هل تصمد ميزانية العراق بعد انهيار أسعار النفط؟
65 % عجزًا متوقّعًا في ميزانية 2020
خاص-الطاقة
- عائدات النفط تمثل 90% من حجم الموازنة
- مسؤول عراقي: 75 مليون دولار خسائر يومية
ما بين طعنة وأخرى يقف العراق وجسده مسخن بالجراح، فلا يكاد يستفيق من تبعات الغزو الأميركي، حتّى يقع في براثن الحرب الطائفية وتنظيم القاعدة، وما إن يتوارى هذا التهديد، حتّى يقع في مستنقع تنظيم الدولة الإسلامية الذي هيمن على ثلثي البلاد بثرواته النفطية، قبل أن تتمكّن البلاد من الخروج منه.
وبعد انكشاف هذه الغمّة، يجد النظام العراقي نفسه أمام مواجهة غضب شعبي واحتجاجات مدفوعة بالأوضاع الاقتصادية المتدهورة والفساد السياسي.
ليس هذا فحسب، وإنما جاء تفشّي فيروس كورونا مؤخّرًا، والمواجهة النفطية بين السعودية وروسيا، وما نجمَ عن ذلك من انهيار أسعار النفط، ليوجّه طعنة غائرة في جسد الاقتصاد العراقي الذي تُشكّل عائدات النفط 90 % من عائداته، لدرجة أن بعض المحلّلين يرون أنها قد تُجهز على البلاد تمامًا، مالم يتغيّر هذا الوضع المؤلم، ليس فقط عراقيًا، بل عالميًّا أيضًا.
"حجم خسائر العراق جراء انخفاض أسعار برميل النفط بسبب فيروس كورونا يصل إلى 75 مليون دولار في اليوم الواحد".. هكذا صرّح مظهر محمد صالح، المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء العراقي قبل أيّام، محذّرًا من استمرار التدهور على هذه الوتيرة.
وذهب جمال كوجر عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي، النائب عن كتلة الاتّحاد الإسلامي الكردستاني، إلى تقييمات أشدّ قتامة، فقد صرّح قبل أسبوع لوكالة (سبوتنيك) الروسية للأنباء بأن كلّ دولار ينخفض من سعر النفط، تخسر الموازنة الاتّحادية للعراق مقابله نحو مليار و315 مليون دولار، خلال سنة، إذا بقيت الحال على هذا الشكل.
30 مليار دولار خسائر
ووفقًا لتقديراته التي كانت مبنيّة الأسبوع الماضي على أن سعر برميل النفط 33 دولارًا، قال كوجر: إن سعر النفط انخفض نحو 23 دولارًا من السعر المحدّد في الموازنة الاتّحادية، وبذلك تُقدَّر خسائر الانخفاض -على الأقلّ- بنحو 30 مليار دولار في الموازنة، بسبب هبوط سعر النفط.
وأكد كوجر أن العراق متضرّر جدًّا إثر انخفاض أسعار النفط، لأنها تؤثّر سلبًا على الموازنة الاتّحادية العامّة، بإضافة عجز لها بحوالي 50 %، لأن تقدير سعر البرميل المحدّد كان 56 أو 55 دولارًا.
وبالطبع، يجد كثير من المحلّلين العذر لكوجر في هذا التقدير، بعدما أصبح التراجع في أسعار برميل النفط يحدث يوميًا، بل على مدار الساعة، في ظلّ الشلل الاقتصادي الذي يُحدثه كورونا حاليًا.
وما زاد الطين بلّة- كما يقول كوجر- أن الدولة العراقية تبيع النفط الخام بسعر أرخص من الآخرين، لأسباب، أوّلها: عدم وجود أماكن لتخزين الخام داخل البلد، كي يستطيع الاحتفاظ بالنفط، ولا أسطول بحري تستطيع منه الدولة انتظار السعر المناسب في المحيطات.
هذا ما جعل لدى العراق توقيتات محدّدة لا يستطيع التأخّر عنها، ويبيع النفط بسعر أقلّ من الآخرين -في الظروف الطبيعية بأقلّ من دولارين- لكن السعر ينخفض إلى 5-6 أو 7 دولارات في الحالات التي يضعف فيها الطلب على النفط، لأن الدولة العراقية غير قادرة على تأخير البيع لهذه الأسباب
وما بين انخفاض أسعار النفط ، والمأزق السياسي ، وتراجع الشهية العالمية لإنقاذها، فإن العراق على شفا كارثة مالية يمكن أن تفرض تدابير تقشّف وتجدّد الاحتجاجات المناهضة للحكومة.
حالة إنكار
ومع ذلك، يبدو أن مسؤولين عراقيين متفائلون بشكل ملحوظ ، وهي وجهة نظر وصَفها الخبراء بأنّها " حالة إنكار" مع توقّعات متشائمة ترى أن انهيار أسعار النفط سيكلّف العراق ثلثي صافي دخله هذا العام.
وانخفضت أسعار خام برنت هذا الأسبوع إلى 20 دولارًا للبرميل، وهو أدنى مستوى منذ عام 2003 ، بعد تراجع الطلب العالمي على النفط، مع تفشّي الفيروس التاجي الجديد، وحرب الأسعار بين المنتجَين الرئيسين السعودية وروسيا.
وقال فاتح بيرول، رئيس وكالة الطاقة الدولية: إن العراق الذي تُشكّل عائدات النفط أكثر من 90٪ من عائداته، سيواجه "ضغوطًا اقتصادية هائلة"، وفقًا لما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية.
والعراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك، وينتج عادة نحو 3.5 مليون برميل يوميًا. واعتُمدت مسوّدة موازنة 2020 على سعر متوقّع قدره 56 دولارًا للبرميل.
ومع انخفاض الأسعار، سينخفض صافي دخل العراق بنسبة 65٪ عام 2020 مقارنةً بالعام الماضي، ما يكبّدها عجزًا شهريًا قدره 4 مليارات دولار فقط، لدفع الرواتب والحفاظ على استمرار عمل الحكومة.
في السياق ذاته، قال بيرول: "في الأزمة الحالية، ستكافح عائدات النفط العراقي لتخطّي حاجز 2.5 مليار دولار شهريًا" مناشدًا المسؤولين العراقيين إيجاد "حلول عاجلة".
واستند هذا التوقّع أيضًا إلى سعر 30 دولارًا للبرميل قبل الانخفاض الأخير، ما يجعل التوقّعات قابلة للمراجعة.
وقال مسؤولون كبار لوكالة فرانس برس: إن وزارتي المالية والنفط والبنك المركزي العراقي والمصارف المملوكة للدولة تبحث سبل خفض التكاليف والعثور على تمويل.
وبالرغم من التوقّعات القاتمة، قال محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق لوكالة فرانس برس: "هناك بعض القلق، لكنه ليس حادًّا.. لن تبقى أسعار النفط عند هذا المستوى. لا نتوقّع أن ترتفع كثيرًا ، لكنها ستكفي لتأمين المبلغ المطلوب".
وقال العلاق: إن المسؤولين ما زالوا يراجعون -عن كثب- مسوّدة ميزانية 2020 ، وهي واحدة من أكبر ميزانيات العراق على الإطلاق، وتبلغ نحو 164 تريليون دينار عراقي، أو نحو 137 مليار دولار، خُصِّصَ أكثر من 75٪ منها للمرتّبات والتكاليف الجارية الأخرى، مع إنفاق الباقي على الاستثمارات.
وقفزت الرواتب من 36 مليار دولار عام 2019، إلى 47 مليار دولار لعام 2020، بعد تعيين 500 ألف موظّف جديد لإخماد أشهر من الاحتجاجات والمسيرات المناهضة للحكومة.
توظّف الحكومة نحو أربعة ملايين عراقي، وتدفع معاشات لثلاثة ملايين، فضلًا عن أنها توفّر الرعاية الاجتماعية لمليون آخرين.
وقال العلاق: "بناءً على مؤشّراتنا الأولية، سنتمكّن من تغطية الديون الخارجية والرواتب"، مع تقليص الإعانات والخدمات التي لم تكن "فاعلة اقتصاديًا".
لكن قطع أي مزايا وإعانات في وقت الانكماش الاقتصادي العالمي يمكن أن يعيد المزيد من الناس إلى الشوارع.
خيارات أخرى
وعن الخيارات الأخرى لمواجهة التدهور الاقتصادي الحالي بسبب النفط، قال العلاق: إنها تشمل استعادة "تريليونات" الدنانير من الحسابات في المصارف المملوكة للدولة، حيث قامت الوزارات بتخزين فائض الأموال لسنوات، وكذلك إصدار سندات للجمهور، وإعادة جدولة مدفوعات الديون الداخلية.
وصرّح لوكالة فرانس برس، بأن محادثات جديدة تجري مع صندوق النقد الدولي، لكن بميزانية غير مسبوقة، ودون حكومة جديدة، قد لا تسفر هذه المحادثات عن نتائج إيجابية مرضية.
ولا تخطّط الحكومة لخفض قيمة العملة، أو الحصول على قروض خارجية جديدة، أو وقف المدفوعات لشركات النفط العالمية، والتي تبلغ قيمتها حوالي مليار دولار شهريًا.
ومع كلّ هذه الضغوط يبدو العلاق متفائلًا بأن الضغوط قد تدفع الحكومة إلى إدخال إصلاحات مالية طال انتظارها.
وفي هذا السياق قال: "الضربة التي لا تقتلك، تجعلك أقوى".
دفن الرؤوس في الرمال
وعلى النقيض تمامًا، لا يشارك بعض المسؤولين العلاق التفاؤل. فقد وصف أحد كبار المستشارين العراقيين الوضع بأنه "أزمة خطيرة".
وقال آخر: إنه سيكون من المستحيل تقليص الميزانية في بلد صنّفته منظّمة الشفافية الدولية في المرتبة السادسة عشرة بقائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم.
وقال المستشار الذي لم تكشف فرانس برس عن اسمه: "بعض الوزراء يعارضون التخفيضات، لأنها ستخترق شبكات المحسوبية الخاصّة بهم".
وفي هذا الإطار، لفت المسؤول إلى أن الحكومة تفترض أن أسعار النفط ستعود إلى طبيعتها خلال شهرين، وهو ما لا تتوقّعه وكالة الطاقة الدولية.
من جانبه، يقول أحمد الطبقچلي، الخبير في معهد الدراسات الإقليمية والدولية بالعراق: "إن دفن الرأس في الرمال ليس سياسة".
بالرغم من أن العراق واجه انخفاضات في الأسعار في عامي 2014 و 2016 ، إلّا أنه لم يشهد التراجع الكبير الحالي في الطلب العالمي، خاصة من الصين المنكوبة بالفيروس، المستورد الرئيس للنفط العراقي.
والاعتماد على المجتمع الدولي وحده ليس مجديًا، مقارنة بما كان عليه الوضع في 2014، عندما كانت القوى العالمية حريصة على مساعدة العراق في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، فلكلّ دولة حاليًا شأن يغنيها، وتحاول أن تنقذ نفسها أوّلًا من تداعيات وباء كورونا
وقد يضطرّ العراق إلى اللجوء إلى احتياطيات تبلغ قيمتها نحو 60 مليار دولار لتغطية العجز، لكن سيتعيّن عليه حتمًا تخفيض المرتّبات، وربما الاقتراض دوليًا، وفقًا لطبقجلي
حتّى لو استقرّت الأسواق في نهاية المطاف، فإن النفط العراقي سيكافح للتنافس مع وفرة المنتج السعودي.
قال الطبقچلي: "هناك تعديلات مؤلمة نحتاج إلى القيام بها الآن".
قديمًا قالوا: إن العراقيين يعيشون على بحر من الذهب الأسود (النفط)، فهل يتحوّل إلى شبح يدمّر موازنة البلاد، ويعيد العراق إلى نقطة الصفر على صعيد جهود انتشاله من كبواته الاقتصادية المتوالية، أم سينجح في اتّخاذ سياسات تضمن له الصمود في وجه العاصفة، أم ستخدمه الظروف بتعافي العالم سريعًا من آلام كورونا الاقتصادية الفتّاكة؟