المقالاترئيسيةسلايدر الرئيسيةغازمقالات الغازمقالات النفطنفط

صادرات الطاقة الروسية تناور بين الشراكات التقليدية والعقوبات (مقال)

فيلينا تشاكاروفا* – ترجمة: نوار صبح

اقرأ في هذا المقال

  • تدفقات غاز شركة غازبروم الروسية إلى أوروبا عبر تركيا قد ازدادت.
  • خط أنابيب "ترك ستريم" أصبح الشريان العامل الأخير لأنابيب الغاز الروسية إلى الاتحاد الأوروبي.
  • روسيا تُقدّم براميل بأسعار مُخفّضة ومصافي الهند تستفيد من إعادة تصدير المنتجات المُصنّعة.
  • واردات نيودلهي من النفط الخام الروسي شهدت ارتفاعًا طفيفًا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

تُناور صادرات الطاقة الروسية بين تعميق الشراكات التقليدية والتكيف مع العقوبات التي تهدف إلى تجفيف الموارد المالية للحرب في أوكرانيا.

في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، أنه على الرغم من "ضغوط العقوبات غير المسبوقة" لا تزال شراكة الطاقة بين روسيا والصين مستقرة.

خلال الأشهر الـ9 الأولى من العام، صدّرت روسيا 72 مليون طن من النفط إلى الصين -وهو رقم لم يتغير تقريبًا عن مستويات عام 2024- وارتفعت إمدادات الغاز بنسبة 31%، لتصل إلى القدرة التصميمية لخط أنابيب "باور أوف سيبيريا" البالغة 38 مليار متر مكعب.

للوهلة الأولى، يوحي هذا الاستقرار بالمرونة، وفي الخفاء، تكمن مواءمة جيوسياسية أكثر تعقيدًا بكثير، مدفوعة بالعقوبات، وتغيّر مسارات التجارة، وإعادة الحسابات الإستراتيجية في نظام الطاقة العالمي.

إلغاء شحنات النفط الروسية

تشير تقارير بلومبرغ وريستاد إنرجي إلى أن شركات التكرير الحكومية الصينية، مثل سينوبك (Sinopec) وبتروتشاينا (PetroChina)، قد ألغت شحنات النفط الروسي وسط مخاوف من عقوبات ثانوية تفرضها واشنطن.

حتى مصافي التكرير الخاصة الأصغر حجمًا -"أباريق الشاي" في مقاطعة شاندونغ- قلّصت مشترياتها بعد فرض الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عقوبات على مصفاة يولونغ، إحدى نظيراتها.

وقد أدى الانخفاض الناتج عن ذلك، الذي بلغ نحو 400 ألف برميل يوميًا، أي ما يقرب من نصف واردات الصين من الوقود من روسيا، إلى انخفاض أسعار خام إسبو.

ومن المفارقات، أن مصفاة "يولونغ" نفسها لا تزال تشتري النفط الروسي، في حين انسحب الموردون الغربيون تمامًا.

تُلخص هذه الصورة المتناقضة المرحلة الجديدة من حرب الطاقة العالمية: إذ يتعايش الآن إنفاذ العقوبات والالتفاف عليها في سلسلة توريد واحدة.

وعلى الرغم من أن البيانات الرسمية بشأن صادرات الطاقة الروسية تُظهر تدفقات ثابتة، تجري عملية إعادة هيكلة هادئة؛ عملية تُعيد تعريف جغرافية النفط وتسعيره وسياساته.

خزانات النفط في في مدينة تشيوفو الصينية
خزانات النفط في مدينة تشيوفو الصينية – الصورة من بلومبرغ

شريان الحياة الصيني واتفاقية موسكو-بكين

خلال الاجتماع الدوري الـ30 لرؤساء حكومتَي روسيا والصين في بكين، وقّع رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين ونظيره الصيني لي تشيانغ بيانًا شاملًا يشمل التعاون في مجالات الطاقة والنقل والاستثمار والإعلام.

جاء توقيت هذا الإعلان -بعد أيام قليلة من فرض عقوبات غربية جديدة- رمزيًا، إذ أظهر التزام بكين بالحفاظ على العلاقات الاقتصادية والسياسية مع موسكو، حتى في ظل الرقابة الغربية المكثفة.

وأُعيد تأكيد بناء "طريق الشرق الأقصى" وتوسيع مشروعات الغاز المسال والبتروكيماويات المشتركة.

من ناحية ثانية، لا تزال سياسة الطاقة لدى بكين قائمة على المعاملات التجارية، لكنها تُعد إستراتيجية في الوقت نفسه.

وتستفيد بكين من خصومات كبيرة -غالبًا ما تكون أقل من سعر خام برنت بـ 10-15 دولارًا- وتضمن وصولًا طويل الأمد إلى الموارد دون أي توافق صريح مع أهداف موسكو الحربية.

بالنسبة إلى روسيا، أصبحت هذه العلاقة الآن وجودية، وقد تحول محور "روسيا والصين" من شراكة مصلحة إلى تبعية هيكلية، حيث تسيطر الصين على أكبر أسواق التصدير الروسية الحيوية، والممرات اللوجستية، والبدائل التكنولوجية للأنظمة الغربية.

علاقات الطاقة المتوترة مع تركيا

تبدو دبلوماسية صادرات الطاقة الروسية أشبه برقعة شطرنج ثلاثية الأبعاد.

ومع إعلان تركيا -التي تعتمد تاريخيًا على الهيدروكربونات الروسية لما يقرب من 65% من إمداداتها من الطاقة- خططها لتنويع مصادرها، تُجري أكبر مصافيها تجارب على الواردات من العراق وقازاخستان والبرازيل، للحفاظ على إمكان تصديرها إلى أوروبا.

وأفادت وكالة رويترز بأن شركة النفط والغاز الأذربيجانية (سوكار SOCAR) اشترت نفطًا خامًا غير روسي للتسليم في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وقد تحذو شركة توبراش (Tupras) حذوها قريبًا امتثالًا للعقوبات والحفاظ على سوقها الأوروبية.

وستتسلّم تركيا 141 ألف برميل يوميًا من النفط العراقي في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بزيادة على 99 ألف برميل يوميًا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومتوسط ​​نحو 80 ألف برميل يوميًا هذا العام.

وقبل أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان النفط الروسي يُمثّل 317 ألف برميل يوميًا، أي ما يُعادل 47% من واردات تركيا من النفط.

إزاء ذلك، يُحذر الخبراء من أنه لا يوجد بديل يُضاهي حجم الإمدادات الروسية.

ويُعد تنويع مصادر الطاقة لدى أنقرة رمزيًا إلى حد كبير، إذ هو لفتة دبلوماسية لإرضاء واشنطن مع الحفاظ على المرونة.

ولا تزال الواقعية السياسية لحسابات الطاقة التركية دون تغيير؛ إذ يستمر تدفق النفط الروسي عبر وسطاء، بإعادة تعبئته أو مزجه لتجنّب تعقب العقوبات.

ومن المفارقات أن تدفقات غاز شركة غازبروم الروسية (Gazprom) إلى أوروبا عبر تركيا قد ازدادت، مما يؤكد دور أنقرة الفريد وسيطًا.

ووفقًا لبيانات منصة "إنتسوغ" ENTSOG، فقد عبر 17.403 غيغاواط/ساعة من الغاز عبر نقطة "ستراندجا 2/مالكوجلار" على الحدود التركية البلغارية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بزيادة قدرها 13% عن العام الماضي.

ونتيجة لتدمير خطوط أنابيب نورد ستريم وتوقف عبور أوكرانيا، أصبح خط أنابيب "ترك ستريم" الشريان العامل الأخير لأنابيب الغاز الروسية إلى الاتحاد الأوروبي.

ويعزّز هذا الدور المزدوج -بوصفه عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقناة الطاقة المتبقية لروسيا- مكانة تركيا بوصفها لاعبًا متأرجحًا في الجغرافيا السياسية الجديدة للطاقة: لا غنى عنها لكلا الجانبين، ومع ذلك لا يثق بها أي منهما.

تحالف أوبك+.. الغاز المسال الأميركي وساحة الطاقة العالمية

في ظل تقلبات السوق، أعلن تحالف أوبك+ توقفًا مؤقتًا لزيادة الإنتاج للربع الأول من عام 2026، بعد زيادة طفيفة في ديسمبر/كانون الأول المقبل.

وتهدف هذه الخطوة إلى منع فائض المعروض واستقرار الأسعار، التي تتراوح حول 64-65 دولارًا للبرميل لخام برنت.

وتزيد العقوبات الأميركية على شركتي روسنفط (Rosneft) ولوك أويل (Lukoil) -المسؤولتَيْن معًا عن 60% من صادرات روسيا- من تعقيد التوقعات.

وقد أدت هذه القيود إلى تقييد تدفقات صادرات الطاقة الروسية، وتباطؤ أحجام التداول، وزيادة حالة عدم اليقين بشأن الأسعار العالمية.

بدورها، سجلت صادرات الغاز المسال الأميركية رقمًا قياسيًا بلغ 10 ملايين طن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث استحوذت أوروبا على ما يقرب من 70% من الإجمالي.

ويبرز الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح الآن شبه منفصل تمامًا عن الغاز الروسي، عميلًا مهمًا لواشنطن في مجال الطاقة.

ومع اقتراب نسب التخزين من مستويات قياسية، تقترب أوروبا من فصل الشتاء بشعور من الاستقرار، ولكن بالتبعية.

إزاء ذلك، أصبحت شراكة الطاقة عبر الأطلسي، التي وُلدت من رحم الأزمة، ركيزةً أساسيةً لاقتصادات الحرب الباردة الثانية.

في غضون ذلك، تستجيب روسيا بتنويع بنيتها التحتية، من خلال توسيع خط أنابيب "طريق الشرق الأقصى"، وتطوير مشروعات الغاز والكيماويات بمشاركة صينية.

وعلى الرغم من أن هذا التوجه شرقًا يأتي بعوائد متناقصة، تتعمّق الخصومات، وترتفع تكاليف اللوجستيات، ويتقلّص النفوذ الجيوسياسي مع تحول دور موسكو من قوة عظمى في مجال الطاقة إلى مورد ثانوي ضمن تكتل "روسيا والصين".

تحالف أوبك+

معضلة تحوّل الطاقة

في منتدى أبوظبي الدولي للبترول (أديبك)، قدّم الرؤساء التنفيذيون لشركات توتال إنرجي (TotalEnergies)، وبي بي (BP)، وإيني (Eni)، لحظة إجماع نادرة: العالم لا يتجه نحو وفرة نفطية، بل نحو أزمة استثمار.

وتُؤدّي سنوات من نقص الاستثمار -تُقدّر بنحو 50% عن المستويات المطلوبة- إلى تآكل القدرة الإنتاجية الفائضة.

وعلى الرغم من أن تحالف أوبك+ يحاول ضبط الأسعار، تُحذّر شركات النفط الغربية الكبرى من أن العقوبات والتجاوزات التنظيمية قد تُؤدي إلى اختناقات في الإمدادات.

وأثار توجيه العناية الواجبة بشأن استدامة الشركات الصادر عن الاتحاد الأوروبي معارضة من كبار الموردين.

وهدّدت إكسون موبيل (ExxonMobil) وقطر للطاقة (QatarEnergy) بتقليص أنشطتهما أو الانسحاب من الأسواق الأوروبية إذا فرض التشريع الامتثال العالمي لأهداف الاتحاد الأوروبي المناخية.

وينقسم إجماع الطاقة عبر الأطلسي بين الطموحات الخضراء وضرورات أمن الطاقة في العالم الحقيقي.

في الوقت نفسه، يكشف تحوّل الصين الأخضر عن حدوده الهيكلية.

وعلى الرغم من ريادتها العالمية في تركيب محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الجديدة، تتجاوز معدلات التخفيض 5% في أكثر من 20 مقاطعة بسبب قيود الشبكة.

ويُهدر توليد الكهرباء بالطاقة المتجددة، فيما لا يزال الفحم والغاز لا غنى عنهما.

ويُبرز هذا التناقض واقعًا عالميًا، وهو أنه لا يمكن لتحول الطاقة أن يتفوق على أنظمتها.

التحدي الهندي المُدبّر

في أعقاب العقوبات الجديدة التي فرضتها واشنطن على شركتي روسنفط ولوك أويل، توقعت الولايات المتحدة أن تستجيب نيودلهي، وتُخفّض مشترياتها من الطاقة الروسية تضامنًا مع حملة الضغط الغربية، لكن الهند فعلت العكس تمامًا.

في غضون ذلك، تُضاعف الهند جهودها، وارتفعت وارداتها من النفط الروسي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 1.48 مليون برميل يوميًا، مُتحدّيةً الضغوط الأميركية.

وتعكس إستراتيجية دلهي انتهازيةً عملية؛ إذ تُقدّم روسيا براميل بأسعار مُخفّضة، وتستفيد مصافي الهند من إعادة تصدير المنتجات المُصنّعة.

إن الرسالة واضحة لا لبس فيها؛ فالهند لن تُخاطر بنموها الاقتصادي إرضاءً لأنظمة العقوبات الغربية.

وفقًا لوكالة رويترز، حصلت شركة إنديان أويل (Indian Oil Corporation) -أكبر مصفاة تكرير في البلاد- بهدوء على 5 شحنات جديدة من النفط الروسي من مُورّدين غير مُدرجين في قائمة العقوبات الأميركية، ومن المُقرر تسليمها في ديسمبر/كانون الأول المقبل.

وجاءت هذه المعاملات عقب إلغاء 7 إلى 8 شحنات مرتبطة بشركات تابعة خاضعة للعقوبات، ليس بوصفه عملًا من أعمال الخضوع، بل بصفته ممارسة لإدارة الامتثال.

وتؤكد بيانات تتبع السفن من "كبلر" و"أويل إكس" أن واردات نيودلهي من النفط الخام الروسي شهدت ارتفاعًا طفيفًا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ ارتفعت إلى نحو 1.48 مليون برميل يوميًا من 1.44 مليون برميل في سبتمبر/أيلول الماضي.

عمليًا، لا تزال الهند ثاني أكبر مشترٍ لموسكو بعد الصين، إلا أن سلوكها ينم عن حذر متزايد.

مصفاة نفط تابعة لشركة لوك أويل بمدينة نيجني نوفغورود في روسيا
مصفاة نفط تابعة لشركة لوك أويل بمدينة نيجني نوفغورود في روسيا – الصورة من بلومبرغ

تُخفي هذه الزيادة الطفيفة تحولًا هيكليًا جاريًا. بدأت شركة "بهارات بتروليوم المحدودة" "بي بي سي إل" (BPCL)، إحدى كبرى شركات التكرير في الهند، إحلال بدائل من الخليج العربي محل الشحنات الروسية.

وفي أوائل نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، اشترت شركة بهارات بتروليوم مليوني برميل من خام زاكوم العلوي من شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك)، وذلك صراحةً لاستبدال الإمدادات الروسية المتضررة من عقوبات واشنطن التي فرضتها في 22 أكتوبر/تشرين الأول الماضي على شركتي "روسنفط" و"لوك أويل".

وقد أوضح ممثل الشركة السياسة الجديدة؛ أنه لن يُقبل سوى بالنفط الروسي من جهات غير مستهدفة بالعقوبات. من جهتها، اتبعت شركة "إنديان أويل"، أكبر شركة تكرير في البلاد، هذا النهج الحذر بهدوء، إذ اشترت 3.5 مليون برميل من خام إسبو الروسي من وسطاء لم تطولهم العقوبات.

ويكشف هذا الالتزام الدقيق عن حسابات الهند المزدوجة؛ وهي حماية الوصول إلى البراميل الروسية مخفضة السعر، وحماية قطاعها المالي من العقوبات الأميركية الثانوية.

وراء الكواليس، تستعد مصافي التكرير الهندية حاليًا لانخفاض في الشحنات الروسية بدءًا من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بما يتماشى مع توقعات رويترز.

وعلى الرغم من أن روسيا لا تزال عنصرًا أساسيًا في هوامش ربح التكرير الهندية، فإن التوازن بين الطاقة رخيصة السعر والاستقلالية الإستراتيجية آخذ في التقلص.

وكان منطق الهند عمليًا لا سياسيًا، فمن خلال تعديل الموردين دون خفض إجمالي حجم الواردات، أظهرت نيودلهي ما يمكن وصفه بالمرونة الإستراتيجية؛ وهي القدرة على تكييف ممارساتها التجارية دون الرضوخ لمطالب واشنطن.

وكانت الرسالة الأساسية واضحة: ستتبع الهند القوانين لا الأوامر.

تُبرز هذه الحادثة مبدأً أساسيًا في السياسة الخارجية الهندية، وهو أمن الطاقة يتفوق على التوافق الأيديولوجي، وقد أصبح النفط الروسي رخيص السعر لا غنى عنه لاقتصاد الهند، إذ يدعم الإنتاج الزراعي والتصنيع وإدارة التضخم.

ويمكن لمصافي التكرير في البلاد معالجة خامات إسبو وأورال وسوكول الروسية بصورة مربحة حتى في ظل الظروف العالمية المتقلبة.

ومع تراوح أسعار النفط العالمية حول 64-65 دولارًا للبرميل، فإن براميل النفط الروسية مخفضة السعر -التي تُباع غالبًا بسعر أقل بـ 25 دولارًا من خام برنت- لا تزال جاذبة.

ويُجسّد الموقف الهندي من واردات النفط الروسية ما يُمكن تسميته "عدم الانحياز الجديد"، وهو مبدأ إستراتيجي قائم على المنفعة السيادية في عالم مُتشعب.

من جهتها، تستطيع الولايات المتحدة الضغط والتحذير والإشارات، لكنها لا تستطيع الإملاء، والسبب هيكلي، إذ لم تعد الهند اقتصادًا يعتمد على المساعدات أو ضعيفًا.

وتُعد الهند خامس أكبر اقتصاد في العالم، وقوة نووية، ودولة متأرجحة تقع على مفترق طرق مثلث الولايات المتحدة والصين وروسيا.

في هذا الإطار، لم يكن قرار الهند بمواصلة تجارة النفط مع روسيا عبر وسطاء غير خاضعين للعقوبات مجرد مناورة اقتصادية، بل كان بيانًا جيوسياسيًا.

وأعاد هذا القرار تأكيد مكانة الهند بوصفها قطبًا مستقلًا في النظام متعدد الأقطاب الناشئ، ومقاومًا للإكراه من أي كتلة منفردة.

وكشفت حملة الضغط التي تشنها واشنطن عن حدودها؛ فالعقوبات، التي تُطبق على الدول الأصغر أو الحلفاء المعاونين بإحكام، تفقد فاعليتها عند تطبيقها على اقتصادات قارية مثل اقتصاد الهند. وحسبما قال مسؤول هندي سرًا: "سنلتزم بالشرعية، لا بالمحاضرات".

المعادلة المثلثية.. موسكو ونيودلهي وواشنطن

من وجهة نظر روسيا، تُعدّ مشتريات الهند المستمرة بمثابة شريان حياة؛ ماليًا ورمزيًا.

وتُثبت قدرة موسكو في الحفاظ على صادرات الطاقة الروسية إلى آسيا -في ظل العقوبات- صحة روايتها عن المرونة، وتُحافظ على تدفق حيوي للعملات الأجنبية.

ويُساعد كل برميل تشتريه الهند في تعويض الخسائر الناجمة عن انكماش الأسواق الأوروبية.

حتى مع العقوبات التي تُقيّد شركتي روسنفط ولوك أويل، فإن شبكة روسيا الواسعة من التجار والشركات التابعة تضمن أن يجد نفطها مشترين.

وبالنسبة إلى نيودلهي، يُعدّ هذا الترتيب اقتصاديًا وإستراتيجيًا، فالوصول إلى النفط الروسي رخيص الثمن يُعزز أمنها الطاقي، ويحمي اقتصادها من صدمات الأسعار العالمية.

بالإضافة إلى ذلك، من خلال الحفاظ على انخراط موسكو، تحافظ الهند على حاجز جيوسياسي قيّم، يمنع روسيا من الانجراف كليًا نحو فلك الصين.

وبالنسبة إلى واشنطن، تُمثّل هذه النتيجة تذكيرًا مُقلقًا بتآكل النفوذ الغربي القسري.

وتواجه "مطرقة العقوبات"، التي كانت تُشكّل السلوك العالمي في السابق، مقاومةً من فولاذ متعدد الأقطاب. ويكشف امتثال الهند دون استسلام عن هشاشة الهيمنة الأميركية في عصر تستطيع فيه القوى المتوسطة تنويع شركائها وعملاتها وطرقها اللوجستية.

سراب الاقتصاد الروسي

وسط استقرار إحصاءات التصدير، يُعاني الاقتصاد الروسي من تناقض داخلي.

فقد أصبحت القوة المصطنعة للروبل الروسي -المدعومة بضوابط العملة وتفويضات التصدير- عبئًا على النمو، مع انهيار إيرادات التصدير وارتفاع الإنفاق المحلي.

ولا تزال صادرات الطاقة الروسية تُمثل 70% من مُضاعِف الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، وفقًا لتحليل اقتصادي مستقل.

في عام 2024، بلغت إيرادات النفط والغاز نحو 40 تريليون روبل (480 مليار دولار)، أي خُمس الناتج المحلي الإجمالي.

وفي عام 2025، مع انخفاض الأسعار وارتفاع قيمة الروبل، ستنخفض الإيرادات بنسبة 20% على الأقل، ما يُعادل خسارة تتراوح بين 6 و7 تريليونات روبل في دخل الصادرات.

*(روبل روسي = 0.012 دولارًا أميركيًا)

وبالنظر إلى نسبة اعتماد الاقتصاد على الخارج -حيث تُترجم كل تريليون روبل مفقودة إلى انخفاض في إجمالي الناتج المحلي بمقدار 3 أضعاف- كان من المفترض أن يُؤدي ذلك إلى انكماش بنسبة 10%.

رغم ذلك، تُشير الإحصاءات الرسمية إلى نمو قريب من الصفر.

ركائز الاستقرار الـ3:

أولًا، ضخ مالي ضخم، من خلال زيادة الإنفاق الحكومي بنسبة 10%، بتمويل من الديون والصناديق السيادية، لتعويض تدفقات التصدير المفقودة.

ثانيًا، إعادة استثمار الشركات، عبر إعادة استثمار الشركات الحكومية العملاقة أرباح عام 2024 (أكثر من 10 تريليونات روبل) في مشروعات ضخمة، مما يدعم الناتج الصناعي.

ثالثًا، التلاعب الإحصائي، وهو التقليل من التضخم (المُبلغ عنه بنسبة 7% مقابل تقديرات تتراوح بين 12 و14%) لإخفاء انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.

وتتمثّل النتيجة في ركود مُدار - مُستتر ولكنه تراكمي، ويتعمق وراء الدعاية الحكومية حول "المرونة" الفساد الهيكلي.

وكلما عوّضت روسيا عن فقدان إيرادات التصدير من خلال التحفيز المحلي، ازداد ضعفها المالي وتعرضها للديون في المستقبل.

وتمثّل العقوبات المفروضة على شركتي روسنفط ولوك أويل، اللتَيْن تغطيان 60% من صادرات النفط الروسية، نقلة نوعية: فهي لا تضرب الجهات الفاعلة الهامشية، بل تضرب جوهر دولة الطاقة الروسية.

من جانب آخر، فإن استجابة الكرملين -الإنفاق في الميزانية، وضوابط الروبل، وإعادة توجيه صادرات الطاقة الروسية- تؤخر الأمر الحتمي، ولكنها لا تستطيع تغييره.

ويأتي تنويع الصادرات نحو آسيا بتكلفة باهظة؛ فقد اتسعت الخصومات على خامي الأورال وإسبو لتتجاوز 25 دولارًا للبرميل، ما أدى إلى تآكل الاحتياطيات المالية.

وتزيد التكاليف اللوجستية -الطرق الأطول، والتجار الوسطاء، وأقساط التأمين- من ضغوط الهوامش.

ونتيجة لدخول حظر الاتحاد الأوروبي على المنتجات المكررة من النفط الروسي حيز التنفيذ في 1 يناير/كانون الثاني 2026، سيُغلق شريان إيرادات آخر.

وهكذا تدخل إمبراطورية الطاقة الروسية مرحلة من الانكماش الهيكلي يخفيها التكيف التكتيكي.

ولا تزال روسيا موردًا رئيسًا، لكن قدرتها على التسعير، ووصولها إلى الأسواق، وتدفقات العملات الأجنبية، في حالة تراجع حاد.

وتمتد العواقب إلى ما هو أبعد من الاقتصاد؛ فهي تعيد تشكيل نفوذ روسيا العالمي، بعد أن كانت الطاقة تمول سياستها الخارجية في الماضي؛ أما الآن، فقد أصبحت السياسة الخارجية وسيلة لتأمين مشتري الطاقة.

ويعكس هذا الخلل المحلي مفارقة جديدة للقوة الروسية: فاعل جيوسياسي يبدو قويًا في الخارج، ولكنه ضعيف في الداخل.

ويخفي التحدي الإستراتيجي الذي تبديه موسكو هشاشة اقتصادية متزايدة العمق، وهي الحالة التي تجعل دبلوماسية الطاقة لديها تزيد من اعتمادها على المشترين مثل الهند والصين.

الدروس الإستراتيجية

الهند أعادت تعريف الامتثال

يؤكد تنويع نيودلهي الحذر واقعًا عالميًا جديدًا، وهو أن الاستقلالية الإستراتيجية لها حدود عندما يتقاطع التعرض المالي مع العقوبات.

وستواصل الهند استغلال الخصومات الروسية، لكن التحول التدريجي لمصافيها نحو موردي الخليج يشير إلى تقارب طويل الأمد مع نظام الطاقة الأميركي والخليجي، وليس مع موسكو.

وبمواصلتها شراء النفط الروسي من جهات غير خاضعة للعقوبات، أرست الهند سابقة عالمية جديدة: الامتثال لا يعني بالضرورة الاستسلام.

وسيُلهم هذا النموذج من الالتزام الانتقائي الاقتصادات الناشئة الأخرى على الموازنة بين الشرعية والسيادة.

ترسانة العقوبات الأميركية تفقد قوتها الرادعة

يُشير عدم القدرة على إكراه الهند -إلى جانب تحايل الصين وتركيا- إلى نقطة تحول.

ولا يزال نظام العقوبات مُزعزعًا، لكنه لم يعد حاسمًا، وتعتمد فاعليته الآن على التوافق الطوعي، وليس الخوف من العقاب.

دولة الطاقة الروسية في حالة تدهور

تُؤجِّلُ مناورات الكرملين المالية التدهورَ النظامي، لكنها لا تستطيع منعه.

وأصبح نموذج الدولة النفطية -الذي كان يومًا ما أساسًا لسلطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- غيرَ قابلٍ للاستدامة.

تجدر الإشارة إلى أن العقوبات لا تُؤدي إلى الانهيار، بل إلى اختناق تدريجي، مُحوِّلةً المرونة إلى تبعية، والاستقلالية إلى وهم، ورغم استمرار صادرات الطاقة الروسية، تتضاءل الربحية والنفوذ.

ويُحافظ تحوّل موسكو نحو آسيا على الاستقرار على المدى القصير، لكنه يُقوِّض نفوذها على المدى الطويل، مُقيِّدًا إياها بصورة أوثق بتفضيلات السوق الصينية والهندية.

السعي وراء المصالح

في جميع أنحاء منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، تتلاقى الدول حول روح مشتركة: السعي وراء المصلحة الذاتية، وتنويع التبعيات، ورفض التبعية الأيديولوجية.

وسيُحدِّد هذا التعدد المرحلةَ التالية من الجغرافيا السياسية العالمية.

تركيا صمام أمان أمام العقوبات

يُعد الدور المزدوج لأنقرة -سياسيًا في حلف الناتو، واقتصاديًا مرتبطًا بروسيا- ويمنحها نفوذًا رغم أنه عرضة للضعف.

ونتيجة لتحول خط أنابيب "ترك ستريم" إلى الممر الوحيد للغاز الروسي إلى أوروبا، تُخاطر تركيا بأن تصبح نقطة اختناق جيوسياسية، تتودد إليها كل من واشنطن وموسكو، لكنها مُقيدة من كل منهما.

نقطة انطلاق خط أنابيب الغاز الطبيعي (نورد ستريم 2) بمدينة أوست-لوغا في روسيا
نقطة انطلاق خط أنابيب الغاز الطبيعي (نورد ستريم 2) بمدينة أوست-لوغا في روسيا – الصورة من بلومبرغ

الصين شريان حياة الطاقة لروسيا

يعزّز موقع بكين بوصفه شريان حياة الطاقة لروسيا الترابط غير المتكافئ لـ"الدب والتنين".

وتُملي الصين الشروط والأسعار واستثمارات البنية التحتية، ما يُحوّل روسيا فعليًا إلى دولة طاقة تابعة ضمن النظام الأوراسي.

الجغرافيا السياسية للطاقة

تُشير إعادة تشكيل تدفقات النفط العالمية إلى ترسيخ الجغرافيا السياسية للطاقة القائمة على التكتلات.

  • تهيمن الولايات المتحدة على إمدادات الغاز المسال والنفط إلى أوروبا.
  • تمتص الصين فائض روسيا.
  • تُحكم الهند وتركيا بين التكتلات.
  • الاتحاد الأوروبي عالق بين طموحاته المناخية وانعدام أمنه في مجال الطاقة.

تدفقات الطاقة

أصبحت تدفقات الطاقة صناديق اقتراع للتوافق، وتمثّل مشتريات الهند، وإعادة توجيه تركيا، وعقود الصين، أصواتًا في استفتاء صامت على النظام العالمي.

والنتيجة واضحة، وهي أن سيادة الطاقة تحل محل انضباط التحالفات، بوصفها مبدأ تنظيميًا للسياسة العالمية.

في هذا الإطار، أصبحت الطاقة -التي كانت في يوم من الأيام عاملًا لتعزيز العولمة- سببًا لكبحها.

من جهة ثانية، فإن كل خط أنابيب وناقلة نفط يحملان الآن الوقود، ويجسدان التوافق والإكراه والعواقب.

ختامًا، فإن قصة بيع روسيا وشراء الهند ليست مجرد هيدروكربونات، بل هي مثال على نظام القرن الـ21. ويُعد عصر فرض سياسة القطب الواحد آخذًا في التلاشي؛ فالمستقبل للدول القادرة على أداء دورَيْن في النفوذ، ولا تعتمد على الأيديولوجية، وإنما على المصالح الإستراتيجية.

الفئة البيانات التوصيف
تجارة النفط بين روسيا والصين 525.6 مليون برميل (يناير - سبتمبر 2025) استقرار صادرات النفط إلى الصين على أساس سنوي رغم العقوبات.
تجارة الغاز بين روسيا والصين زيادة بنسبة 31% (يناير-سبتمبر 2025) - خط أنابيب "باور أوف سيبيريا" تصل قدرته لـ38 مليار متر مكعب.

- خط أنابيب "الطريق الشرقي الأقصى" قيد الإنشاء.

واردات الهند من النفط الروسي 1.48 مليون برميل يوميًا (أكتوبر 2025) ارتفعت إلى 1.44 مليون برميل يوميًا في سبتمبر على الرغم من الضغوط الأميركية.
مشتريات "بهارات بتروليوم" مليونا برميل من خام زاكوم العلوي اشتُريت من "أدنوك" لتحل محل الشحنات الروسية بموجب العقوبات الأميركية.
مشتريات "إنديان أويل" 3.5 مليون برميل من خام إسبو اشتُريت من كيانات روسية غير خاضعة للعقوبات للتسليم في ديسمبر.
تنويع مصادر النفط في تركيا 141 ألف برميل نفط عراقي يوميًا (نوفمبر) - التحول من 99 ألف برميل يوميًا في أكتوبر.

- إحلال الخام العراقي والقازاخستاني والبرازيلي محل الروسي.

تصدير النفط الروسي إلى تركيا 317 ألف برميل يوميًا (قبل العقوبات) 47 % من إجمالي واردات تركيا قبل العقوبات الأميركية على "روسنفط" و"لوك أويل".
"غازبروم" عبر خط "ترك ستريم" 33 مليار متر مكعب (أكتوبر 2025) - رقم قياسي مطلق ارتفعت إمدادات الغاز عبر تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة تزيد على 8.7% على أساس شهري، وتزيد على 13% على أساس سنوي.
تعديل إنتاج أوبك+ أكثر من 137 ألف برميل يوميًا (ديسمبر 2025) التحالف يزيد الإنتاج في ديسمبر، لكنه يتوقف مؤقتًا خلال الفترة من يناير إلى مارس 2026.
صادرات الغاز المسال الأميركية 10.1 مليون طن (أكتوبر 2025) صادرات قياسية بلغت 69% إلى أوروبا.
اعتماد روسيا على الصادرات 70 % تقريبًا من مضاعف الناتج المحلي الإجمالي تشكّل عائدات النفط والغاز نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 40 تريليون روبل في عام 2024، بانخفاض بنحو 20% في عام 2025.
التوسع المالي الروسي زائد 10% من إنفاق الموازنة ضُخت 4 تريليونات روبل لتعويض خسارة إيرادات التصدير، ومُوّلت من خلال الديون والصناديق السيادية.
تعديل التضخم الرسمي: 7% | التقدير: 12-14% التناقض يُخفي انكماش الناتج المحلي الإجمالي، والاقتصاد الحقيقي في حالة ركود.
صادرات المنتجات الروسية مليونا برميل يوميًا (سبتمبر 2025) أدنى مستوى في أكثر من 5 سنوات؛ متأثرًا بهجمات الطائرات المسيرة والعقوبات.
واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز المسال 6.9 مليون طن من الولايات المتحدة (أكتوبر 2025) - 69 % من الغاز المسال الأميركي ذهب إلى الاتحاد الأوروبي.

- التخزين يقترب من مستويات قياسية.

توازن النفط بين الهند وروسيا حجز 5 شحنات جديدة (ديسمبر 2025) "إنديان أويل" تواصل استيراد المواد الروسية عبر موردين غير خاضعين للعقوبات.
اعتماد تركيا على مصادر توريد الطاقة بنسبة 65% على النفط والغاز الروسيين رغم التنوع ما يزال الاعتماد الهيكلي قائمًا.

فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.

*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق