
في الخريف تزهر ريحاناتي بكثافة، مما يجذب نحلات رقيقة باحثة عن طعام في غابة القاهرة الأسمنتية؛ تجبرني على تأجيل التخلص من الزهور أيامًا، حتى تحصل تلك النحلات على ما يكفيها من رحيق، أملًا في إنقاذها من تغير المناخ.
الريحان من الشجيرات التي يقتلها الإبقاء على الأزهار، إذا لم تكن زراعتها بغرض إنتاج البذور، فهي لا تختلف عن الإنسان في تأثير تعدّد مرات الإنجاب فيها، إذ يُنهكها منح الحياة لريحانات جديدة كثيرة، وهي غزيرة الزهور؛ تتمسك بالأغصان ولا تتساقط بفعل العوامل الجوية مثل الطماطم أو الفلفل، وتنتج جميعها بذورًا تقريبًا.
وتغير المناخ الناجم عن أنشطة الإنسان يُسهم في قتل عدد هائل من النحل، ما يمثّل خطرًا كبيرًا يهدّد غذاء الإنسان نفسه، ليس لأنه سيُحرم من العسل الشهي والشافي فقط، بل إن هذه الحشرة مع عدد كبير من الحشرات الطائرة والزاحفة تؤدي دورًا أساسيًا في إنتاج الغذاء، وهي تُسمى "الملقّحات".
وفي تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، خلال العام الماضي (2024)، أشارت إلى أن ثلاثة أرباع محاصيل العالم (غذائية وغير غذائية) تعتمد على الحشرات المُلقّحة.
وأضافت أنه من خلال التلقيح -وهي العملية التي تُنقل من خلالها حبوب اللقاح من المتك (الجزء المذكر) إلى الميسم (الجزء المؤنث)- تُمكّن الملقّحات من إخصاب البذور وإنتاجها، لذلك تُسهم هذه الحشرات المفيدة في ما يصل إلى 577 مليار دولار في الاقتصاد العالمي سنويًا.
وتلتصق حبوب اللقاح بأجسام الملقّحات عندما تتغذّى على الرحيق، وهو سائل سكري تنتجه النباتات المزهرة لجذب الملقّحات.
وتستفيد الزهور عندما يزورها العديد من الملقّحات، لذلك طوّرت طرقًا لجذب الطيور والنحل، إذ تعمل الألوان الزاهية والبتلات المزخرفة للزهور بوصفها إعلانًا للملقّحات يعد برحيق غني بداخلها.
تغير المناخ يؤثر في عمر الزهور
كشفت دراسة صادرة منذ 5 سنوات عن جامعة فيينا عن أن تنوّع زهور النباتات المذهل من ناحية الأشكال والأحجام والألوان المختلفة، قد نشأ من عملية التكيف مع الاختيار الذي تفرضه الملقّحات المختلفة من النحل والذباب والفراشات والطيور الطنانة والخفافيش والقوارض، لكن مع غياب الأزهار نفسها، ماذا ستفعل الملقّحات؟
ويؤثر تغير المناخ، خاصة ارتفاع الحرارة، في نمو النباتات والإزهار وعمر الأزهار نفسها، ما بات تهديدًا للملقّحات.

وعلى سبيل المثال، تكشف الأبحاث عن تراجع متسارع ومستمر لواحدة من هذه الملقّحات؛ هي الفراشات، إذ هبط عددها إلى النصف تقريبًا منذ عام 1991، فيما يواجه النحل خصوصًا انخفاضًا حادًا.
ويستهلك النحل حبوب لقاح الأزهار التي توفّر البروتينات والدهون والكربوهيدرات والمغذّيات الدقيقة، لكن تغير المناخ وسوء استعمال الأراضي والممارسات الزراعية السيئة تحدّ من وصوله إلى موارد زهرية كافية ومتنوعة.
ويُضعف نقص التغذية النحل ويجعله عرضة للإصابة بالأمراض وانهيار مستعمراته بسهولة وتفاقم خسائره.
وكشف خبراء زراعيون ومتخصصون في المناخ في اليونان خلال العام الماضي، عن أن ارتفاع الحرارة يجعل حياة الفراشات أكثر صعوبة في الدولة الأوروبية التي تُعدّ موطنًا لما يقارب من 240 نوعًا من الفراشات، وأشاروا إلى أنها أصبحت أصغر حجمًا.
ومن هؤلاء، الخبير الزراعي كونستانتينوس أناجنوستيليس، الذي قال إن تغير المناخ وارتفاع الحرارة يؤثران سلبًا في أنشطة الفراشات الأساسية مثل التزاوج والتكاثر والنمو والتغذية.
الملقّحات مهدّدة بالانقراض
أدرجت هيئة الأسماك والحياة البرية في أميركا 70 نوعًا من الملقّحات في قائمة الكائنات المُهدّدة بالانقراض أو معرّضة للخطر.
وكشفت دراسة حديثة في الولايات المتحدة عن أن واحدًا من كل 5 من الملقحات المحلية معرّض لخطر الانقراض، مشيرة إلى أن منطقة الجنوب الغربي تضم أعلى عدد من الأنواع المهدّدة بالانقراض؛ جراء الضغوط الناجمة عن تغير المناخ.
كما يُغير تغير المناخ توقيت النباتات المزهرة وتوافرها، مما يؤدي إلى عدم توافق بين الملقّحات ومصادر غذائها.

وقد وجدت دراسة نُشرت في مجلة "ساينس" أن تغير المناخ قد أدى إلى تقديم موعد إزهار النباتات عن موعد نشاط الملقّحات، ودفع بعض النباتات إلى الزحف نحو مناطق أعلى، ما أدى إلى انخفاض التلقيح.
وحكى لي شقيقي يحيى، وهو مربّي نحل في مصر، أن الزهور التي كانت تتغذّى عليها نحلاته من قبل لم تعد تعيش طويلًا، ما يقلّص فرصة الحصول على الرحيق، وضرب مثلًا بزهرة البرتقال التي كانت تستمر لمدة 7 أيام على الأقل، إذ كان عمرها يمتد إلى أكثر من 10 أيام في بعض الوقت بسبب درجة الحرارة المناسبة، لكن بسبب ارتفاع الحرارة قد يكون عمرها انخفض إلى النصف.
ووجدت دراسة أخرى نُشرت في مجلة "بيولوجيا التغير العالمي" أن تغير المناخ قد يؤدي إلى انخفاض جودة الرحيق، وهو المصدر الغذائي الرئيس للعديد من الملقّحات.
وتُبين الدراسة أنه مع ارتفاع درجات الحرارة ينخفض محتوى السكر في الرحيق، ما يجعله أقل فائدة غذائية للملقحات، وبالتالي يؤدي إلى تراجع صحة الملقّحات ونجاحها التناسلي، فضلًا عن تراجع تلقيح النباتات.
* حياة حسين- صحفية مصرية متخصصة في قضايا الاقتصاد والمناخ.
* هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- خطة تعتمد على الأشجار لمكافحة الحرارة المتزايدة في المملكة المتحدة
- لخفض الانبعاثات الكربونية.. دراسة مصرية تدمج الزراعة دون تربة في المدن الذكية
- التغيرات المناخية تهدد قطاع الزراعة في الجزائر (مقال)
اقرأ أيضًا..
- خطط الطاقة المتجددة في الشرق الأوسط.. خفض الانبعاثات ليس المحرّك الأبرز (تحليل)
- صادرات النفط العراقي في نوفمبر تنخفض 25 ألف برميل يوميًا





