كتب: احمد علي
مساء الخميس، بدت الصورة الكلّية في عالم النفط مختلفة كثيرًا عن مطلع الأسبوع، فروسيا التي عارضت فكرة تعميق خفض إنتاج تحالف مجموعة "أوبك+" في مطلع شهر مارس / آذار الماضي، متذرّعةً بمواجهة توحّش النفط الصخري الأميركي في أسواق العالم، صارت في حالة إذعان للرغبة الأميركية بالعمل على إعادة التوازن للسوق المتهاوية.. والولايات المتّحدة التي طالما دعت "أوبك" وحلفاءها لوقف ارتفاع الأسعار، هرعت للتوسّط بين روسيا والسعودية من أجل ضبط الأسواق.. بينما السعودية التي قيل إنها تعارض فكرة عقد اجتماع منخفض المستوى لمناقشة أوضاع السوق، بادرت للدعوة إلى اجتماع طارئ للمنتجين... فما الذي تغيّر في موقف الكبار؟
- روسيا تعاني.. وتكسب:
فيما يخصّ الجانب الروسي، فإن بلوغ خام "أورال" الروسي أدنى مستوياته منذ عقدين، يعني بالتالي حرمان الميزانية الروسية من الإيرادات النفطية الوفيرة خلال الأعوام الماضية.
وقالت وكالة "أرغوس ميديا"، إن سعر الخام الروسي في شمال غرب أوروبا، للصادرات وفق شروط التكلفة والتأمين والشحن (cif) تسليم ميناء روتردام في هولندا، انخفض في الأوّل من أبريل / نيسان الحالي حتّى 10.54 دولارًا للبرميل، وهو أدنى مستوى منذ مارس 1999.
وكشفت وزارة المالية الروسية في تقرير مطلع الشهر، عن تدنّي سعر خام "أورال" حتّى 29 دولارًا للبرميل في شهر مارس الماضي، ما يدفع الوزارة للّجوء إلى مدّخرات صندوق الثروة الوطني بموجب قواعد الميزانية، التي تُلزم الحكومة بالإنفاق من تلك المدّخرات لتغطية العجز، نتيجة تراجع أسعار النفط ما دون سعر الميزانية عند 42 دولارًا للبرميل.
من جهة أخرى، مرّ في العناوين خلال الأسبوع الماضي خبر ربّما لم يلفت الانتباه كثيرًا وسط معمعة أسواق النفط، إذ أعلنت شركة "روسنفت" الروسية بيع جميع مشروعاتها في فنزويلّا لشركة مملوكة 100 بالمئة للحكومة الروسية، وذلك أملًا في أن تساعدها هذه الخطوة على تحسين وضعها في السوق، وتفادي تأثير العقوبات الأميركية، بحسب بيان للشركة.
الإعلان جاء عقب مباحثات جرت بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما فتح باب التكهّنات بأن هناك "صفقة" بين الطرفين، تتخلّص بموجبها "روسنفت" الحكومية من إرث العقوبات الثقيل، عبر غسل يديها من المستنقع الفنزويلّي، مع احتفاظ موسكو بقبضتها على المشروعات المسيلة للّعاب، وذلك مقابل التعاون الروسي في ضبط الأسواق مجدّدًا.. وهي صفقة تبدو رائعة للطرفين بحسب المحلّلين والمراقبين، ودون أدنى خسارة لأيّ من الطرفين.
ويشير بعض المحلّلين أيضًا إلى أن الحكومة الروسية اشترت كامل مشروعات "روسنفت" في فنزويلّا، نظرًا لنأي كثير من المستثمرين عن "صفقة شائكة"، خوفًا من التعرّض لتبعات العقوبات الأميركية في وقت لاحق، فيما قد يعرض المستثمرون "المغامرون" ثمنًا بخسًا لهذه المشروعات، لا يوازي كلفتها، ولا الأرباح المتوقّعة.. ما دفع موسكو لتحمّل الصفقة كاملة.
ومع كلّ هذه الضغوط الاقتصادية المتزايدة -خاصّةً في أفق يُنذر بركود حادّ بحسب تقارير متزامنة لمؤّسسات مرموقة على غرار "فيتش" و"بنك أوف أميركا" وغيرها، حتّى من المؤسّسات الرقابية المحلّية في روسيا نفسها-، تؤكّد أن موسكو أيقنت أخيرًا أنها دخلت معركة خاسرة في صراع الحصص والأسعار النفطية العالمية، وأنها مضطرّة للانحناء للعاصفة ومراجعة موقفها.
- السعودية.. "وصلت الرسالة":
الموقف السعودي قد يبدو لغير المتابعين مربكًا بعض الشيء، فالمملكة التي تسرّبت أنباء نهاية الشهر الماضي عن معارضتها القويّة لعقد اجتماع طارئ على مستوى منخفض لمناقشة انهيار السوق مع بلوغ أسعار النفط العالمية، هي ذاتها التي دعت الخميس لعقد اجتماع عاجل لدول أوبك+ ومجموعة من الدول الأخرى، بهدف السعي للوصول إلى اتّفاق عادل يعيد التوازن المنشود للأسواق البترولية.
لكن مفتاح فهم الموقف السعودي ربّما يكمن في أمرين، أوّلهما، تعبير "اتّفاق عادل" الذي استخدم رسميًا خلال الدعوة، أي أن يتحمّل كلّ المنتجين مسؤولياتهم في حفظ توازن الأسواق، وهو أمر بدا أن هناك توافقًا كبيرًا عليه خلال الأيّام الماضية، ورضوخ من كبار منتجي النفط لمفهوم أنه لا بديل عن الولوج في منطقة التضحية من أجل الحفاظ على سلامة الأسواق والصناعة.
الأمر الثاني، يكمن في ردّ الأمير عبد العزيز بن سلمان على الصحفيين المتسائلين في فيينا، عقب انهيار مباحثات "أوبك+" مطلع مارس الماضي، إذ أجاب عن الخطوة المرتقبة للمملكة بالقول المقتضب: "سأترككم تتساءلون". وبالفعل، فقد جعلت السعودية العالم بأكمله -وليس الصحافيين فقط- يتساءل خلال الشهر الماضي عمّا ستؤول إليه الأمور، حيث أعلنت المملكة رفع إنتاجها وصادراتها إلى ذروة من شأنها أن تبلغ العالم رسالتها الواضحة: "السعودية لن تتحمّل وحدها ضبط الأسواق.. مع ترك الآخرين يجنون ثمار مجّانية".
وبينما يقول عدد كبير من المحلّلين، إن المملكة أشعلت حرب أسعار برفع إنتاجها وصادراتها إلى مستويات قياسية، إلّا أن خبراء اقتصاد ومراقبين يرون أنه "موقف اقتصادي دفاعي سليم" أيضًا في سبيل حفظ التوازن في العائدات النفطية، حيث إن زيادة الإنتاج تعوّض عن جزء من الخسائر الهائلة جراء انخفاض الأسعار.
ورغم التقارير والأرقام التي تؤكّد أن الموازنة السعودية واقتصاد المملكة سيخسران كثيرًا جراء الولوج في حرب حصص وأسعار، إلّا أن كثيرًا من الخبراء يرون حاليًا أن "مكاسب ضبط الأوضاع النفطية العالمية ستكون أكبر على المدى البعيد، من مكاسب وقتية غير دائمة".
وبعد تواصل الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، يبدو أن المملكة أيقنت أخيرًا أن كبار المنتجين الآخرين سيلتزمون بأدوارهم للحفاظ على الأسواق، ما شجّعها على الدعوة للاجتماع الطارئ.
كما أن التواصل الأميركي يعني في طيّاته أن الإدارة الأميركية تشير إلى طيّ صفحة مشروع قانون "لا أوبك" (No Opec) في مجلس الشيوخ، الذي كان يهدف إلى تشريع قانون يسمح بمقاضاة دول أوبك بتهمة الاحتكار... وهو أيضًا من بين المكاسب السعودية في الوقت الحالي.
- ترمب ومسارات رجل الأعمال:
أمّا الموقف الأكثر غرابة وإرباكًا، فهو الموقف الأميركي بقيادة الرئيس دونالد ترامب، فهو ذات الشخص الذي طالما دعا وطالب وضغط بكلّ السبل -حتّى قبل أن يصبح رئيسًا- بأسعار بنزين ونفط وطاقة منخفضة، ويبدو أنه لم ينس أبدًا أن شركته الخاصّة للطيران "ترمب شاتل" أفلست في عام 1992، بعد 3 سنوات فقط من تأسيسها، ربّما بسبب قفزة أسعار النفط مع الاجتياح العراقي للكويت في صيف عام 1990، حيث تضاعفت أسعار البرميل من متوسّطات 40 دولارًا إلى أكثر من 80 دولارًا.
ويبدو ترمب عالقًا وسط معضلة كبرى هذه الأيّام، فيما يخصّ أسعار النفط المتهاوية، إذ إنه يعُدّ من جهة أن الأسعار المتهاودة للنفط بمثابة هديّة للمستهلك الأميركي، بينما هذا الوضع من جهة ثانية يهدّد بانهيار قطاع النفط الأميركي بأسره. وتشير العديد من التقارير إلى أن هناك ضغوطًا داخلية قويّة على ترامب من قطاع النفط، الذي يُعرف تاريخيًا بأنه "جمهوري" ويؤيّد الجمهوريين، كما أن ترمب لا يريد أن يرى تسريح شركات النفط لعشرات الألوف من العمّال والموظّفين قبل الانتخابات الرئاسية.. وربما يكمن الحلّ السحري لمعضلة ترمب -بحسب محلّلين- في الحفاظ على مستوى سعري معين، يحقّق التوازن.
وبنظرة عامّة على مسار وطريقة الرئيس الأميركي في التعامل مع المتغيّرات الجيوسياسية والاقتصادية الدولية، قد تسفر عن فهم مسلكه. فالرئيس لم ينس أنه "رجل أعمال"، لا يزال يتعامل مع القضايا الكبرى على أنها "صفقات"، تتطلّب ممارسة أكبر قدر من الضغوط، ثمّ اقتناص الفرصة.. شاهدنا ذلك جميعًا في مباحثات التجارة والرسوم مع الصين وأوروبّا وأميركا الشمالية، كما ظهر في تحرّكاته السياسية مع خصومه في الداخل أو الخارج، وأيضًا في ضرباته العسكرية غير المتوقّعة في سوريا أو العراق.
لكن ترمب -الذي زفّ إلى العالم بشرى "صفقة عظيمة" تضمّنت توقّعاته بخفض "أوبك+" بقيادة السعودية وروسيا لنحو 10 إلى 15 مليون برميل يوميًا- أكّد في نفس التصريح أنه لم يقدّم أيّ تنازلات إلى السعودية وروسيا، مثل الموافقة على خفض الإنتاج الأميركي المحلّي، وهي الخطوة التي تحظرها قوانين مكافحة الاحتكار الأميركية.. ما يفتح باب التساؤلات حول ما ستقدّمه الولايات المتّحدة في المقابل للمنتجين، من أجل قبول هذه المقترحات.