أزمات متفاقمة.. تحديات اقتصاد النفط والطاقة في العراق
عواقب أزمة 2020 سيستمر صداها العقد القادم
محمد زقدان
- في عام 2015 كان العراق ثاني أكبر مساهم في نمو إنتاج النفط عالميًا
- عائدات الحكومة العراقية تأثرت بشدة جراء التراجع الكبير في أسعار النفط
- خياران أمام العراق: عدم الاستثمار على الإطلاق في قطاع الطاقة حتى تعافي الأسعار أو إعادة النظر في النماذج الاستثمارية المتبعة
يشهد العراق حاليًا أزمات مالية واقتصادية حادة، بسبب دخوله عام 2020 (عام الأزمات)، وهو في وضع هش ماليًا، زادت وتيرتها بالأحداث المتتالية، كانت حرب الأسعار في أسواق النفط مؤثرا كبيرا في اقتصاده، لدرجة أنه من غير الممكن أن يكون إجراء واحدًا كافيًا لسد الفجوة بين الإيرادات والنفقات، بل يحتاج إلى مجموعة إحراءات. وبالنظر إلى حجم العجز الضمني المسجل بأسعار النفط الحالية، فسيكون للحكومة القدرة فقط على دفع مقابل العمليات الأساسية التي تسيّر الدولة.
سلط تقرير صادر عن معهد "أكسفورد لدراسات الطاقة" الضوء على بعض التحديات التي تواجه اقتصاد النفط والطاقة في العراق، ومدى تفاعل تلك التحديات مع اتخاذ قرارات بشأن السياسات المتعلقة بالنفط والاقتصاد.
ووفق التقرير الذي كتبه الباحث المشارك بمعهد أكسفورد للطاقة "أحمد مهدي"، و"علي الصفار" من وكالة الطاقة الدولية، فإن العراق دخل عام 2020 وهو في وضع هش، ثم على أزمة أسعار النفط في ظل ظروف مختلفة بشكل واضح عن الانهيار الذي وقع ما بين 2014 و2015.
ففي عام 2015 كان العراق ثاني أكبر مساهم في نمو إنتاج النفط عالمياً، لكن على عكس الأزمة السابقة، لا يوجد في الوقت الحالي أي مؤشر على تعافي إنتاج النفط، وسط سيطرة حالة من عدم اليقين على إمكانية حدوث انتعاش اقتصادي.
وعلاوة على ذلك تأثر الاقتصاد غير النفطي للعراق، مثله مثل دول الخليج الأخرى في المنطقة، بإجراءات الإغلاق لمواجهة تفشي فيروس كورونا، فضلا عن تغير دور العراق في أوبك، حيث أن صرامة أوبك+ بخصوص تجاوز الحصص الإنتاجية حاليا يتناقض بشكل حاد مع ما كان عليه العراق في الفترة ما بين 2016 إلى 2018 عندما كان يزيد الإنتاج بحرية رغم الضغوط لتخفيض الإنتاج.
ويضاف إلى ذلك زيادة الإنفاق العام بشكل ملحوظ، والتحديات الموجودة مسبقا مثل الاحتجاجات، والمناخ الجيوسياسي المتدهور، ونقض الغاز والكهرباء وعدم قدرة العراق على تقديم أية حزم تحفيزية أسوة بدول الخليج، بالنظر إلى تخصيص نسبة ضخمة للأجور ومدفوعات المعاشات التقاعدية.
صدمة مالية
وتأثرت عائدات الحكومة العراقية بشدة؛ جراء التراجع الكبير في أسعار النفط ، التي هبطت إلي أدني مستوياتها في أبريل/نيسان بـ 70 % مقارنة ببداية العام، تاركة فجوة تبلغ حوالي 4.1 مليار دولار للوفاء بالتزامات الإنفاق الأساسي؛ الأمر الذي أجبر الحكومة على اللجوء إلى الاحتياطي الأجنبي، التي تقدر بـ67 مليار دولار؛ لدفع التزاماتها الشهرية المتعلقة برواتب شهر مايو/أيار.
وفي مقابل هذا الوضع المالي والاقتصادي، شكل رئيس الوزراء العراقي الجديد "مصطفى الكاظمي" لجنة اقتصادية رفيعة لفحص خيارات البلاد لدعم الإيرادات وخفض النفقات، وحتى الآن ركزت المناقشات على الحد من المزايا الممنوحة لموظفي الدولة، غير أن اللجنة المذكورة مكلفة أيضا بدراسة خيارات لإجراء خيارات أعمق لجعل الاقتصاد أكثر مرونة في المستقبل وتقديم مقترحاتها إلى البرلمان العراقي بحلول سبتمبر/أيلول 2020.
ومن المتوقع أن يعرقل انخفاض أسعار النفط، وتداعيات إغلاق (كوفيد-19) -التي أعاقت التجارة الداخلية- الاقتصاد العراقي بشدة هذا العام.
كما سيكون لأي تأجيل أو إلغاء لمشاريع ذات رأس مال حكومي صدى على الاقتصاد غير النفطي، ونتيجة لذلك يتوقع البنك الدولي أن ينكمش الاقتصاد العراقي بنسبة 10% تقريبا خلال العام الجاري، كما يجعل هذا التأثير الحفاظ على ربط الدينار العراقي أكثر تكلفة.
ولضمان استمرار دفع الحكومة لـ 305 مليون موظف حكومي، و 500 ألف موظف في الشركات المملوكة للدولة، 2.5 مليون أخرين للذين يتلقون معاشات من الدولة، فلن تكون الدولة قادرة على الاعتماد على الاقتراض الخارجي لتخفيف الضغوط.
وقد لجأت الدولة بالفعل للبنوك المحلية لاقتراض 205 مليار دولار ومع ذلك لن يكون ذلك وسيلة مستدامة في المستقبل بتكاثر الاقتراض من القطاع الخاص، ومزيد من التقزيم في احتمالية التعافي الاقتصادي في القطاعات غير النفطية.
وأوضح التقرير أن هناك دلائل تشير إلى أن الانكماش الحالي في أسعار النفط يؤثر بالفعل على الإنفاق الرأسمالي في البلاد، فهناك مؤشرات على تأجيل جميع الاستثمارات الرأسمالية التي خططت لها وزارة الكهرباء لهذا العام إلى أجل غير مسمى؛ ما يهدد بوضع عدد كبير من الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها، في دائرة الخطر.
وعلاوة على ذلك، ستضع الميزانيات المقيدة خطط العراق لتطوير الغاز الطبيعي واستخدامه محل شك.
قطاع النفط
بدأت بوادر أزمة في مارس/آذار الماضي عندما تم اغلاق حقل الغراف النفطي (الذي ينتج 100 ألف برميل/يوميا) بعد قرار شركة بتروناس الماليزية التي تتولى تطوير الحقل إجلاء موظفيها الأجانب بسبب مخاوف من تفشي فيروس كورونا.
وفى مكان أخر، وجدت شركة "سينوك العراق" التابعة لشركة سينوك الصينية نفسها مضطرة لمراجعة التوجيهات الإنتاجية، كما تأثرت شركة نفط البصرة (BOC)، وفي منتصف مارس/آذار شكل رئيس الشركة إحسان إسماعيل (وزير النفط الآن) خلية أزمة للتعامل مع تداعيات (كوفيد-19).
ومع انخفاض أسعار النفط القياسية أواخر مارس، أصدرت شركة نفط البصرة، رسالة إلى جميع شركات النفط الدولية طالبت فيها بتخفيض برامج العمل والميزانيات بنسبة 30% وتأجيل مدفوعات الربع الأول والثاني من 2020.
وفى المقابل، ردت شركات النفط الدولية بفصل المتعاقدين، وإنهاء عقود الحفر وإعادة تنظيم سلاسل التوريد للتعامل مع مراجعة الميزانية.
كما خفضت شركات النفط العالمية الرئيسية مثل "بريتش بتروليم"، و"لوك أويل"، و"إكسون موبيل"، طلبات حجز أجهزة الحفر والمضخات ومعدات خدمات حقول النفط الأخرى.
كما تأثرت ميزانية شركة نفط البصرة (المملوكة للدولة) بخفض برنامج الحفر لعام 2020 إلي النصف، وأيضا إلغاء أو تأجيل المشاريع الاستراتيجية الرئيسية مثل مشروع توسيع حقل مجنون النفطي.
وأخر شركاء نفط البصرة، "كي بي آر" للهندسة والتشييد، و"أنتون أويل فيلد" الصينية، برامج الحفر، على الرغم من البناء الأخير الذي أقيم بواسطة "بتروفاك" الإنجليزية لمنشأة معالجة جديدة لدعم زيادة الإنتاج من 240 ألف برميل في اليوم، إلى 400 ألف برميل في اليوم بحلول 2022.
وما زاد الطين بلة إجراء تخفيضات في نفقات الميزانيات (التي تشمل برامج الحفر وتكاليف إعادة صيانة الآبار) على خلفية التحديات الموجودة مسبقا بما في ذلك: تزايد تكلفة وتعقيدات إدارة الآبار، وتزايد استخدام المضخات الغاطسة الكهربائية، والتعقيد الإضافي بسلاسل توريد خدمات حقول النفط، الحاجة المتزايدة لتحديث البنية التحتية للتصدير.
كما سلطت أزمة النفط الضوء على أوجه القصور في نماذج عقود النفط العراقي، والطبيعة غير المرنة لبرامج التعاون النفطي وعدم توافق المصالح أثناء انخفاض أسعار النفط، بموجب اتفاقيات بموجب عقود الخدمات الفنية، كما أظهرت أيضا أنه لا يوجد عقد في مأمن من المراجعة.
تخفيضات العراق وأوبك+
بموجب اتفاق أوبك+ في أبريل الذي تعهدت فيه الدول الأعضاء بخفض 9.7 مليون برميل في اليوم من الإنتاج في مايو ويونيو، كانت حصة العراق بموجب الاتفاق 3.59 مليون برميل في الشهرين السابقين، لكن بعد أن ثبت أنه أنتج بمستويات أعلى بكثير من المتفق عليه في مايو، وافق العراق على تنفيذ تخفيضات تعويضية إضافية قدرها 57 ألف برميل يومياً لشهر يوليو و258 برميل يوميا ًفي اليوم في أغسطس وسبتمبر.
وهناك عدة مؤشرات إلى أن امتثال العراق سيتحسن خلال الأشهر المقبلة. ففي يونيو طلبت وزارة النفط العراقية من شركات النفط الدولية تخفيض الإنتاج، وبينما من المتوقع أن يتحسن الامتثال العراقي في الأشهر المقبلة، فمن غير المحتمل أن يتم الوصول إلى الامتثال الكامل، مما يبقي إنتاج النفط العراقي في دائرة الضوء ضمن دول أوبك+ وفي دوائر تجار النفط والمحللين.
التكرير والإنتاج
سلطت أزمة هذا العام الضوء على نقاط الضعف في قطاع المشتقات النفطية، فمصافي العراق لديها قدرة تشغيلية تبلغ تقريبا 700 ألف برميل يومياً، مع إنتاجية عالية من زيت الوقود.
وأدى الانكماش الحاد في الطلب المحلي في أبريل 2020 إلى انخفاض صادرات زيت الوقود، مدفوعا بانخفاض معدلات التشغيل، كما شهد العراق انخفاضا في الطلب على البنزين، ومع ذلك بدأ الطلب في التعافي في مايو 2020 ومن المقرر أن تظهر المشاكل القديمة مرة أخرى، والتفاعل مع المشاكل الاقتصادية الحالية لا سيما تسبب "كوفيد-19" في عدد من التأخيرات في استراتيجية تطوير المصافي العراقية.
وفي حين لم يؤثر "كوفيد-19" وأزمة النفط على الجدول الزمني لمصفاة كربلاء والتي تبلغ طاقتها 140 ألف برميل يوميا (من المقرر أن يبدأ تشغيلها في عام 2021 واكتملت حتى الآن بنسبة 80%) مما سيساعد على معالجة اختلال التوازن للمنتج العراقي، فمن المقرر أن تظل واردات المنتجات النفطية النظيفة في نطاق 60،000-80،000 برميل في اليوم للسنوات العديدة القادمة، بالنظر إلى عوامل الطلب الهيكلية مثل النمو السكاني، وقطاع السياسيات المتنامي في العراق، ومتطلبات قطاع الطاقة والحاجة في مصافي العراق إلي البنزين عالي الأوكتان لأغراض المزج.
الكهرباء والغاز والطاقة
يعاني نظام الكهرباء العراقي من عدد من المشاكل، فأسطول الدولة لتوليد الطاقة لديه سعة إسمية، يجب أن تلبي ذروة الطلب في الصيف، لكن القدرة الفعلية تنخفض إلى النصف؛ بسبب سوء الصيانة، واستخدام وقود دون المستوى الأمثل.
ويتم فقدان 50-60 % أخري من الطاقة التي يتم إنتاجها في عمليات النقل والتوزيع، مما يجعل العراق من أسوأ الدول في الأداء على الصعيد العالمي بهذا المقياس.
ونتيجة لذلك، لايزال انقطاع التيار الكهربائي يحدث بشكل يومي لمعظم الأسر، حيث يتجاوز الطلب المتزايد على الكهرباء أي زيادة في قدرات التوليد، مدفوعا بشكل خاص بارتفاع الطلب على التبريد في أشهر الصيف الحارة.
وتشير طريقة التشغيل الحالية، في ظل غياب ميزانية عام 2020 وأسعار النفط المنخفضة، إلى أن وزارة الكهرباء لن تقوم بتخصيص أي مبالغ تتجاوز ميزانية الانفاق الحالية، الأمر الذي يعني إلغاء مشاريع كان من المفروض أن تضيف ما يقرب من 7 جيجاواط إلى القدرة التوليدية.
هذا يعني أن راسمي السياسات في العراق يواجهون أحد خيارين: عدم الاستثمار على الإطلاق في القطاع حتى تتعافى أسعار النفط، أو إعادة النظر في نماذجهم الاستثمارية في محاولة لجلب الاستثمار الخاص.
ويكلف دعم الكهرباء الدولة 12 مليار دولار أمريكي في العام، أي ما يعادل 9 أشهر تقريبا من إجمالي الإيرادات عند المستوي الذي حققته في شهر أبريل.
ومن شبه المؤكد أن بيئة الميزانية المحدودة ستخنق خطط العراق لدعم الغاز الطبيعي، حيث تنتج البلاد حاليا حوالي 32 مليار متر مكعب من الغاز.
وفيما لن يكون لظروف السوق الحالية سوى تأثير متواضع على المدى القصير، فإنه لا يمكن استبعاد وجود تأثير تخفيضات إنتاج النفط لفترات طويلة على حجم الغاز المنتج.
وخلص التقرير إلى أنه رغم اجتياز العراق عقدا مضطربا للغاية، ونجاحه في مضاعفة إنتاج النفط تقريبا خلال تلك المدة فإنه لم يفعل سوى القليل لزيادة مرونة الاقتصاد لمواجهة صدمات السوق.
وأشار إلى أن عواقب أزمة 2020 سيستمر صداها في العقد القادم، ومن المؤكد أن تخفيضات الاستثمار ستؤدي إلى تباطؤ الإنتاج على مدى العقد القادم في النفط، وينطبق ذلك أيضا على قطاع الكهرباء، من المرجح أن يؤدي الضغط على الميزانيات إلى إضعاف تطلعات العراق الكبيرة في انتاج الغاز، خاصة في ظل غياب الإصلاح الاستثماري الذي ينقل عبء تخصيص رأس المال من الدولة إلى القطاع الخاص.