باور أوف سيبيريا 2.. استكمال مشروع أنبوب الغاز يمهد لتوازنات جيوسياسية (مقال)
فيلينا تشاكاروفا* – ترجمة: نوار صبح

- خط أنابيب الغاز "باور أوف سيبيريا 2" يمثل إنجازًا هندسيًا ومحورًا جيوسياسيًا.
- موسكو تحتاج إلى مشترٍ بديل ضخم لتحقيق الربح من احتياطياتها من الغاز السيبيري.
- الطلب الصيني على الغاز الطبيعي يستمر في النمو لكن مساره غير مؤكد.
- الاعتماد المفرط على الصين يُعرّض موسكو لضغوط الأسعار والنفوذ الجيوسياسي.
من المرتقب أن يمهّد استكمال مشروع خط أنابيب الغاز باور أوف سيبيريا 2 لتوازنات جيوسياسية مهمة في أسواق الطاقة.
وبعد ما يقرب من 3 عقود من المفاوضات المتقطعة، وقّعت روسيا والصين ومنغوليا مذكرة تفاهم ملزمة قانونًا للمضي قدمًا في أحد أكثر مشروعات البنية التحتية للطاقة طموحًا في التاريخ الحديث: باور أوف سيبيريا 2.
وفي حال اكتمال المشروع بحسب ما هو مخطط له، سيمتد خط الأنابيب لمسافة تقارب 2600 كيلومتر، ناقلًا ما يصل إلى 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا من حقول يامال الروسية عبر منغوليا إلى شمال الصين.
ويُمثل هذا الخط، الذي غالبًا ما تصفه شركة غازبروم الروسية (Gazprom) بأنه "أكبر مشروع وأكثرها كثافة تمويل في صناعة الغاز العالمية"، إنجازًا هندسيًا، ومحورًا جيوسياسيًا.
نقل الغاز الروسي إلى الصين عبر منغوليا
تبادلت شركة غازبروم، الحكومية الروسية الرائدة في مجال الطاقة، وشركة البترول الوطنية الصينية "سي إن بي سي" (CNPC) وثائق بحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الصيني شي جين بينغ، وسلّط الرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ، الضوء على دور بلاده في مجال النقل.
وتتزامن هذه الصفقة مع اتفاقية لزيادة القدرة الاستيعابية السنوية لخط أنابيب "باور أوف سيبيريا 1" الحالي من 38 مليار متر مكعب إلى 44 مليار متر مكعب.
وسيؤدي هذا إلى رفع إجمالي حجم صادرات روسيا عبر خطوط الأنابيب إلى الصين إلى أكثر من 106 مليارات متر مكعب سنويًا عند تشغيل جميع الخطوط الجديدة في أوائل ثلاثينيات القرن الحالي.
وللمقارنة، بلغت صادرات روسيا السنوية عبر خطوط الأنابيب إلى الاتحاد الأوروبي ذروتها عند نحو 180 مليار متر مكعب قبل عام 2022، وهي سوق انهارت منذ ذلك الحين تحت وطأة العقوبات والتخريب والانقسام الجيوسياسي.

طريق طويل نحو الاتفاق
تعود فكرة تصدير غاز سيبيريا إلى الصين إلى أواخر تسعينيات القرن الماضي.
ووقّعت موسكو وبكين أول مذكرة تفاهم بينهما عام 1997 بشأن خط أنابيب بطول 3 آلاف كيلومتر من حقل كوفيكتينسكوي إلى شنغهاي، رغم أن الخلافات المالية والعقبات التقنية وتقلبات الأجواء السياسية حالت دون التنفيذ.
في عام 2006، أثار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مجددًا احتمال إنشاء خطي أنابيب توأمين إلى الصين؛ أحدهما من غرب سيبيريا عبر مدينة ألتاي المنغولية إلى منطقة شينجيانغ الصينية، والآخر من شرق سيبيريا إلى شمال شرق الصين.
وتجسّد الطريق الشرقي في النهاية كخط أنابيب "باور أوف سيبيريا 1"، الذي أُطلق عام 2019، ويزوّده حقلا تشاياندينسكوي في ياقوتيا وكوفيكينسكوي في إيركوتسك.
وبحلول نهاية عام 2024، بلغ الخط قدرته التعاقدية البالغة 38 مليار متر مكعب سنويًا.
أما الطريق الغربي، الذي عُرف في البداية باسم مشروع ألتاي؛ فقد تعثر مرارًا وتكرارًا.
وفي الوقت نفسه، أثار المسار المقترح عبر هضبة أوكوك المحمية من قِبل منظمة اليونسكو مخاوف بيئية، في حين عاقت تجاوزات التكاليف وتشكك الصين في الطلب طويل الأجل التقدم.
في عام 2019، اتجهت موسكو نحو ممر منغولي -مشروع سويوز-فوستوك- الذي يُعد أقل تكلفة وأكثر أمانًا من الناحية الجيولوجية وأكثر جدوى من الناحية السياسية.
منذ ذلك الحين، رسّخت منغوليا مكانتها جهةً ميسّرةً موثوقة، ساعيةً إلى التغويز المحلي، ورسوم العبور، وتطوير البنية التحتية.
محطات مختارة بارزة في الجدول الزمني للمشروع:
- 1997: أول مذكرة تفاهم بين روسيا والصين بشأن خط أنابيب طويل متجه شرقًا (كوفيكتا ← شنغهاي).
- 2006: بوتين يحدد مسارات مزدوجة غربية/شرقية؛ ألتاي (غرب) وشرق سيبيريا.
- 2014-2019: عقد خط الأنابيب "باور أوف سيبيريا 1" والتشغيل؛ تبدأ عمليات التسليم في عام 2019.
- 2019-2021: أعمال دراسة الجدوى والتصميم لخط منغوليا (سويوز-فوستوك).
- 2024-2025: الموافقة على توسعة خط الأنابيب "باور أوف سيبيريا 1" (38-44 مليار متر مكعب)؛ توقيع مذكرة تفاهم ملزمة لخط الأنابيب "باور أوف سيبيريا 2"
- 2030-2032 (مؤشر): نافذة تشغيل خط الأنابيب "باور أوف سيبيريا 2"، رهنًا بموافقة الاستثمار النهائي/التمويل.
الاعتبارات الاقتصادية: منفعة متبادلة وغير متكافئة
أكد الرئيس بوتين في إعلانه يوم 3 سبتمبر/أيلول الجاري أنه "لا توجد صدقة هنا.. هذه اتفاقيات منفعة متبادلة تُطبق وفقًا لمبادئ السوق"، ورغم ذلك، فإن الجدوى الاقتصاد غير متكافئة.
• بالنسبة لروسيا، يُعد مشروع "باور أوف سيبيريا 2" شريان حياة، وبسبب عزلتها عن سوقها الأوروبية التقليدية، تحتاج موسكو إلى مشترٍ بديل ضخم لتحقيق الربح من احتياطياتها من الغاز السيبيري.
ولكن دون مبيعات أوروبا ذات هامش الربح المرتفع، يصبح تمويل مثل هذه المشروعات الضخمة أكثر صعوبة.
وتتراوح التكلفة التقديرية لمشروع "باور أوف سيبيريا 2" بين 13 و15 مليار دولار، وهذا لا يشمل إعادة هيكلة الاستكشاف والإنتاج والبنية التحتية لإعادة توجيه إنتاج يامال شرقًا.
بدورها، كانت شركة غازبروم في السابق تمول التوسع من الإيرادات الأوروبية؛ أما اليوم فقد تتطلب دعمًا حكوميًا أو حوافز ضريبية أو تمويلًا صينيًا لدفع عجلة البناء.
• بالنسبة للصين، يوفر المشروع إمدادًا بريًا آمنًا من الغاز بتكاليف نقل أقل من واردات الغاز المسال.

واستغلت بكين باستمرار هيمنتها للضغط من أجل الحصول على خصومات، بل أصرت أحيانًا على أن يكون الغاز الروسي عند مستويات الأسعار المحلية الروسية أو قريبًا منها.
وقد قاومت شركة البترول الوطنية الصينية "سي إن بي سي" التزامات التمويل المشترك، مفضلةً إملاء شروط عقود الاستلام أو الدفع، وصيغ الأسعار، والوصول إلى التكنولوجيا.
وبالنسبة للصين، تعزز الصفقة تنويع الإمدادات على المدى الطويل، لكن بكين لا تملك أي حافز لدفع مبالغ زائدة لشريك يتزايد احتياجه للوصول إلى الأسواق.
• بالنسبة لمنغوليا، يَعد خط أنابيب سويوز-فوستوك (الذي يمتد نحو 960 كيلومترًا عبر أراضيها) بإيرادات نقل ثابتة، وبنية تحتية جديدة، ووظائف، وأمن طاقة أكبر.
وبالنسبة لدولة غير ساحلية عالقة بين عملاقين، يعزز المشروع الأهمية الجيوسياسية والفرص الاقتصادية.
رغم ذلك، فإن منغوليا تُعد شريكًا صغيرًا؛ فهي لا تستطيع تحديد شروط التسعير أو الكميات.
مسارات السوق: الطلب والعرض والمنافسة
يستمر الطلب الصيني على الغاز الطبيعي في النمو، لكن مساره غير مؤكد.
بعد ارتفاعه الحاد في العقد الثاني من القرن الـ21 من المتوقع أن يتباطأ الاستهلاك بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الـ21 مع نضج الاقتصاد، وتوسع مصادر الطاقة المتجددة، وتحسّن الكفاءة.
بحلول ذلك الوقت، ستحتاج بكين إلى تعويض تراجع الإنتاج المحلي وتراجع واردات خطوط الأنابيب من آسيا الوسطى.
وقد يسد مشروع "باور أوف سيبيريا 2" هذه الفجوة، لكنه يُخاطر بأن يصبح "مشروعًا بلا فائدة" إذا بلغ الطلب ذروته قبل الموعد المتوقع.
من جهتها، عززت روسيا صادراتها إلى الصين، وفي عام 2024، سلمت شركة غازبروم 31 مليار متر مكعب عبر مشروع "باور أوف سيبيريا 1"، متجاوزةً بذلك التزاماتها السنوية.
وبين يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب 2025 وحدهما، ارتفعت الصادرات بنسبة 28% على أساس سنوي لتصل إلى 26 مليار متر مكعب.
ووفقًا لبيانات الجمارك الصينية، بلغت قيمة واردات الغاز الروسي عبر الأنابيب 5.7 مليار دولار أميركي في الأشهر الـ7 الأولى من عام 2025، بزيادة قدرها 21% عن عام 2024، في حين بلغت قيمة واردات عام 2024 بأكمله 21.1 مليار دولار أميركي.
وفي المقابل، تُعد هذه الأرقام ضئيلة مقارنةً بإيرادات روسيا الأوروبية السابقة.
قبل الحرب في أوكرانيا، كانت مبيعات الغاز الأوروبية تُحقق أكثر من 100 مليار يورو (116.88 مليار دولار) سنويًا؛ أما اليوم، فتدفع الصين مبلغًا أقل بكثير لكل وحدة، ما يحد من هوامش ربح موسكو.
العمل غير المكتمل: التسعير والتمويل
على الرغم من التوقيع الاحتفالي للصفقة، فلا تزال التفاصيل الجوهرية غامضة:
• صيغة سعر الغاز: تطلب الصين غازًا منخفض التكلفة مرتبطًا بالأسعار المحلية أو صيغًا مرتبطة بالنفط تُفضّل المشترين.
وتُصرّ روسيا على تكافؤ الصادرات مع بدائل الغاز المسال، وستُحدّد الصيغة النهائية ربحية غازبروم.
• التمويل وتوزيع المخاطر: هل ستشارك شركة البترول الوطنية الصينية "سي إن بي سي" في تمويل البناء، أم ستتحمل غازبروم والدولة الروسية العبء؟
دون رأس المال الصيني، قد تُواجه موسكو صعوبة في تمويل إعادة هيكلة نظام نقل الغاز لديها لإعادة توجيه إنتاج يامال شرقًا.
• بنود الاستلام أو الدفع: تُبدي بكين حذرًا من تحديد حد أدنى مُلزم للكميات، في حين تحتاج موسكو إلى تدفق نقدي مضمون.
ولا تزال المفاوضات بشأن هذه الآليات التعاقدية تُشكّل القضية الأكثر إثارة للجدل.
• الجدول الزمني: على الرغم من أن المسؤولون يُشيرون إلى أن البناء قد يبدأ قريبًا وينتهي بحلول عامي 2030 و2032، فالخبراء يُحذّرون من التأخير.
وقد تؤدي القاعدة المالية المحدودة لروسيا، والعقوبات المفروضة على المعدات والتكنولوجيا، والمراجعات البيئية في منغوليا إلى تعقيد عملية التسليم.

السياق التاريخي والرمزية
تزامن الإعلان عن المشروع مع الذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية في آسيا؛ حيث أقيم عرض عسكري في بكين حضره الرئيسان بوتين وشي.
واعتبر الزعيمان خط الأنابيب جزءًا من صراعهما الحضاري الأوسع ضد الهيمنة الغربية.
وتؤكد هذه الرمزية أن البنية التحتية تعد مسألة تجارية، وهي مسرحية سياسية تجمع موسكو وبكين في سردية مشتركة للصمود في وجه الضغوط الخارجية.
العولمة الجديدة القائمة على التكتلات
"باور أوف سيبيريا 2" ليس مجرد مشروع طاقة، بل هو رمز للعولمة الجديدة القائمة على التكتلات.
وتُحكم هذه العولمة قبضتها على روسيا في فلك الصين، وتُعزز دور الصين بصفتها جهةً مُحددة لأسعار الغاز في منطقة أوراسيا.
أما بالنسبة لمنغوليا؛ فهي تُدمجها في الممر الاقتصادي الصيني-الروسي-المنغولي؛ ما يمنحها نفوذًا جديدًا في منطقة غالبًا ما تُخيم عليها سياسات القوى العظمى.
من ناحية ثانية، فإن المخاطر كثيرة؛ فإن من شأن الاعتماد المفرط على الصين أن يُعرّض موسكو لضغوط الأسعار والنفوذ الجيوسياسي.
وفي حال أبطأت بكين الطلب أو استوردت الغاز المُسال من قطر أو أستراليا أو الولايات المتحدة، فقد تتعطل البنية التحتية لدى شركة غازبروم.
بالنسبة لبكين، فإن الاعتماد المفرط على مورد واحد يحمل في طياته نقاط ضعف إستراتيجية، حتى لو خففت من حدتها محفظة الصين المُتنوعة من الغاز المُسال.
الرهانات الإستراتيجية
- روسيا: تحول هيكلي من الاتحاد الأوروبي إلى الصين، وانكشاف طويل الأجل على مُشترٍ واحد وضغط على هامش الربح.
- الصين: تأمين الغاز البري بشروط مواتية، وتوسيع القدرة التسعيرية في مواجهة روسيا.
- منغوليا: رسوم العبور، البنية التحتية، التغويز؛ أهمية جيوسياسية متزايدة.
- مخاطر السوق: تباطؤ نمو الطلب على الغاز في الصين في ثلاثينيات القرن الـ21؛ خطر فائض القدرة الإنتاجية/نقص الاستعمال.
- توازن النظام: يُرجح أن يتراوح عامل التحميل بين 75% و80% عبر طرق التصدير، وذلك حسب أنماط الطلب الموسمية.
الاعتبارات الجيوسياسية لمشروع "باور أوف سيبيريا 2"
يُمثل مشروع "باور أوف سيبيريا 2" نموذجًا مصغرًا للنظام الجيوسياسي المتغير اليوم.
وبالنسبة لروسيا، يُشير هذا المشروع إلى تحول لا رجعة فيه بعيدًا عن أوروبا نحو الاعتماد على الصين، وهي علاقة تُقلص استقلالية موسكو.
أما بالنسبة للصين، يُمثل هذا المشروع ضربة قاضية في دبلوماسية الطاقة: تأمين الإمدادات، وخفض التكاليف، وزيادة النفوذ على جار خاضع للعقوبات.
وبالنسبة لمنغوليا، يُمثل هذا المشروع فرصةً نادرةً لاكتساب أهمية وإيرادات وثقل إقليمي.
إلى جانب الاعتبارات الاقتصادية المباشرة، يُجسّد المشروع مواءمة إستراتيجية لمنطقة أوراسيا، حيث تُؤمّن البنية التحتية الجغرافيا السياسية، وتُصبح خطوط الأنابيب أدواتٍ للحكم بقدر ما تُصبح قنواتٍ لنقل الغاز.
وفي ظلّ الحرب الباردة الناشئة، لا يُركّز مشروع "باور أوف سيبيريا 2" على جزيئات الميثان بقدر ما يُركّز على توازنات القوة.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
- صفقة باور أوف سيبيريا 2 تهدد مستقبل علاقات الطاقة بين روسيا والصين (مقال)
- نوفاك: توقيع عقود خط أنابيب باور أوف سيبيريا 2 قريبًا
- خط أنابيب باور أوف سيبيريا 2.. هل تنهار "صفقة القرن" بسبب الصين؟
اقرأ أيضًا..
- إمدادات إضافية من النفط الروسي إلى الصين
- هل تتحول الصين إلى منفذ لشحنات مشروع أركتيك2 الروسي للغاز المسال؟
- هل تستطيع أستراليا الاستغناء عن وقود الديزل في القطاعات الصناعية؟ (تقرير)