحلول 2030، مقارنة مع مستويات (2005)، ترتفع بعد ذلك إلى 50% بحلول عام ( 2050).
وارتفعت انبعاثات الكربون من قطاع الطاقة في المكسيك بنحو 4.8% على أساس سنوي، لتصل إلى 373.8 مليون طن في 2021.
بلغت احتياطيات النفط المؤكدة في المكسيك 5.99 مليار برميل بنهاية عام 2021، مقارنة بنحو 5.78 مليار برميل خلال عام 2020، وفقًا لتقديرات أويل آند غاز جورنال.
وتأتي غالبية الاحتياطيات النفطية من حقول بحرية في الجزء الجنوبي من البلاد، لا سيما حوض كامبيتشي (Campeche Basin)، كما تحتوي الأجزاء الشمالية من المكسيك على احتياطيات كبيرة في الأحواض البرية.
احتياطات ضخمة وإنتاج ضعيف
رغم الاحتياطيات الكبيرة من النفط، فإن ضعف الاستثمارات النفطية يضطر المكسيك لاستيراد المنتجات النفطية، فضلًا عن كونها مستوردًا صافيًا للغاز الطبيعي، وفق البيانات التي رصدتها وحدة أبحاث الطاقة.
وما تزال المكسيك رابع أكبر منتج للنفط في الأميركتين بعد الولايات المتحدة (16.58 مليون برميل يوميًا) وكندا (5.43 مليون برميل يوميًا) والبرازيل (2.99 مليون برميل يوميًا).
أمّا من حيث احتياطات الغاز، فتملك المكسيك 6.88 تريليون قدم مكعبة مؤكدة بنهاية عام 2021، وفقًا لتقديرات أويل آند غاز جورنال، لكن إنتاجها ما يزال متواضعًا.
بلغ إنتاج المكسيك من الغاز الطبيعي 29.2 مليار متر مكعب العام الماضي، مسجلًا أدنى مستوى منذ عام 1993، وكذلك منذ أن بلغ مستوى 52.5 مليار متر مكعب عام 2013.
اقرأ أيضًا..
- كوب 27.. فرنسا تطالب دولتين بتحمّل تكاليف تغير المناخ: "نحن الوحيدون من يدفع"
- اتهام أرامكو السعودية وسوناطراك الجزائرية بزيادة انبعاثات الميثان.. من يموّل التلاعب بالحقائق؟
- كوب 27.. تحالف بلجيكي يدرس مشروعًا ضخمًا لتخزين الهيدروجين الأخضر في مصر