المقالاترئيسيةسلايدر الرئيسيةعاجلمقالات النفطنفط

مقال - أذربيجان.. نفطها غيّر الجغرافيا والتاريخ

باكو نافست لندن وباريس في متاحفها ومكتباتها

ما من دولة نفطية غيرت مجرى التاريخ والجغرافيا مثل أذربيجان؛ فبسبب الغاز الصادر من تشققات الأرض، اشتعلت النار التي لا تنطفئ، وظهرت أعمدة النار الأبدية التي نتجت عنها عبادة النار والديانة الزرادشتية.

وبسبب نفط باكو، عاصمة أذربيجان، جاءت الشيوعية وأنهت الحكم القيصري في روسيا، وبسبب نفط باكو، تكونت إمبراطوريات نفطية ضخمة، تمددت في أنحاء العالم، بما فيها شركة شل، وبسبب نفط باكو، نُقِلَ النفط عبر قناة السويس إلى آسيا، كما أصبح نفط باكو الجائزة التي سيأخذها المنتصر في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبسبب نفط باكو، جاءت أموال جائزة نوبل!

كتب الأميركيون التاريخ الحديث؛ فأصبح الناس يؤرخون لبداية صناعة النفط العالمية منذ اكتشاف النفط في صيف 1859 في ولاية بنسلفانيا الأميركية، لكن النفط اكتشف في كندا قبل ذلك بعام، واكتشف في باكو قبل ذلك بـ11 عامًا، في صيف 1848، وعلى مدى قرون، كتب الرحالة والمؤرخون المسلمون عن النفط في منطقة باكو وما حولها، وكيفية تصفيته وبيعه وشحنه إلى مناطق أخرى.

عصر النفط

عصر النفط الحديث بدأ في أذربيجان، وليس في بنسلفانيا عام 1859 كما يدّعي الأميركيون، هذا النفط أسهم في نشوب الحرب العالمية الثانية، وغيّر مجرى التاريخ؛ فمع نهاية القرن الثامن عشر، أصبحت باكو عاصمة النفط في العالم؛ حيث أنتجت نصف احتياجات العالم من النفط وقتها، بعد حفر أكثر من 3000 بئر.

وهناك أسباب أخرى تجعلها تستحق لقب عاصمة النفط في العالم؛ ففي باكو حُفِرت أول بئر سطحية لاستخراج النفط في القرن الخامس عشر، وفي باكو استُخدِم هذا النفط في الإنارة فيما كانت العواصم الأوروبية لا تزال غارقة في الظلام، وحفِرت فيها أول بئر نفط في العالم وفق الشكل المعروف حاليًا وذلك في 1848.

احتياطيات النفط - أذربيجان

وفي باكو بُنِيت المصفاتان الأوليان للنفط والكيروسين في العالم عامي 1859 و1863 على التوالي، وضمت باكو أول مدرسة للنفط في العالم والتي أُسِّست عام 1874، وفي باكو بُنِيَت أولى ناقلات النفط في العالم التي سميت "زوروستر"، وبُنِي أول خط لأنابيب للنفط في العالم بين باكو وباتومي عام 1907، وفي باكو أُسِّس أول اتحاد لعمال النفط في العالم في أكتوبر/تشرين الأول 1906.

وحُفِرت أول بئر نفطية تحت الماء في العالم في مياه باكو عام 1923، واشتهِرت باكو تاريخيًا بأنها أحد أهم المراكز العالمية لتصنيع المعدات النفطية. كل هذه الأمور جعلتها ليست عاصمة فحسب، وإنما عاصمة عالمية للنفط.

ثورة النفط في باكو

نتج عن ثورة النفط في باكو ظهور إمبراطوريات عائلية نفطية، وكان أهمها عائلة روتشيلد المشهورة، وأغلب الناس لا يعرفون أن أموال جائزة نوبل جاءت من عائدات نفط أذربيجان؛ حيث إن عائلة نوبل كانت من العائلات البارزة في المنطقة، وأسهمت هاتان العائلتان، إضافة إلى عائلات أخرى، في تحويل باكو إلى عاصمة أدبية تنافس لندن وباريس وقتها؛ حيث بنو المدارس والمسارح والمكتبات ومباني عديدة ما زالت موجودة حتى اليوم.

مع ثورة النفط في المنطقة، والأمل في الحصول على عمل أو الثراء السريع، أصبحت باكو قبلة العمال ورجال الأعمال والمستثمرين، الجادّين والحالمين؛ فارتفع عدد سكان باكو أكثر من 10 أضعاف خلال 33 سنة بين عامي 1880 و1913، ويبلغ عدد سكانها اليوم نحو مليوني نسمة.

وازدهرت المدينة بشكل يضاهي العواصم الأوروبية وقتها؛ حيث كانت فيها 10 مكتبات عامة، و8 متاحف، و15 مستشفى، وارتفع عدد المدارس بشكل مضطرد حتى تجاوز 200 مدرسة، وكان من الطبيعي أن يزدهر القطاع المالي؛ حيث توجد في المدينة 8 بنوك.

ستالين.. وباكو

نتج عن الهجرة الضخمة إلى باكو بحثًا عن العمل أو الثروة تجمع عدد كبير من الشباب العمال فيها، ووجود عدد ضخم من العمال إلى جانب عائلات برجوازية عنية جدًا، مع ازدهار المدينة بالشكل الموصوف سابقًا جعلها هدفًا للشيوعيين، وعلى رأسهم ستالين، الذي اشتهر بديكتاتوريته ودمويته عندما أصبح قائدًا للاتحاد السوفيتي فيما بعد.

قدوم الشاب ستالين إلى باكو كان نذير شؤم للمدينة وأهلها؛ فقد حرض ستالين العمال على الإضراب والثورة، ونجح في ذلك، ونجاحه في باكو أسهم بشكل مباشر في إنجاح الثورة الروسية الشيوعية وإسقاط الحكم القيصري في 1917.. وهكذا أسهمت، مرة أخرى، باكو في تغيير مجرى التاريخ.

كانت باكو أكبر الخاسرين من الحكم الشيوعي؛ حيث انهارت الأنشطة في المدينة، وتدهور حال قصورها ومتاحفها ومكتباتها بعد أن أمّمت وحوِّلت إلى مواقع عامة تفتقر إلى الاهتمام والصيانة.

لسبب ما، وبقصد أو دون قصد، أو نتيجة حيلة من ملاك حقول النفط، اقتنعت قيادة الاتحاد السوفيتي بنضوب النفط في حقول باكو؛ فأُهمِلَت حقول النفط في المنطقة، وشاء رب العباد أن ينتهي الحكم الشيوعي، وبقيت باكو، وبقي نفطها الذي تعيش من إيراداته الآن.

هتلر.. وباكو

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصبحت باكو هدفًا لديكتاتور دموي آخر: أدولف هتلر، زعيم ألمانيا النازية، كانت ألمانيا متعطشة للنفط، مع إدراك هتلر وقادته أن من يسيطر على منابع النفط لن يربح الحرب فقط، ولكن سيسيطر على العالم أيضًا، ولا أدل على ذلك أكثر مما حصل في حفل عيد ميلاد هتلر؛ حيث قدم له جنرالاته كعكة على شكل خريطة منطقة القوقاز؛ فاقتطع هتلر «باكو» من الكعكة وأكلها تأكيدًا على أهميتها بمثابة عاصمة عالمية للنفط، وشاء الله أن ينتهي هتلر ولم تنتهِ باكو!

كلينتون.. وباكو

ما إن انهار الاتحاد السوفيتي واستقلّت أذربيجان، واتخذت من باكو عاصمة لها، حتى استعادت باكو جزءًا من أهميتها، وأصبحت قبلة رؤساء شركات النفط العالمية، وتضافرت عوامل اقتصادية وسياسية وجغرافية أعطتها ميزات إضافية، نتج عنها سباق محموم بين شركات النفط العالمية للحصول على امتيازات وعقود لتطوير حقول النفط والغاز في المنطقة.

وعبّر الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، عن اهتمامه بباكو كما فعل ستالين وهتلر من قبل؛ إذ أدهش كثيرين وهو لا يزال رئيسًا خلال محاضرة كان يلقيها رئيس شركة "أمكو"، دان ستسي، قبل أن تشتري الشركة «شركة البترول البريطانية»، عندما اعترض على المحاضر ورسم أمام الحاضرين خريطة القوقاز بالتفصيل مع تحديد مكان باكو. إن اهتمام زعماء 3 دول عظمى بباكو تحديدًا يجعلها عاصمة عالمية للنفط.

الطاقة المتجددة في أذربيجان - محطات الرياحباكو.. مدينة الرياح

واستقلت أذربيجان عن الاتحاد السوفيتي في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1991، ويبلغ عدد سكان أذربيجان 8 ملايين شخص معظمهم من المسلمين الذين تساوي نسبتهم 93.4%، وبعد استقلال أذربيجان حصل خلاف حدودي بينها وبين أرمينيا تطور إلى حرب، ونتج عنه احتلال أرمينيا إقليم ناغورنو كاراباخ وترحيل سكانه إلى المناطق الأخرى في أذربيجان، إلا أن أذربيجان، بمساعدة عسكرية تركية وغض طرف من روسيا، استطاعت استعادة جزء كبير من الإقليم في 2020، ثم وُقِّعت معاهدة بين البلدين تنهي الصراع بينهما.

واختلف العلماء في أسباب تسمية العاصمة بباكو؛ إلا أن الأرجح أنها تعني "مدينة الرياح"، خصوصًا أن باكو تشتهر بتقلب طقسها وشدة رياحها، ونظرًا لشدة رياحها على مدار السنة تقريبًا، وُقِّعَت مذكرة تفاهم بين وزارة الطاقة الأذربيجانية والبنك الدولي لتطوير طاقة الرياح، خاصة في المناطق البحرية، وإذا ما استُفِيد من هذه الطاقة حسب ما هو مخطط؛ فإنه يمكن لأذربيجان أن تصبح من أكبر مصدري الكهرباء في العالم؛ فقد قدر البنك الدولي أن الطاقة الهوائية في المنطقة تصل إلى 157 غيغاواط، وهذا يمثل نحو 20 ضعف الطاقة الكهربائية المركبة في أذربيجان!

وتُصدِّر أذربيجان الكهرباء وتستوردها مع دول مجاورة؛ حيث إن هناك ربطًا كهربائيًا بينها وبين إيران وروسيا وجورجيا، وإذا ما تحقق هدف توليد الكهرباء من الرياح في أذربيجان بكميات كبيرة؛ فإن عمليات الربط الكهربائي مع الدول المجاورة ستمكّن أذربيجان من تصدير الكهرباء بكميات أكبر إلى روسيا وجورجيا، وربما عدوتها القديمة أرمينيا، ومنها إلى تركيا والعراق وسوريا.

قصة مصورة

في قصة مصورة صنعها فريق الطاقة، بعنوان "باكو.. هنا أول اكتشاف للنفط في العصر الحديث" يمكنكم إلقاء الضوء على لقطات من حياة باكو "النفطية"، وكيف كانت تتم عمليات استخراج النفط، وشكل أول منصات صناعة النفط في العالم، ومن أيّ مادة صُنِعت.

*نسخة مختلفة من هذا المقال نشرت في جريدة الحياة في عام 2012.

*الدكتور أنس الحجي - خبير أسواق الطاقة ومستشار تحرير "الطاقة"

  • للتواصل مع الدكتور أنس الحجي (هنا).
  • للتواصل مع منصة الطاقة (هنا).

مقالات ذات علاقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق