- صدام حسين لم يُغير تسعيرة النفط العراقي من الدولار إلى اليورو
- بعضهم يتحدّث دون وعي عن مؤامرة أميركية-سعودية لتسعير النفط بالدولار
- وجود تسعير باليوان أو غيره هو مجرد تحويل السعر بالدولار إلى عملة أخرى
- الدول النفطية لن تقبل بتسعير النفط بالبيتكوين والعملات المشفرة لأنها لاتقوم مقام الدولار
بداية، لا بدّ من توضيح أن النقود الحالية لها قيمة لثقة الناس بها، فإذا فقد الناس الثقة بها تصبح ورقًا مثل أيّ ورقة.. هذا هو الحال في لبنان الآن، وفي فنزويلا.
تاريخيًا، كانت النقود أيّ شيء تعارف عليه الناس مقياسًا للقيمة ووسيلة للتبادل ومخزنًا للقيمة، دون أيّ تدخّل حكومي، مثل الأحجار الملونة، والأصداف، وأنواع معينة من الريش، والملح.
سيطرة الحكومة أو المصرف المركزي على إصدار النقود بشكل حصري ظاهرة حديثة.. في كثير من القرى بيض الدجاح يُستخدم بمثابة نقود.. في السجن، السجائر والصابون تُستخدم بمثابة نقود.
ولا بدّ من التوضيح أيضًا أن أشدّ الناس تحمّسًا للبيتكوين بصفة عملة هم المعادون للمصارف المركزية وسيطرتها على الاقتصاد، وأكثر المعادين للبيتكوين هم المؤيدون للمصارف المركزية، وأكثر المتحمسين للاستثمار بالذهب هم أيضًا معادون للمصارف المركزية، وأكثر الإشاعات التي تتعلق بقيام السعودية ودول أوبك بالتخلص من الدولار في تسعير النفط لصالح عملات أخرى تصدر من هاتين الفئتين المعاديتين للمصارف المركزية.
الأمر لا يحتاج مؤامرة.. تجارة النفط العالمية هي الأكبر في العالم وتتطلب سيولة ضخمة، وهذه السيولة لاتتوافر إلّا في الدولار الأميركي
النفط يسعّر بالدولار، والقول بأن صدام حسين غيَّر تسعيرة النفط العراقي من الدولار إلى اليورو غير صحيح.. كل ماحصل أن الحكومة العراقية طلبت وقتها من الأمم المتحدة أن تحوّل الثلث المخصص من إيرادات النفط للعراق من الدولار إلى اليورو، الأمر نفسه ينطبق على القذافي في ليبيا ومادورو في فنزويلا.. النفط العراقي والليبي والفنزويلي سُعّر بالدولار، لكن حُوِّلَت الإيرادات لعملات أخرى.
التحويل لعملات أخرى منطقي، لأن الولايات المتحدة فرضت عقوبات اقتصادية على هذه الدول، ومن ثم لاتستطيع الشراء من الولايات المتحدة، ومن ثم لا تحتاج الدولار.
في حالة العراق، كانت الأمم المتحدة تحتجز الأموال العراقية، وكل الدلائل وقتها كانت تشير إلى هبوط العملة الأميركية وارتفاع اليورو، فكان منطقيًا تحويل الدولار لليورو، إلّا أن وسائل الإعلام اهتمت بها سياسيًا وتجاهلتها اقتصاديًا، فقد حققت الحكومة العراقية عوائد كبيرة وقتها من تحويل الدولار لليورو.
النفط والدولار
تاريخيًا، وبعد فكّ ارتباط الدولار بالذهب في بداية السبعينيات، وانخفاض العملة الأميركية مقابل الذهب، وانتشار التضخم، حاولت دول أوبك البحث عن بديل للتسعير، ودُرِسَت كل الخيارات في بحوث عديدة.
كان من ضمن الخيارات تسعير النفط بسلة من العملات، وبوحدات السحب الخاصة التي يشرف عليها صندوق النقد الدولي، إلّا أن الأمر استقر على استمرار تسعير النفط بالدولار رغم كل مشكلاته، وكانت الرؤية وقتها أنه يمكن رفع أسعار النفط للتعويض عن الخسائر الناتجة عن انخفاض الدولار وارتفاع مستويات التضخم.
بعبارة أخرى، كان الهدف المحافظة على السعر الحقيقي للنفط، إلّا أن فكرة رفع أسعار الخام مع انخفاض الدولار وارتفاع التضخم فشلت، لأن فكرة "السعر المعلن" انتهت مع انتهاء سيطرة الشركات الأجنبية للاحتياطيات النفطية وتملّك الحكومات لها.
كان لكل خيار مشكلاته، وحقوق السحب الخاصة لن تحلّ مشكلة الدولار، وسلة العملات خيار غير مقبول، ليس لأن للدولار نصيب الأسد فيها فقط، لكن أيضًا لأن الشركاء التجاريين لدول أوبك مختلفون، ومن ثم لايمكن الاتفاق على مكونات السلة، لأنها ستفيد بعض الدول بينما ستخسر دول أخرى.
السعودية وأميركا
وهناك إشاعة منتشرة في عدد كبير من الكتابات عن وجود مؤامرة أميركية-سعودية لتسعير النفط بالدولار، وعن مباحثات سرّية قادها كيسنجر مع السعوديين، مفادها الاستمرار باستخدام الدولار مقابل حماية الولايات المتحدة للسعودية.
أقول "إشاعة"، لأنها لاتعدو أكثر من ذلك: إذا كانت سرّية، فكيف عرف الناس بها، وانتشرت في الصحف والمجلات وحتى بعض الكتابات الأكاديمية؟ مانعرفه الآن أنه كان هناك محاولات جادة للحفاظ على القيمة الحقيقية للبرميل، وأن عدّة بحوث أُجريت للوصول إلى الخيار الأمثل، وكانت هناك مباحثات علنية مع الأميركيين حول الموضوع.
أمّا بالنسبة لحماية الأميركيين للسعودية، فهو أمر مفروغ منه، كون شركة أرامكو أصلًا شركة أميركية يملكها أكبر 4 شركات نفط أميركية قبل ان تتحول ملكيتها للحكومة السعودية.
ورغم الشائعات الكثيرة التي تتعلق باستمرار تسعير النفط بالدولار، والقول بأن الولايات المتحدة لن تسمح بتسعير النفط بغير الدولار، وأن الاقتصاد الأميركي سينهار لو قامت دول الخليج باستخدام عملة أخرى في التسعير، فإن البيانات تشير إلى عكس ذلك: لو ارتفعت أسعار النفط إلى 100 دولار للبرميل، فإن قيمة كل التجارة الدولية بالنفط الخام لعام كامل تساوي نحو عُشر الناتج المحلي الأميركي فقط!
الحقيقة أن تجارة النفط العالمية هي الأكبر في العالم، وتتطلب سيولة ضخمة، هذه السيولة لاتتوافر إلّا في الدولار الأميركي، كما تتطلب قبولًا من مختلف الدول والأطراف، ولم يكن هناك عملة لها قبول واسع عالمي مثل الدولار، لذلك فإن الأمر لايحتاج إلى مؤامرة واتفاقات سرّية، الأمر كان واضحًا لكل الأطراف.
الدول المنتجة للنفط لن تقبل بفقدان سيطرة التسعير لصالح فئات لاعلاقة لها بالنفط إطلاقًا.. هذه الفئات هي التي تُسيطر على البيتكوين
والواقع أن مشكلات تسعير النفط بعملة واحدة، بشكل عامّ، هي نفسها مهما كانت هذه العملة، ومن ثم فلا حاجة لتغيير التسعير بالدولار، وتزداد الأمور تعقيدًا بسبب ربط الدول الخليجية عملاتها بالدولار الأميركي (إلّا الكويت التي تربط عملتها بسلة من العملات، لكن يلعب الدولار فيها دور كبيرًا على كل الحالات)، يومًا ما، إذا جرى تسعير النفط بغير الدولار، فإن هذا يتطلب فكّ ارتباط عملات الدول الخليجية بالدولار.
وقد يحتجّ بعضهم بالقول، بأن الصين أنشأت بورصة للنفط، ويُسعَّر فيها النفط باليوان الصيني، ومن ثم فإن كل ماسبق لامعنى له.. الحقيقة، ليس كل مايبرق ذهبًا، فالتحليلات الاحصائية تشير إلى أن السعر في البورصة الصينية هو انعكاس لبورصة النفط في دبي بالدولار، ومن ثم فإن السعر مازال بالدولار، لكنه يُحوّل إلى اليوان! باختصار، النفط يُسعَّر في أنحاء العالم كافة بالدولار.. وجود تسعير باليوان أو غيره هو مجرد تحويل السعر بالدولار إلى عملة أخرى.
تسعير النفط بالبيتكوين
لايمكن تسعير النفط بالبيتكوين أو أيّ عملة مشفّرة، إضافة للمشكلات التي ذُكرت أعلاه، تحتاج الدول المصدّرة للنفط إلى عملة أكثر استقرارًا من البيتكوين، على فرض أنها عملة، كل الدلائل الحالية تشير إلى أن المستثمرين يتعاملون معها بصفتها أصلًا من الأصول، وليس عملة.
وهناك العديد من الدراسات والبحوث التي ركّزت على العلاقة بين أسعار النفط والبيتكوين.. الفرضية المشتركة بين كل هذه البحوث أن البيتكوين هي مجرد سلعة أو أصل، وليست عملة.
الميزة الأصلية للدولار هي السيولة، وحجم سوق البتكوين حاليًا بعد ارتفاعها الشديد نحو تريليون دولار، حجم سوق الدولار أكثر من 65 تريليون دولار.
إضافة إلى ذلك، فإن جزءًا كبيرًا من البيتكوين مُسيطَر عليه من جهات قليلة وغير معروفة، ومن ثم فإن الدول المنتجة لن تقبل أن تفقد سيطرة التسعير لصالح فئات لاعلاقة لها بالنفط إطلاقًا.
المشكلة الأكبر أن تعاملات البيتكوين مسجلة بالكامل، ويشارك فيها الجميع، ومن ثم فإنه لايمكن التلاعب بها.. هذا الملف وصل الآن إلى 320 غيغابايت!.. هذا الحجم الهائل يعطل الميزة الأساسية للبيتكوين، خاصة أنه سيكبر مع الزمن مع زيادة قبولها وزيادة عدد المتعاملين، النتيجة الحتمية لذلك هي وجود مراكز خاصة حول العالم للتعامل مع هذه الملفات.
تركُّز المعلومات في هذه المراكز لايتنافى مع مبدأ بيتكوين فقط، ولكن إذا فُقدت هذه المعلومات فلا يُعرَف من المالك! كما إن وجود مراكز لتخزين البيانات، إضافة إلى تكلفة التعدين، يعني أن هناك كلفة للعملة، وهذا أمر غير مرغوب فيه مقارنةً بالدولار، مثلًا، إلّا أنه، كما حصل في حالة العراق وإيران وليبيا وفنزويلا، يمكن أن تطلب الدول المنتجة أن تكون الدفعات بالبيتكوين أو العملات المشفّرة.. هذا لايعني أن النفط سُعِّر بها، كل مافي الأمر هو تحويل الإيرادات من الدولار إلى هذه العملات حسب السعر السائد في السوقـ، تمامًا كما فعلت الحكومة العراقية في عهد صدام حسين عندما حوّلت عوائدها من الدولار إلى يورو.
نظرة عامّة حول العالم توضح أن الدول التي تلجأ إلى التعامل بغير الدولار هي الدول التي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية منعتها من استهدام النظام المصرفي العالمي لنقل الأموال، وليس هناك دليل على أن دولًا منتجة للنفط، وليس عليها أيّ عقوبات، طلبت من الدول المستوردة لنفطها الدفع بعملات أخرى، أو بالذهب، أو بعملات مشفّرة، وما قيام فنزويلا بإنشاء "بترو"ـ العملة المشفّرة المدعومة باحتياطيات النفط الفنزويلية- إلّا محاولة يائسة للالتفاف على التعامل بالدولار والتضخم في الوقت نفسه، إلّا انها فشلت فشلا ذريعًا.
والحقيقة أنه رغم توافر العملات المشفّرة، إلّا أنه حتى عصابات المافيا والتهريب مازالت تفضّل التعامل بالدولار الأميركي ما أمكن. هذه الحقيقة الأخيرة توضح أن الدولار مازال سيد الموقف.
خلاصة الأمر، أنه لايمكن تسعير النفط بالبيتكوين، خصائص النقود تتطلب أن تكون العملة مقياسًا للقيمة، ووسيطًا للتبادل، ومخزونًا للقيمة.
التذبذب الهائل في قيمة البيتكوين ينفي عنها صفتي مقياس للقيمة ومخزون للقيمة، ولكنها تبقى وسيطًا للتبادل.. هذا يؤيد فكرة أنه لايمكن تسعير النفط بها، ولكن يمكن للدول المنتجة أن تستلم إيراداتها أو جزءًا منها بالبيتكوين، أضف إلى ذلك أن تجارة النفط العالمية تتطلب سيولة ضخمة، وهذه السيولة تتوافر في الدولار ولاتتوافر في البيتكوين، ولايمكن القول بأن سيولة البيتكوين ستتحسّن في المستقبل، لأن عددها محدود.
أخيرًا، هل تعلم أن كمية الطاقة اللازمة لاستخراج بيتكوين واحدة تعادل نحو 20 برميلاً من النفط؟
اقرأ أيضًا..
- مقال - أزمة كهرباء تكساس: أسئلة وأجوبة!
- عرض مختصر لأخطاء مقال "كاربون تراكر" وتوقع انهيار إيرادات أوبك!
- هل يستمر ارتفاع أسعار النفط.. أنس الحجي يجيب (فيديو)