تحقيق أهداف الطاقة وخفض الانبعاثات يعطّل حياة الملايين في الصين
الحكومة تقيّد استهلاك الكهرباء بمقاطعة تشجيانغ
محمد زقدان
يقول الصينيون إن الزعيم ماو تسي تونغ (مؤسس الصين الشيوعية) حرر شعبهم من قمع الغرب، فيما كرس الرئيس الحالي شي جين بينغ نفسه لمنح الصين الجديدة صوتاً أقوى على الساحة العالمية.
لكن ثمة أمر مشترك آخر بين الزعيم والرئيس يتمثل في تحقيق الأهداف على حساب حياة ملايين الصينين، وخير مثال على ذلك: القيود الحالية التي تفرضها حكومة الحزب الشيوعي الحاكم لتحقيق أهداف الطاقة فيما يتعلق بخفض استهلاكها وتقليل الانبعاثات الكربونية.
وخلال فترة حكمه التي استمرت أكثر من ربع قرن، تسبب ماو في وفاة أكثر من 50 مليون شخص، قضى كثير منهم إما بسبب المجاعة أو عن طريق الإعدامات، أو بسبب التعب الشديد داخل مراكز العمل القسري.
وعلى الرغم من تبجيل الحزب الشيوعي لمؤسس الصين الحمراء، لكن كثيراً من المفكرين وآخرين في الصين يكرهون تسي تونغ؛ لأنهم يعدونه مسؤولاً بشكل شخصي عن الثورة المضطربة التي استمرت عقداً وعن سياسات اقتصادية تسببت في مجاعة وقتلت ملايين.
خفض الانبعاثات بإجراءات قسرية
في 22 سبتمبر/أيلول 2020، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ في الجمعية العامّة للأمم المتحدة، أن الصين تسعى إلى بلوغ ذروة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، قبل عام 2030، والوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2060.
وفى غضون ذلك يتسابق المسؤولون في مقاطعة تشجيانغ (شرقي الصين)، لتحقيق أهداف الطاقة المتعلقة بالاستهلاك والتي حددتها الحكومة المركزية ضمن بنود الخطة الخمسية الـ 13 للبلاد، والتي تنتهي في 31 ديسمبر/كانون الأول.
وفى وقت سابق من هذا الشهر، صدرت تعليمات من السلطات المحلية للشركات بإيقاف استخدام المصاعد تحت الطابق الثالث، وتشغيل التدفئة -فقط- عندما تنخفض درجات الحرارة بالخارج إلى أقل من 3 درجات مئوية، وذلك لتحقيق أهداف الطاقة.
وفى هذا الإطار، قال الأمين العام للجنة الوطنية للتنمية والإصلاح (جهاز التخطيط الاقتصادي في الصين) تشاو تشن شين، إن بعض المناطق في مقاطعة تشجيانغ اعتمدت إجراءات لتقييد استخدام الكهرباء لتوفير الطاقة وتقليل الانبعاثات.
وعطلت مساعي الحكومة لخفض استهلاك الطاقة وتقليل الانبعاثات حياة ملايين من سكان مدينة ييوو التي تعرف باسم "مدينة عيد الميلاد"، وغيرها من المدن الأخرى.
وطيلة أشهر، ظلت المدينة تنتج الزخارف والزينة المعلقة الآن على أشجار الكريسماس حول العالم، لكن الإنتاج توقف -تقريباً- منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول الجاري؛ بسبب أوامر السلطات المحلية بمقاطعة تشجيانغ لخفض الاستهلاك.
كما تم إيقاف التدفئة في المكاتب ومراكز التسوق والمدارس والمستشفيات، على الرغم من أن درجات الحرارة خلال النهار بلغت حوالي 10 درجات مئوية.
حتى مصابيح إنارة الشوارع تم إطفائها، تاركة السائقين والمشاة يتعثرون في الظلام، وعلى نفس المنوال تم تقييد استخدام التدفئة في مدينة ونتشو القريبة، التي يقطنها أكثر من 9 ملايين شخص، وفقا لشبكة سي إن إن الأميركية.
ونقلت الشبكة عن، ما هيرو، الذي يعمل في مصنع لإنتاج الزخارف والزينة الورقية لأعياد الميلاد قوله: "إن مصنعه يكافح لتلبية الطلب؛ لأن السلطات تسمح بالعمل لنصف يوم فقط".
وقال ماهيرو: "لدينا الكثير من الطلبيات، ولكن ليس لدينا الوقت الكافي لإنتاجها؛ بسبب القيود المفروضة على استهلاك الكهرباء".
ووفق سي إن إن، فإن الخفض المفاجئ في استهلاك الكهرباء في مقاطعة تشجيانغ يسلّط الضوء على قوة النظام الصيني ومثالبه على حد سواء.
فبينما يمكن للحزب الشيوعي أن يقدم وعوداً طموحة لخفض انبعاثات الكربون، فإن تحقيق الأهداف بفرض إجراءات قسرية يأتي على حساب الأشخاص الذين يفترض أن يستفيدوا منها في النهاية.
تهديد السلامة العامة
سلّطت وسائل التواصل الاجتماعي في الصين الضوء لأول مرة على تقييد السلطات لاستخدام الطاقة الأسبوع الماضي، عندما تم تداول صور ومقاطع فيديو للشوارع المظلمة.
وعلى منصة ويبو الصينية التي تشبه توتير، اشتكى سكان مدينة ييوو من قيام السلطات بإطفاء مصابيح الإنارة في الشوارع، واضطرارهم للعودة إلى منازلهم وسط فوضي مرورية عارمة.
وسرعان ما حظيت الشكاوى بتأييد وتداول واسعين، فيما اتهم البعض السلطات المحلية في المدينة بالتضحية بالسلامة العامة للسكان لتسديد خانة في التقرير السياسي للمدينة.
وفى أعقاب رد الفعل القوي على الانترنت، أعاد المسؤولون تشغيل بعض مصابيح الإنارة.
ورغم تأكيد الحكومة تشغيل الأنوار في المدينة، لكن ماتزال هناك قيود أخرى.
وقال مدير مقهى في مركز تسوق في المنطقة المركزية للمدينة، إن التدفئة تم ايقافها ما يقرب من أسبوعين، مشيراً إلى أن لوحات الإعلانات الإلكترونية والسلالم الكهربائية لا تعمل.
وقال موظف استقبال في مستشفى يبوو المركزي، إنه تم إيقاف التدفئة في المناطق العامة، واضطر البعض لارتداء طبقات ملابس إضافية بسبب غياب التدفئة، بينما اشتكى موظفون بأنه باتوا يرتجفون في مكاتبهم؛ بسبب برودة الجو في ظل غياب التدفئة، بحسب سي إن إن.
كما صدرت تعليمات من السلطات المحلية للمصانع وورش العمل في المدينة التي تضررت أعمالها من تداعيات فيروس كورونا في وقت سابق من هذا العام، بخفض الإنتاج، أو إيقافه في وقت يشهد تدفق للطلبات على المصانع.
إرث تاريخي
فى عام 2010، العام الأخير من الخطة الخمسية الحادية عشرة للصين، شهدت إجراءات تقييد لاستخدام الطاقة على نطاق أوسع بكثير مما يجري حالياً، وفي حينها قامت مقاطعة تشجيانغ وأكثر من 6 مقاطعات أخرى بتقييد استخدام الكهرباء.
وفي يوليو من العام المذكور تم تقييد -أو إيقاف- الإنتاج في المصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة، وحظر تكييف الهواء في المكاتب والمدارس.
ومنذ وصوله إلى السلطة، شن الرئيس الصيني الحالي حرباً على التلوث، وضاعف جهوده لتوجيه البلاد بعيداً عن الاعتماد على الفحم، والذي لا يزال يمثل 60% من استهلاك الصين للطاقة.
وفي الآونة الأخيرة، قدم شي جين بينغ تعهداً طموحاً بأن تحقق الصين الحياد الكربوني بحلول 2060، لكن مثل هذه الجهود حسنة النية تسببت في تكبد السكان معاناة كبيرة؛ بسبب سوء التخطيط وفرض القيود بشكل قسري.
وفي عام 2017، تسببت حملة تعديل واسعة النطاق لتحويل التدفئة الشتوية في شمال الصين من الفحم إلى الغاز الطبيعي في ارتجاف بعض السكان والقرويين في ظل درجات حرارة شديدة البرودة.
وجاء ذلك بسبب قيام المسؤولين بحظر استخدام الفحم قبل تركيب أفران الغاز بشكل صحيح، أو استقرار إمدادات الغاز.
وتعليقاً على ذلك، قال الشريك في شركة تريفيوم الاستشارية -ومقرها بكين-، تري مكافر: "هذا أمر شائع في الصين، إنه نتيجة الثقافة السياسية الموجهة لتحقيق الأهداف".
فبدون انتخابات ديمقراطية، يتم تصعيد معظم المسؤولين الصينيين السلم السياسي من خلال نظام يعتمد على تقييم الأداء، وتحقيق الإنجاز، وتلعب أهداف النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي وحماية البيئة دوراً مهماً في فرص هؤلاء المسؤولين للترقي.
وفي ظل حكم للرئيس الحالي، يتعرض المسؤولون المحليون لضغوط أكبر؛ من أجل تحقيق أهداف الحكومة المركزية في بكين، ومن ذلك -على سبيل المثال-: ما تتضمنه الخطط الخمسية للبلاد.
وفى سبتمبر/أيلول استدعت اللجنة الوطنية لإدارة الكوارث مسؤولين في منغوليا الداخلية (منطقة ذاتية الحكم) لمناقشتهم في أسباب تجاوز استهلاكهم للطاقة والحدود المحددة في الخطة الخمسية الـ 13.
وتعد الخطة الخمسية للاقتصاد الموجهة في الصين إرثاً تاريخياً يعود لحقبة ماو. وتحدد أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد للفترة المقبلة، وتغطي الخطة الـ 13 من 2016 إلى 2020.
عام صعب
وفق الخطة الخمسية الحالية، فإن تشجيانغ مطالبة بخفض كثافة استخدام الطاقة بنسبة 17% مقارنة بمستويات عام 2015.
وبحلول 2020، سمح لمقاطعة تشجيانغ باستخدام ما يعادل 23.8 مليون طن -فقط- من الفحم فوق مستويات عام 2015، لكن هناك مؤشرات أن المقاطعة استهلكت 87% من حصتها من الطاقة الإضافية خلال السنوات الثلاث الأولى من الخطة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول، أرسلت الحكومة المركزية فريقاً من المحققين إلى تشجيانغ لتقييم استخدامها للطاقة، وأصدر الفريق تعليمات إلى مسؤولي المقاطعة ببذل قصارى جهدهم لتحقيق أهدافها.
وقال المحلل مكافر: "إن مشكلة تحقيق الأهداف للمقاطعة حيث غالباً ما يكون هناك أكثر من هدف؛ ولذا فإن هناك ثمة صراع لتحقيق الأهداف".
وأضاف أن تشجيانغ -على سبيل المثال- ركز مسؤولوها المحليون على زيادة الناتج المحلي والتوظيف والايرادات الحكومية، وهو ما جاء على حساب حصتهم في استهلاك الطاقة.
وقال محللون إن عمليات الإعلاق لمواجهة جائحة كورونا ساعدت في البداية على تحقيق أهداف الانبعاثات، ولكن الاندفاع لإنعاش الاقتصاد أوقف ذلك.
وأوضح كبير مستشاري السياسة العالمية لمنظمة السلام الأخضر في شرق آسيا، لي شو، أن التعافي الاقتصادي السريع للصين من الوباء اعتمد بشكل كبير على الصناعات الثقيلة كثيفة الاستهلاك للطاقة.
وقال الباحث في مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف -مقره فنلندا- لوري ميليفيرتا، إن زيادة انتاج الصلب أسهمت في انتعاش انبعاثات الكربون في الصين بعد انخفاضها خلال إغلاق كورونا.
وبالنسبة للمصنعين في مدينة ييوو، كان هناك -أيضاً- انتعاش في الإنتاج بعد زيادة الطلبات بعد الصيف، لكن ذلك لم يدم طويلاً.
وقال "ما" -الذي يصنع زينة الأعياد ويبيعها- إنه كان عاماً صعباً -خاصةً للأعمال-؛ وذلك بسبب الوباء أولاً، ثم بسبب القيود المفروضة على استهلاك الكهرباء حالياَ.
وأضاف: "اعتدنا أن نحقق إيرادات تزيد عن 150 ألف دولار، لكن كل الاضطرابات التي جرت هذا العام وضعتنا في موقف صعب".
اقرأ أيضا
- الصين والحياد الكربوني.. مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة
- تقرير جديد يؤكد أن الصين ستصبح أكبر دولة لتكرير النفط في العالم